مسألة بُق!

ابراهيم عيسى في الثلاثاء ٠٦ - مارس - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

أكثر من مرة رجعت إلى هذه الخطبة، أقرأ نصها، وأتخيل جمال عبد الناصر وهو يقف على منصته يخاطب الناس بها، فيلهب حماسهم ويوقظ كبرياءهم، وأتأمل فأدرك مع حبى الحقيقى لجمال عبد الناصر أنه قد زرع فى العقل المصرى أن المسألة مسألة بق، طبعا أنا واثق ألفا فى المئة بأن عبد الناصر اجتهد وحاول ونفذ وطبق ونجح نجاحا عظيما فى أشياء، وفشل فشلا مدويا فى أشياء أخرى، لكنه أثبت لنا أن الكبرياء بلا ديمقراطية، لا يقل سوءا عن استبداد بلا كبرياء! قال عبد الناصر فى خطبة عيد النصر 23 ديسمبر عام 1964ردا على تهديد الرئيس الأمريكى جونسون بوقف المعونة الاقتصادية (خلى بالك، وقف المعونة، أى أن عبد الناصر كان يتلقى معونة أمريكية، ثم إنه كان يتلقى تهديدا بوقفها!)، اسمع ما قاله نصا: «دى سياستنا، سياسة مستقلة، واحنا بنقول إن إحنا أمّا بنتعامل مع دول العالم بنتعامل معاها على أساس إن ماحدش يتدخل فى شؤوننا، ولكن إذا كانوا الأمريكان بيفهموا إنهم بيدونا شوية معونة علشان ييجوا يتحكموا فينا ويتحكموا فى سياستنا، أنا باقول لهم إحنا متأسفين، إحنا مستعدين ننزل الشاى شوية، بنقلل من استهلاكنا فى البن، وبنقلل من استهلاكنا فى بعض حاجات ونحافظ على استقلالنا، ليه أنا باقول إحنا بناخد من الأمريكان قمح، لازم نعرف المواضيع بالمفتوح، قمح، ولحمة، وفراخ، مابناخدش مصانع، والله أبدا، يعنى ما بيدوناش مصانع، (كأن القمح واللحمة والفراخ حاجة قليلة يا سيادة الرئيس!) بيدونا بحوالى 50 مليون جنيه فى السنة (تأمّل رقم المعونة أيام عبد الناصر ثم شوف عبد الناصر وهو يقارنها بميزانية مصر وقتها)».

ويضيف: «إحنا ميزانيتنا فى السنة 1100 مليون جنيه، (لاحظ إن وقتها كان كيلو اللحمة بأربعين قرشا، ومرتب خريج الجامعة 17 جنيها) بنصرف على الخطة حوالى 400 مليون جنيه أو 500 مليون جنيه، إذا دعا الأمر إن إحنا نوفر الـ50 مليون جنيه بنوفرها على الجزمة، ولا بتهمنا والله العظيم (ياه حكاية الجزمة دى قديمة قوى، إنها لهجة فيها استخفاف وسخرية وفيها قسوة وترفع على أمريكا التى تريد كسر إرادة مصر لكن يا حبذا لو كانت الجزمة تخيف أمريكا فعلا!)». ويكمل عبد الناصر: «ليه أنا باقول هذا الكلام؟ أنا باقول هذا الكلام النهارده بمناسبة إن إمبارح السفير الأمريكى قابل نائب رئيس الوزارة للتموين، وراح عنده مقموص وزعلان وقعد عنده دقيقتين، وكان مفروض حيكلمه على التموين -المواد التموينية اللى إحنا بنجيبها من أمريكا حسب قانون الحاصلات- وقال له والله أنا ماباقدرش أتكلم أبدا دلوقت فى هذا الموضوع.. ليه؟ لأن سلوكنا، يعنى -إحنا- هنا فى مصر، مش عاجبهم، أنا باقول له هنا اللى سلوكنا مش عاجبه يشرب.. يشرب منين؟ (وترد الجماهير: من البحر)، يشرب من البحر وإن ماكفهوش.. وقلت هنا اللى مايكفيهوش البحر الأبيض بنديله البحر الأحمر يشربه كمان»، (على ما أعتقد أن مصر بعدها شربت من البحر الميت للأسف رغم هذه الثقة الرائعة التى تحدث بها عبد الناصر يومها).

يواصل عبد الناصر: «اللى أنا بدى أقوله إن إحنا لا يمكن نبيع استقلالنا علشان 30 مليون جنيه ولّا 40 مليون ولّا 50 مليون جنيه، إحنا مش مستعدين نقبل من واحد أى كلمة، اللى بيكلمنا أى كلمة بنقطع له لسانه، (بعد الجزمة جاء قطع اللسان! والخبر السيئ أننا لم نقطع لسان أحد بل طلّعوا لنا لسانهم) كده كلام واضح وكلام صريح، إذا كنا النهارده بنشرب شاى 7 أيام نشرب 5 أيام لغاية ما نبنى بلدنا، إذا كنا بنشرب قهوة 7 أيام نشرب 4 أيام، إذا كنا بناكل لحمة 4 أيام ناكل لحمة 3 أيام، اللى أنا بدى أقوله إن طبعا مناسبة هذا الكلام فى الوقت اللى بيقولوا إن إحنا عندنا أزمة تموين وعندنا كذا وعندنا كذا إن دل على شىء فيدل على أنها طريقة من طرق الضغط، إحنا متأسفين مابنقبلش الضغط، ومابنقبلش الكلام السخيف، ومابنقبلش الرذالة أبدا، واحنا ناس خُلقِنا ضيق، خِلقِتنا كده وطبيعتنا كده، إذن المعونة الأمريكية زى ما قال السفير إمبارح إنهم مش مستعدين يتكلموا، بنقول لهم والله متشكرين وكتّر خيركم، لكن إحنا مش مستعدين نقبل كلام ولا نقبل أنزحة (على اعتبار أن أمريكا هى التى ستقبل الأنزحة)، إحنا بنقدر نوفر الـ50 مليون جنيه، وبنقدر يكون عندنا كفاية ذاتية، والشعب المصرى يستطيع أن يصبر ويكافح».

انتهت الخطبة، وأظن أنه انتهى الدرس، فرغم أن عبد الناصر كان زعيما عظيما وقائدا جماهيريا معشوقا من الناس ووطنيا مخلصا، فإن هذه الطريقة فى التعامل مع العالم المحيط بنا ومع دولة بحجم وخطورة أمريكا، طريقة فاشلة وخايبة، وهى تأتى من عبد الناصر، فما بالك وهى تأتى من مسؤولين فى منتهى الخيابة، ومن قيادات تقودنا منذ ثلاثين عاما نحو التبعية، ومن سياسيين هواة لم يحترفوا إلا الفشل!

اجمالي القراءات 11551