كلمات في رحيل بابا المسلمين!

محمد عبد المجيد في الثلاثاء ٢٠ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

المسؤولية أمانة قبل أن تكون تكليفاً، فإذا كان التكليف دينياً فإن الواجب نحو اصحاب الأديان الأخرى هو الأمانة التي لا يستطيع أن ينهض بها إلا رهط قليل من القادة الروحيين!

من يزعم أن القداسة تجعل صاحبها معصوماً من الخطأ فقد أساء لصاحبها ولعقيدته، ومن يؤمن بأننا كلنا خطاءون، فقد وضع البشر كلهم في الدائرة الإنسانية التي خلقهم الله داخل محيطها.

ومع ذلك فبعض الرجال يحتلون في التاريخ مساحة أكبر، واهتمامات أوسع عندما يجوس المؤرخون في صفحات التاريخ للمتابعة والكتابة والبحث والتنقيب عن الشواهد والقرائن والحوادث والعبر.

البابا شنودة الثالث شاهد على قرن مضى وبدايات قرن لا يزال يخط ربيعه في عقده الثاني، ولا يختلف قبطيان في مصر والمهجر على أن الراحل الكبير كان الأب الروحي والمرشد والقائد والمعلم والرمز لهم جميعاً، ولكن ماذا عن المسلمين؟

هنا يحتاج الأمر إلى وقفة، فالعدالة المطلقة نحو الآخر لم يعرفها الإنسان في أي عصر، وهناك جانب خفي في النفس البشرية يستبدل فيه العقل بالحقيقة علامات استفهام، فإذا فتح كوة صغيرة لشائعات تتناثر هنا وهناك فالنظرة المحايدة تصبح قصيرة أو منحازة إلى فرقتها أو مذهبها أو عقيدتها أو قومها أو مذهبها أو طائفتها.

شريط طويل يمر بذهني عن البابا شنودة الثالث، رحمه الله، وفي الشريط مشاهد ايجابية مشرقة بطول رئاسته للكنيسة، ومشاهد سلبية لا تخلو منها حياة رجل تمرعليه الحوادث الجسام كما تمر الشهب والنيازك فتكاد تلامس هدفها، ثم تختفي.

أما المشاهد السلبية فتقفز إلى ذهني منها ثلاثة:

الأول عندما قام بتأييد جمال مبارك، الارهابي الابن وريث الارهابي الأب، ليحكم مصر ويذيق أهلها ما عجز عنه والده .. السادي والمجرم واللص.

والثاني عندما لم يوعز للأقباط ومحبيه ومريديه ومطيعيه أن يخرجوا جميعا، بملايينهم، ليشدوا أزر شباب الثورة بعدما قرر الاخوان المسلمون والسلفيون والعسكر والفلول تحطيم الثورة، ولو خرج الأقباط آنئذ دون رفع أي شعارات دينية فربما كان لصوص الثورة وجدوا ممرات آمنة للهروب والاختباء والاختفاء.

والثالث عندما خــُيــّر البابا، رحمه الله، بين النص والواقع، بين حــَرفية التفسير وآلام الملايين من الزوجات المعذبات في عش الزوجية وقد ضاق عليهن من زوج قاس أو بخيل أو مهين لكرامتهن أو غير لصالح للرباط المقدس، فاختار الراحل الكبير النص رغم توسلات ودموع زوجات رأين أن عــِلــّة الزنا التي توجب السماح بالطلاق كانت هي الأخف والأبسط، وأيضا الأكثر تعقيدا في الأدلة والاثباتات.

مشاهد من تاريخ طويل وحافل باشراقات من الصعب حصرها في هذه العجالة عن عزاء لنا جميعاً، مسلمين قبل الأقباط، رغم كلمات التعجب والاستنكار والغلو التي تكاد تخترق أذني ممن وضعوا آصابعهم في آذانهم لئلا يعرفوا حقيقة ما قام به البابا شنودة من أجل مسلمي وطنه.

كان باستطاعته أن يضغط بالقوى البشرية والمالية والاستعانة بمن يزعمون أنهم حماة الصليب في الغرب القوي وفي الوطن الثاني لأقباط المهجر .. الولايات المتحدة الأمريكية، لكن البابا كان أكبر من مهووسي الحروب، وأعلى من دعاة التفرقة، وأعقل من كل المتطرفين المسلمين والأقباط الذين تنازعوا بغباء عن ملكية قطعة أرض وهبها الله لنا بالتساوي، فظن كل منا أنه الأحق بالنصيب الأكبر.

كان باستطاعته، رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، أن يأمر عدة ملايين قبطي للخروج والعصيان وعدم العودة حتى تتحقق مطالبهم المشروعة، لكنه آثر السلام، ورفض تمزيق الوطن، وكان الأقباط يصرخون من الظلم الواقع عليهم في الزاوية ونجح حمادي وماسبيرو والكشح، والطاغية مبارك منحاز لأبناء دينه رغم كراهيته للمصريين جميعاً.

كان حلقة الوصل بين عدالة السماء وحكمة دعاة السلام، فأضحى غضبه الشديد عزلة في دير متأملا أحوال الوطن وأحزانه، ويرسل إشارات مليئة بالاسف، ولم يحدث مرة واحدة أن وضع بين ثناياها تهديدات مبطنة أو إنتقام مؤجل، فالرجل كان ثاقب النظر، ويعرف أن فتنة طائفية لا تبقي ولا تذر، وستترك مصر كأن طوفانا عصف بها وتركها قاعا صفصفاً.

