آه .زيا زمن .!!

آحمد صبحي منصور في الجمعة ١٥ - يونيو - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

آه يازمن

أولا

نشرت هذا المقال فى جريدة الأحرار بتاريخ 17 مايو عام 1993، إثر غصّة هزّت مشاعرى،  ولم أكن أعرف أن هناك المئات من هذه المنغّصات تنتظرنى ، ومن نفس التيار الاجرامى ، التيار الوهابى السلفى الاخوانى . نقرأ المقال ثم نعلّق عليه :

آه يا زمن ..!!

1 ـ مررت فى طريقى باحدى الكنائس وقد تجمع حولها الأطفال فى سعادة مع ذويهم وهم يحملون سعف النخيل ، وجدت فى وجوههم ملامح اولادى ؛ نفس القسمات ونفس التقاطيع ، ولا تستطيع  إن رأيت هؤلاء الأطفال فى أى مكان أن تعرف ان كانوا مسلمين أو نصارى ، هم مصريون فحسب ، ومنظر الاطفال فى هذا الاحتفال لايختلف عن منظر باقى الاطفال فى أى احتفال آخر، سواء كان عيد الفطر او عيد الشعانين او شم النسيم ، اطفال فى حالة بهجة، ومنظرهم يبعث على السعادة  لولا .. وآه من لولا هذه .. لولا أن أحاط بأولئك الاطفال فرقة من الامن المركزى تحميهم .. !!   الى هذا الحد ؟ !! .

أطفال مصريون ابرياء يحتفلون بعيدهم فى حراسة البوليس خوفا من اعتداء – مصريين آخرين عليهم ؟.

 آه يازمن !!

أى زمن هذا الذى نعيشه ؟  .

2 ـ ان الله تعالى قد بعث خاتم النبيين رحمة للعالمين : (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107) ( الأنبياء ) فهل يرضى الذى أرسله الله رحمة عن افعال اولئك الذين يرهبون الآمنين ويقتلون المسالمين ؟ بالطبع أنه سيتبرأ منهم يوم القيامة ويشهد عليهم وعلى غيرهم ممن هجر القرآن : (وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) (الفرقان )، لأنهم لو اتبعوا القرآن وآمنوا به ما وقعوا فى براثن التعصب والتطرف والارهاب وسفك الدماء ..   

ومنذ أشهر قاموا بتفجير اتوبيس يحمل مصريين من الاقباط كانوا فى رحلى دينية .!! قتلوا اخوة لهم فى الوطن دون أن يعرفوا لأحدهم إسما ، واكتفوا بالقتل على الهوية ، أى يكفى أن يكونوا أقباطا ليستحلوا دماءهم ولينهبوا ممتلكاتهم ، ثم ينسبون أنفسهم الى الإسلام العظيم ، فيضيفون الى جرائمهم اثما أعظم وأفظع حين ينسبون جرائمهم الى الإسلام ، والاسلام منهم ومن أفعالهم برىء ..

3 – إن القضية لم تعد تحتمل التأجيل والتسويف وانصاف الحلول وسياسات التوازن والحلول الوسط والتراخى وبيانات الشجب والاستنكار ومؤتمرات العناق والابتسامات العريضة . إن تلك السياسة هى التى اوصلت الوطن الى هذه الحالة ، حالة أن يقوم الامن المركزى بحراسة أطفال مصريين أمام دار عبادتهم .!! .وتتخيل نفسك أخى المسلم وأنت لا تأمن على أطفالك امام المسجد أو وهم معك فى زيارة للحسين أو السيد البدوى  أو اى مكان آخر.!. هل يطيب لك العيش فى بلد لا تأمن فيه على نفسك واولادك ؟.. وهل من العدل الذى أمر به رب العزة أن يعيش الانسان المسالم فى رعب لمجرد أن له دينا يخالف دينك ؟ .

4 ـ واذا كانت مشيئة الرحمن جل وعلا قد اقتضت أن يكون الناس مختلفين فى العقائد والدين ( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ) ( هود )، فان مشيئته جل وعلا اقتضت ايضا تأجيل الحكم بينهم الى يوم القيامة الذى هو يوم الدين ، ودعانا الى التسابق فى الخيرات وليس التعصب ، ثم سيحكم بيننا فيما نحن فيه مختلفون : (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) المائدة ). والله تعالى لم يعط أحدا من البشر ـ حتى الأنبياء ـ  سلطة الإكراه فى الدين وقال لخاتم المرسلين : (وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99)( يونس  )، بل أمر الله جلّ وعلا خاتم النبيين بأن يترك خصومه أحرارا يتمسكون بعقيدتهم وأن ينتظر الحكم الالهى عليه وعليهم يوم الدين: ( وَقُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) ( هود )، وتكرّر فى القرآن كثيرا أن الهداية للحق مسئولية فردية شخصية ، وأنّ من يهتدى فإنما يهتدى لنفسه ومن ضلّ فإنما يضلّ على نفسه ، ومنها أمره جل وعلا للنبى أن يقول هذا وأن يعلنه :(قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108)أى ليس وكيلا أو مسئولا عن أحد ، ثم أمره ربه جلّ وعلا فى الآية التالية بأن يتبع الوحى القرآنى وأن يصبر على أذى خصومه الى ان يحكم الله جلّ وعلا بينه وبينهم يوم الدين :( وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) ( يونس ) . هذا هو الحق وهذا هو الاسلام ، وهذه هى السّنة الحقيقية للرسول عليه السلام، لأنّ سنة الرسول عليه السلام كانت التطبيق العملى لاوامر القرآن. ولكن مالبث الزيف أ ن لحق بتراث المسلمين وابتدعوا نوعية من التدين فيها التعصب والتطرف والارهاب ..

