مأساة مصر الإعلامية

كمال غبريال في الإثنين ١٣ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

قاربنا في المقال السابق ما أطلقنا عليه "الورطة المصرية"، ركزنا فيه على التداخل والارتباط العضوي بين العناصر التي تشكل مشكلة التعثر الحضاري والثوري المصري، بحيث نعدم أو نفتقد ما نستند إليه في عملية الإصلاح أو التغيير، فجميع أو فلنقل من قبيل الاحتياط أغلب العناصر المكونة للحالة المصرية هي فاعل ومفعول به في نفس الوقت، في طوفان التدهور والإفساد الذي يجتاح البلاد من ستة عقود هي الفترة المنتسبة إلى "ثورة يوليو". . وضربنا لذلك مثلين بثنائيتي الشعب/ الحاكم والشعب/ النخبة، ويمكن الاستنتاج ضمنياً مما قيل ثنائية ثالثة هي الحاكم/ النخبة، حيث كل طرف من طرفي هذه الثنائيات منوط به مهمة مراقبة وتقويم وتطوير الطرف الآخر، لكن عندما تتدهور الأحوال بالدرجة التي وصل إليها المجتمع المصري، فتتلوث مختلف العناصر والمرتكزات بشتى أنواع الفساد، لا نجد رافعة تستند إليها عملية التغيير المرجو، وليس مجرد التغيير العشوائي الذي يشبه الحركة في بحر من الرمال الناعمة، والتي لا يتلوها غير المزيد من الغوص في جوف الرمال، كذلك الحادث بالبلاد الآن، بعد أن خرجنا من عباءة مبارك لندخل بإرادتنا لعباءة الظلاميين، في غياب قوى حقيقية صاحبة رؤية لمستقبل حداثي، وكمثل الصيحات الآن لإسقاط هيمنة المجلس العسكري، لتسليم السلطة كاملة لمن غير دهاقنة التخلف والإرهاب؟!! . . قديماً قال "أرخميدس": "أعطِني مكاناً لوَقْف وإراحة عتلتِي على الأرض، وأنا أستطيع أَنْ أُحرّكَ الأرضَ.". . افتقد "أرخميدس" نقطة ثابتة على الأرض التي تدور حول نفسها وحول الشمس، لكي يستطيع الاستناد عليها لتحرير الأرض من مسارها الأبدي، النقطة الثابتة المنشودة يمكن أن يجدها "أرخميدس" خارج الأرض في الفضاء الكوني، كما يمكن أن نجدها نحن في حالتنا محل النظر في الجهات الخارجية العالمية، سواء كانت منظمات عالمية مثل الأمم المتحدة أو منظمات اليونسكو وحقوق الإنسان والعفو الدولية وما شابه، أو تلك القوى العالمية التي يتيح لها البند السابع من ميثاق الأمم المتحدة فرض واقع مختلف على الأمم ولو باستخدام القوة، لكن "أرخميدس" الراغب في تحريك الأرض ومن يذهب إلى ما غفل عنه في إمكانية وجود نقطة ارتكاز خارجية يتجاهلون حجم القوة المطلوبة لتحريك تلك الكمية الهائلة من القصور الذاتي المتمثلة في حجم الأرض وكتلتها، والحقيقة التي يرصدها الجميع الآن هي النتائج المحبطة لتجارب الاستناد إلى نقط ارتكاز خارجية لتحريك أو تطوير الشعوب تطويراً راديكالياً إجبارياً، وأمامنا الأمثلة لذلك في الصومال وأفغانستان والعراق، وهذا بالطبع يختلف عن المسرى الناجع وإن كان بطيئاً ومملاً للحراك التطوري للشعوب عبر علاقاتها البينية مع العالم المتحضر ومنظماته العالمية.
نركز هنا على ثنائية الشعب/ النخبة، التي لم تأخذ حقها من المعالجة في مقاربتنا السابقة، حيث "نخبة" أي شعب هي المسؤولة أساسياً عن عملية التغيير والتطوير المستقبلي، فيما دور الحاكم يكاد يقتصر على معالجة ما هو راهن، ولا ينحو للنظر لما هو مستقبلي، إلا بوحي ودفع من قبل "النخبة"، ذلك الدفع الذي قد يتم بهدوء وانسيابية في حالات نظم الحكم الرشيدة، وقد يأخذ طابعاً ساخناً وعنيفاً، يصل في بعض الأحيان إلى درجة ثورة شاملة، كما حاولنا ونحاول الآن في مصر.