كان البابا شنودة قوياً ويبدو من تواضعه كأنه متدثر بالضعف، لكن الحقيقة أن الوطن ككتلة واحدة ملأ عليه كيانه، فرفض كل صور استعراض القوة، حتى المناصب الكبيرة والتي هي من حق المسلم والقبطي على حد سواء، فتجنب البابا الاشارة الصريحة أو الخفية لقوة أبنائه .. أقباط مصر، فحرمتهم السلطة الظالمة من مناصب كثيرة أصبحت حكراً على شركائهم المسلمين.

سقطت على مكتبه، رحمة الله تعالى عليه، مئات الفتاوى الفجة والمتطرفة والمتشددة والحمقاء عن المواطنة الثانية، وعن أهل الذمة وضرورة دفع الجزية، وعن عدم رد السلام عليهم أو تهنئتهم بأعيادهم، وكان أكبر منهم جميعاً، فجيوش الكراهية الذين ينتشرون في المواقع والصحف والمناصب ووسائل الإعلام ومن على منابر المساجد لم يستطيعوا أن يهزوا إيمانه بمصر .. وطن أبنائه المسلمين وشركائهم الأقباط.

تعرض، رحمه الله، لضغوطات شديدة لا يتحملها بشر من متطرفي أقباط المهجر، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، وما أسهل أن يرفع البابا قبضته إشارة إلى الموافقة على تدويل حقائق مخلوطة بأوهام، وكان عشرات الآلاف من أقباط المهجر رهن إشارته لصناعة اللوبي في أروقة صانعي القرار الأمريكي، وأمام كاميرات الغرب والعالم الجديد، لكن البابا كان أرحم على مصر من مسلميها وأقباطها، فلم يندفع خطوة واحدة لمعرفته أن الوطن هو الخاسر، وأن تحقيق العدالة بواسطة القوة والجيوش والاحتلال للمساواة بين شركاء الوطن المسلمين والأقباط كان هو الطريق المختصر لاندلاع فتنة طائفية كتوطئة لحرب أهلية تتحول فيها مياه النيل إلى اللون الأحمر.

كلما خرج منتصرا من حروب الكراهية الفضائية والشائعاتية، كالمختطفات من بيوتهن، والأسلحة في الكنائس والأديرة، ألقوا أمامه بقنبلة طائفية جديدة لا تنفجر بفضل الله، فحكمة البابا كانت تطفيء نار البغضاء قبل أن تأتي على وادي النيل كله.

كأن كاره الأقباط الأول، الطاغية المخلوع، كان سيسمح للذين ظلمهم أن يكدسوا أسلحة في أماكن العبادة، وأن يستعينوا بها عندما لا تتحمل ظهورهم لسعات سوط عدو المصريين .. حسني مبارك.

البابا شنودة الثالث أطفأ حرائق لا حصر لها، وتعذب وهو يسمع المتشددين يصفون الأقباط بالجبن، وبأنهم حملوا على أكتافهم السلبية مع الصليب، ولو كانت حسنته الوحيدة أنه أنقذ مصر من فتنة كانت لو اشتعلت ستنهي العصر المصري إلى الأبد ، فإن الواجب يقتضي أن يشكر المسلمون رب العالمين أنه أرسل لأرض الكنانة من يستبدل بالكراهية محبة لأكثر من أربعين عاماً دون كلل أو ملل، فالله محبة!

البابا شنودة الثالث لم يكن المرشد الروحي للأقباط فقط فهو مــِلــْكٌ لنا، نحن المسلمين، بنفس القدر مع شركاء الوطن، وربما لنا فيه أكثر مما للأقباط.

استمعت للخبر الحزين، وجلست على سجادة الصلاة بعد العشاء، وقرأت الفاتحة على روحه الطاهرة، ودعوت الله تعالى أن يدخله فسيح جناته مع الصديقين والشهداء ومن أتى الله بقلب سليم.

سيغضب من عزائي هذا كثيرون ممن يرضعون الكراهية وهم أطفال، ثم يهضمونها وهم شباب، فتسد منافذ التسامح والرحمة والحب والتعاطف والأخـُوّة وهم كبار.

لو سابق العقلُ مشاعرَ الغضب، واستعان بالتأمل والأمانة والشرف والحقيقة فسيعثر بكل سهولة ويسر على مئات الأسباب التي تجعل المصريين يبتهلون إلى العزيز التواب أن يرحم الراحل الكبير، ويغفر له، ويدخله جنة الخلد، فقد تمكن من إطفاء نار الكراهية في وطن كان يمكن أن يتحول إلى رماد بعود ثقاب واحد أو دعوة يتيمة من البابا لملايين الأقباط ومناصريهم وزاعمي حمل الصليب في الدول الكبرى، لكن الوطن كان داخله، ولم يكن غريباً أن يطلب من الأقباط عدم زيارة القدس الشريف في حماية الجيش الإسرائيلي، فكنيسة القيامة والمسجد الأقصى في حالة حب أبدي، مـَرَّ عليه البابا، وباركه، وانصرف.

أيها المسلمون في كل أرجاء مصر،

قدّموا العزاء لأنفسكم قبل أن تقدّموه لأحبابنا .. شركاء الوطن، فقد كان رحمة الله عليه، بابا المسلمين أيضا.

محمد عبد المجيد

طائر الشمال

أوسلو في 18 مارس 2012

 

اجمالي القراءات 10331