5 ـ ومقولات التطرف يدافع عنها الشيوخ الذين تحتضنهم الدولة وتجعل فى أيديهم  السيطرة على الفكر الدينى والاعلام، ويأتى شاب قد قرر أن يتدين  فيقرأ و يستمع الى أجهزة الاعلام فيتحول التدين عنده الى تطرف وتعصب، ثم ينهض للجهاد فيقتل الابرياء، إذ تقرر لديه أن المجتمع كله كافر يستحق القتل .. وكالعادة تهرول اجهزة الدولة تعتقل وتعقد المؤتمرات ويصدر المشايخ بيانات تتحدث عن سماحة الاسلام وتزين صورهم وابتساماتهم صفحات الجرائد . ونظل نضحك على بعضنا وتيار التطرف والارهاب يتقدم ويتقدم وينذر بتفجير الوطن كله ، لإن سموم التطرف لاتزال كما هى فى كتب التراث تحظى بتقديس المشايخ وحماية الدولة.) ..انتهى المقال.

ثانيا :

1 ـ انتهى المقال عام 1993 الى لا شىء ، ضاع فى الهواء كغيره من صرخات فى البرية .!

بل زحفت ثقافة التطرف الوهابية السلفية الاخوانية لتؤسس للإخوان والسلفيين نفوذا شعبيا ظهر فى إختطافهم للثورة المصرية النبيلة الراهنة .

2 ـ خلال نضال استمر أكثر من 35 عاما تجرعت الكثير من الغصّات ، زادت منذ أن وصل الإخوان والسلفيون الى صدارة المشهد السياسى المصرى ، فقد إزدادت تصريحات السلفيين ضد الأقباط  فإزداد عدد المهاجرين الأقباط هروبا من مصر ..وتخيل نفسك فى مؤتمر ، وفيه أخوة لك من الأقباط وقد جاءت أنباء بسيطرة الاخوان والسلفيين على مجلسى الشعب والشورى فإذا بالمصرى القبطى يسأل رفيقه القبطى : هل معك جواز سفر كندى أو استرالى أو أمريكى ؟.!.

أذكر بكل أسى حديث سيدة قبطية صديقة لنا وقد هاجرت من أربعين عاما ، لا تزال ذكريات طفولتها فى أوائل الخمسينيات تؤرقها . كانت أسرتها تسكن فى منطقة شبرا ، وكان الإخوان  فى الليل يدقون عليهم باب شقتهم يرعبونهم  ويأمرونهم بالرحيل .! ولازمها ذلك الفزع مرتبطا باسم الاخوان ، وقد كان للإخوان نفوذ وقتها فى تحالفهم مع انقلاب يولية 52 . أتذكّر فى التسعينيات جرائم السلفيين فى شبرا وإمبابة ضد الأقباط وقت تراخى الدولة وعجزها ..

3 ـ ونأتى لسؤال هام : هل الصراع القائم الآن بين المجلس العسكرى والاخوان والذى تمخّض عن حلّ مجلس الشعب ( الاخوانى السلفى ) يعنى غروب النفوذ الاخوانى ؟ وهل وصول شفيق لرئاسة مصر هى بداية النهاية للإخوان ؟ أقول : لا . لماذا :

لأن العسكر والاخوان على ملّة واحدة هى الاستبداد ، مع أن الاستبداد العسكرى العلمانى أقلّ قسوة من الاستبداد السياسى الدينى السلفى الاخوانى . ولكن هذه العقلية الاستبدادية مهما تنافست وتعاركت فهى سرعان ما تتحالف سويا ضد دعاة الديمقراطية والتنوير ، ويسارع المستبد لوضع أسس الفرقة بين المواطنين وضرب بعضهم ببعض ليستمر جاثما فوق صدورهم . وشهدنا طرفا من هذا فى استغلال ( أمن الدولة ) فى عهد مبارك للتعصب السلفى فى تدمير الكنائس وحرقها ، وتهيئة المناخ للإيقاع بالأقباط ، واستمرار الشحن الطائفى حتى يهرع الأقباط الى مبارك يطلبون الحماية ، فيتخذ من ذلك ورقة يستفيد بها داخليا و ( أمريكيا ) . وشهدنا تحالف المجلس العسكرى مع الاخوان . هو صراع ولكن يسمح بالتعاون على الإثم والعدوان والظلم والارهاب ، وهو صراع ولكن قد يتم من خلاله عقد الصفقات ضد الثوار والأحرار .

ثم ـ وهذا هو الأهم ـ نحن لا نتحدث عن الاخوان والسلفيين كجماعات وتنظيمات وأحزاب ، فهذا كله هو الجزء الطافى من جبل الجليد الثلجى . الخطورة هى فى تمكّن ثقافة الوهابية خلال أربعين عاما فى وجدان الأغلبية المصرية المسلمة الصامتة والناطقة، الساكتة والمتحركة . الأخطر هو  تسلل هذه الثقافة الى أجهزة الدولة المصرية الأمنية والعسكرية ، خصوصا من هم فى منتصف العمر منهم ، وهى المرحلة العمرية النشطة . ففى الأعماق تجد فيهم تكفير الأخر المختلف فى الدين كالأقباط والبهائيين وتكفير المخالف للوهابية السّنية فى المذهب كالشيعة ، وتجد النظرة الدونية للأقليات الدينية والمذهبية ، وإنكار حقوقهم فى المساواة. هذا هو الخطر الحقيقى . وهذا الخطر الحقيقى هو الذى ننبّه عليه ونواجهه من 35 عاما ، ولا زلنا ( نصرخ فى البرية ) بلا فائدة ، كأننا نؤذّن فى خرابة .

فهل نظل نؤذّن فى خرابة الى أن تصبح مصر ( أم الدنيا ) خرابة ؟

اجمالي القراءات 14962