قل سيروا في الأرض فأنظروا
الصـــحـــرا البــــيــضــــا

محمد عبدالرحمن محمد في الثلاثاء ٢٨ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

    يقول تعالى :

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }العنكبوت20

 ومن هدي وأمر الآية الكريمة .. نسافر عبر الزمان والمكان..

 الزمان 26 فبراير .. والمكان الصحرا البيضا.. ماذا ترى فيها؟   

الصحراء البيضاء :هى محمية طبيعية من محميات  مصر .. القابعة في قلبها وهى جزء من زمام واحة الفرافرة.. أحد مجموعات واحات محافظة الوادي الجديد أكبر مساحة محافظة بالجمهورية من حيث المساحة الجغرافية.. حيث تبلغ  مساحة هذه المحافظة بمجموعات واحاتها الثلاث مع منطقة  شرق العوينات الشاسعة المترامية الأطراف نحو 46% من مساحة الجمهورية التي تبلغ مليون كيلو متر مربع .. وبهذا تكون مساحة الوادي الجديد بسهولها ووديانها وجبالها وجارتها وهضابها تبلغ نحو 460 ألف كيلو متر مربع.. وهى جزء أصيل من الصحراء الكبرى الإفريقية..!!

 الوادي الجديد هو الاسم الذي أطلقه عصر جمال عبدالناصر على هذه المحافظة بعد انقلاب يوليو 1952 الذي قام به قواد الجيش المصري من الضباط الشبان ..ضد النظام الملكي المصري وقتها  و كانت  هذه المحافظة تسمى في الماضي .. محافظة الصحراء الغربية.. وكانت تابعة لمديرية أسيوط إقليمياً وإدارياً.

  لا يعرف الكثير من ملايين المصريين عن هذه الصحراء شيئاً وهى بكل المقاييس البشرية  ضرب من الخيال والإعجاز الخلقي لله تعالى رب العالمين.. يأتي صفوة السياح المتأملين من جميع أنحاء الكرة الأرضية للتمتع والــتأمل .. في هذا السحر القائم في سهول هذه الصحراء البيضاء..

سبب التسمية بهذا الاسم!! هو إسم أطلقه المصريون عليها منذ الزمن البعيد .. بعد الغزو العربي لها.. وذلك  لأن أرضية تربتها بيضاء أو يغلب عليها اللون الأبيض الناصع  الذي هو المكون الأساسي للتكوينات الصخرية.. المعجزة في خلقها والتي اتقتنت إتقانٌ من رب العالمين..  والتي صنعها الله تعالى وقال عن كل مخلوقاته  ومنها الجبال والصحاري  في كتابه الكريم:

{وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ }النمل88

المكون الأساس للتربة والجبال وتشكيلاتها الصخرية.. في الــ        WHITE DISERT  هو الحجر الجيري الأبيض الناصع .. أو الاسم الكيميائي العلمي له. كربونات الكالسيوم.. Calcium Carbonate  ..

  بداية الرحـــلة:تبدأ الرحلة في السابعة صباحاً فتأتي السيارة الجيب المعدة للسير في الصحاري.. لتمر على مقر إقامتي . .. وركبنا السيارة ..

مشينا على الطريق الممهد ستون كيلو متر قبل أن نتوغل في أرجاء المحمية .. وجدنا لافتات في بداية المحمية.. تؤكد الالتزام بالمسارات المحددة .. حتى لا يضل رواد المحمية طريقهم..!!

السفر عبر الصحاري .. البكر يبعث في النفس الرهبة والرجاء..

الرهبة من أن تحدث مفاجآت غير متوقعة.. أو تنقلب السيارة في أي لحظة .. أثناء مرورها بين الكثبان الرملية أو صعودها مرتفع أو هضبة أو نزولها ..!!

 ومما يزيد صعوبة المسير والرحلة.. أن هذه السيارات مستعملة ومن طراز قديم وإن كانت من النوع المعد لتلك الرحلات من السفر .. فمن المحتمل أن تتعطل السيارة في أي لحظة..

 من الصعوبات أيضاًً عدد الركاب الزائد عن الحد.. وذلك للمصريين البسطاء على وجه الخصوص .. فكلما زاد عدد ركاب الحافلة قلت تكلفة الرحلة بالنسبة للفرد.. مما يلفت النظر.. أن أجرة السيارة كان قد حددها السائق وقال ستمائة جنيه لليوم ..

رفض منظم الرحلة ذلك وكان شاباً موظفا بمركز الشباب الرياضي بتلك القرية..

 وقال للسائق.. نحن مصريين مثلك.. وأنت تعرف ظروفنا.. وأن كل الشباب الذين يقومون بالرحلة من البسطاء.. فلابد من تخفيض أجرة السيارة .

 وبالفعل تم تخفيض الأجرة من ستمائة جنيه إلى مأتين من الجنيهات.. في اليوم من الساعة السابعة صباحاً إلى السادسة مساءاً.. يعني إحدى عشر ساعة..من القيادة والتجول في المحمية مقابل هذا المبلغ.. وذلك ما يعادل إثنين وثلاثين دولاراً أمريكياً  في هذه المدة.. لمدة عمل للسائق ومركبته أكثر من أحد عشرة ساعة في هذه الرحلة..

وهو يعمل دليلا  لنا وسائقاً  لسيارته في تلك المحمية.. من الطريف أن السيارة تستهلك وقود الديزل أو السولار .. نحو أربعين لتراً على الأقل ,, في تلك الرحلة وسعر الديزيل يكلف خمسة وأربعون جنيهاً .

. ويكون بذلك صافي الأجر للسائق الدليل وسيارته.. مآئة وخمسون جنيها..!!  هكذا يحول المصري تلكفة رحلة  بآلاف الجنيهات ..  إلى جنيهات معدود..لاتزيد عن العشرون  جنيهاً!! وهو ما يوازي ثلاثة دولارات..!

   التعلبة.. هذا هو الإسم الذي أطلقه السائق على عربته الجيب ذات الطراز القديم.. وكانت تحمل أكثر من خمسة عشرا شاباً من أعمار مختلفة..

انطلقنا داخل الصحراء والتعلبة تنطلق على الرمال بخفة ورشاقة متهادية تارة ومتمايلة تارة أخرى تصعد تلالا وتهبط جارات اخرى.. تميل إلى اليمين  مرات وإلى اليسارة مرات أخر وتميل قلوبنا معها من الخفقان والاضطراب .. السير على الطرق الممهدة شئ والسير في  وعورة المحمية شئ آخر تماماً..

أما عن السائق .فهو مدرس وقد اشترى هذه السيارة المستعملة  وزاول هذه المهنة الخطرة حتى يزيد من دخله فمرتبه لايزيد عن خمسمآئة جنيه شهريا وهو مرتب لايكفي حتى للخبز والجبن..!

 أغلب المدرسين لايعطون دروساً خصوصية ويلجأون لمثل هذه المهن الخطرة في أيام الآجازات كالجُمَعِ وكذلك السُبُوتِ، والذي اختارالسائق منها يوم السبت ليكون يوم الرحلة التي نحن بصددها ،  فهو يوم أجازته من عمله الحكومي.  ويعمل بالقيادة ودليل في المحمية لزيادة دخله، ولكي يعول أسرته. بالحلال..

 وصلنا .. أول محطة في الرحلة..  كانت هى ..

عين خضرا

عين خضرا .

ليست هى العين الخضراء التي يشتهر بها الأوربيين أو الأمريكيين.. وإنما  هى عين مياة طبيعية .. متدفقة على استحياء... في قلب المحمية  منذ زمن بعيد يقال أنها من العصر الروماني.. غار ماؤها .. وبقى استمرارها..  فنمت حولها شجرات النخيل في صورة عجيبة.. فلا أحد يعتني به ولكنه ينمو عاما بعد عام .. وجريد النخيل القديم يجف وهو على جسم النخيل .. عاما بعد عام  ولكنك ترى الجريد الأخضر داخل الجريد اليابس بعد إمعان النظر..

 تشابكت شجرات النخيل بكثافة وجريدها الجاف مع الأخضر حتى حجبت ضوء الشمس تماماًً وصنعت كهفاً متعدد  الغرف من ظل النخيل.. الذي يأوي إليه المسافرين في جميع فصول السنة.. فتقيهم حر الصيف الهجير ورياح الشتاء الزمهرير.. وسبحان من صنع وأبدع.. سبحان الله العلي القدير..

 في عين خضرا.. تتلاقى جميع أصناف البشر في وئام وسلام الكل يحترم ويهاب قسوة الصحراء.. وينتفع بظل النخيل الظليل.. يلتمس قدرا من الراحة لمواصلة المسير..

 هناك من يستظل ويتأمل فيما حوله من مكونات اللوحة الإلهية التي لايمكن لبشر أن يحاكيها.. في شموخها ..

وهناك من يعد الطعام على الفحم .. وخشب الصحراء الجاف شديد الاشتعال.. فينضج به الطعام ويشوي اللحوم.. أو يصنع الشاي..

  غرف مختلفة المساحات من ظل النخيل في كهف عين خضرا والمصنوعة من الجريد الكثيف جدا المتشابك وكأنك داخل كهف حقيقي ..

والجميع ما بين جالس وواقف متحرك والجلوس لا حديث لهم إلا عن الآثار وكيفية البحث عنها والثراء الأكيد من جنيها والتنقيب عنها في كل مكان بمصر .. وأنها سبيل الفقراء الوحيد للغنى..!!

إذا ما وجدها موعود فالذي يجد أثرا ويبيعه هو الموعود بالسعد.  و كان منهم الكثير غير معجبين بهذه المرحلة من الرحلة وكانوا يتبادلون الحديث عن أن هذه الصحراء ليست مختلفة كثيرا عن بلاد هم الأصلية في الصعيد والتي نزحوا منها..

 كانوا يأملون أن يجدوا أشجارا أكثر ومناظر مياة كثير وزرعاً أكثر   وسياح أجانب يشهادون  فتياتهم ونسائهم  مجرد  مشاهدة.!!

 وكان  أحدهم يسألني  ما هو أحسن شئ يمكن أن نراه في هذه الرحلة؟؟

أجبته لكل ذوقه الخاص ! وما لايعجبك يعجب آخرين جدا وما يعجبك أنت لا يثير اهتمام الآخرين !..

تم عمل تصريف لمياة العين داخل مواسير من البلاستك المقوى تحت الرمال... على مسافة أربعون أو خمسون  مترا بجوار العين.. في منظر جدول صغير يشعر معه الجميع بأمان .... إذا نفذت المياة..

 

 

                                                              

  المقبرة المنهـوبة:

 منذ سبعة شهور من تاريخ كتابة هذا المقال .. حدثت السرقة لهذه المقبرة المنهوبة القابعة .. بجوار عين خضرا .. يتهم أهل الفرافرة البحاروة ( أهل الواحات البحرية) بأنهم وراء سرقة هذه المقبرة ونهبها بهذه الطريقة الاجرامية فهم قد دأبوا على التنقيب على الآثار في واحاتهم ويأتون كأدلاء للسياح في السفاري بالمحمية .. وهم لديهم خبرة كبيرة جداً بأماكن الآثار بالوادي كله..

.. فقد وجد موظفون من أهل الفرافرة يعملون بمحمية الصحرا البيضا ( كراكة حَفْر) بالقرب من عين خضرا بحوالي مائة متر فقط .. ذات صباح ومقبرة ظاهرة واضحة في إحدى الجارات مفتوحة ومنهوبة تماماً وهم يشعرون بالأسى ..

إن العاملين في سياحة السفاري من أهل الواحات البحرية (البحاروة) هم وراء تلك السرقة وكل هذا حدث بعد الثورة بعدة شهور.. فالكل مشغول بأحداث الثورة  لكن اللصوص لاينشغلون إلا بسرقاتهم وحدثت السرقة لهذه المقبرة..!!

 ولقد تركوا (الكراكة) وراءهم بجوار المقبرة بعد أن سرقوا ونهبوا  كل محتوياتها.. ولقد قامت مباحث آثار الفرافرة بنقل الكراكة كحرز بجوار مركز وقسم مدينة الفرافرة.. إلى الآن وهى شاهدة على السرقة .. ولم يعرف الجاني أو السارق الحقيقي حتى الآن  أو ربما تقاسم ضباط شرطة الآثار الغنيمة من المنقيبن اللصوص.!

 ولقد جمعتُ مجموعة صور عن مدخل المقبرة بالموبايل.. ولم نستطع أن نكمل دخول المقبرة .. فطريقها مخيف. وصعب.

 بمدخل المقبرة .. تابوت على يمين الداخل .. بحجم الجسد البشري محفور في الصخر.. مما يدل على أنه كانت هناك مومياء رابضة في هذا التابوت الحجري.. ولقد تمت سرقت هذه المومياء..

يقولون أن سعر المومياء المصرية  في سوق تجارة الآثار أنها تساوي  أو تباع بخمسة ملايين جنيه مصري.. ويتم بيعها خارج البلاد بخمسة ملايين دولار أمريكي.

 تعجبت مما أراه وأسمعه.. ولقد ورد بخاطري وذهني قوله تعالى .. {فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ }الحج45

وقوله تعالى :{أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُم مِّنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّأُوْلِي النُّهَى }طه128

نعم هناك بئر معطلة وقصر مشيد.. في هذه المنطقة أو المحمية الطبيعية..

   نعم أليس ما نراه ونحن نسير في الأرض فنرى الكثير من القرون الماضية السحيقة التي عاشت بها أمم كانت تسكن هذه الأرض ونحن نمشي فيها

أليس هذا كافياً للهداية والتوحيد المطلق لله تعالى والخضوع والإذعان لكلمات الله تعالى في القرآن..؟؟

وللحديث بقية إن شاء الله تعالى؟.

                     

اجمالي القراءات 10876