من يطلق عليهم "النخبة" المصرية يتفرقون على فصائل شتى، فمنهم أساتذة الجامعات ورجال الدين وسائر من على رؤوس مؤسسات الدولة، ومنهم الناشطون في الأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية غير الحكومية ومنها النقابات المهنية والجمعيات الخيرية ومنظمات حقوق الإنسان ومنظمات التنوير وما شابه، وكذا الأدباء والفنانون بكافة فروع الفنون وأهمها جماهيرياً المسرح والسينما، لنأتي في النهاية لتلك الفئة الأعلى صوتاً والأكثر ضجيجاً، والتي تعد الأكبر تأثيراً في شعب تغلب على جموعه الأمية باختلاف نوعياتها، بدءاً من الأمية الأبجدية وصولاً للأمية السياسية، حيث تعتمد الجماهير في رؤيتها للحياة على ما يقدمه لها الإعلام من وجبات ثقافية سريعة جاهزة أشبه بوجبات كنتاكي، فإذا ما كانت هذه الوجبات فاسدة أو مسمومة، مشابهة لتلك التي حدث وتم وتوزيعها على المعتصمين عند مجلس الوزراء، فإن سمومها تنتشر في الجسد المصري، لتتفاقم عملية الفساد الثقافي بالمزيد من فساد النخبة التي يتم إنتاجها من قبل الشعب، لتنغلق الدائرة الجهنمية على ذاتها منتجة نفسها على الدوام، فهكذا تنكفئ الأمم على ذاتها، لتذهب في طريق الهلاك وكأن بلا رجعة!!
هنا نكون إزاء من نعرفهم بالإعلاميين، سواء الإعلام المقروء أو المسموع أو المرئي، وإن كان العصر بتطور وسائل اتصاله قد جعل من الإعلام المرئي المتمثل في القنوات التليفزيونية الفضائية ملك أو إمبراطور الإعلام. . نُسْكِتُ بداية من يترصد عبارات يفهم منها التعميم، بأن نقرر أن التعميم ضروري لتكوين صورة بنورامية عامة للحالة التي نحن بصددها، وإن كان لا يعني الإحاطة التامة والحصرية للأحكام التي نطلقها لمجموع من نشير إليهم.
أحب بداية أن أزعم زعماً لابد وأن يبدو شاذاً وصادماً، وهو أن مشكلة الإعلام المصري تتركز في ذوات وشخصيات الإعلاميين بالدرجة الأولى والثانية وربما أيضاً الثالثة، لتأتي بعدها مشاكل النظم وطبيعة المؤسسات الإعلامية والقوانين والمواثيق التي تحكمها وخلافه!!
فنحن إذا بدأنا بتاريخ المؤسسات الإعلامية المصرية الحديث، فربما نتسرع بالحكم بأن الاستبداد السياسي وملكية المؤسسات الإعلامية للدولة قد أنتجا أجيالاً من الإعلاميين الموظفين، الذين يحتاجون للبقاء في وظائفهم وللترقي في المناصب إلى إتقان النفاق، وإلى العمل بطريقة آلية وفق ما تمليه سياسات الدولة، وكأنهم كتبة سجلات في دواوين الحكومة كالصحة والبريد والسجل المدني، ويكون السعي للابتكار والتجديد أمراً مستبعداً، باعتبار التجديد والإبداع ملكات تفضي لممارسات تهدد حياة صاحبها الوظيفية. . هذا الحكم الذي وصفناه بالمتسرع صحيح بالتأكيد إلى حد بعيد، لكن يقلل من شأنه كثيراً ما نرصده في الفترة الأخيرة ومن قبل قيام الثورة بسنوات، حيث انفتحت الأبواب أمام المؤسسات الإعلامية الخاصة، سواء دور نشر أو جرائد أو محطات تليفزيونية فضائية، وقام على هذه المؤسسات شباب يفترض أن يكون تأثرهم بالماضي الكئيب للإعلام عاملاً إيجابياً وليس سلبياً، بمعنى أن يدفعهم ذلك الماضي للنقمة والثورة على كل ما هو قديم وبائد، فهل هذا ما حدث بالفعل؟
إذا كان الشعب المصري الآن والعالم كله معه يقف مروعاً من حجم الفساد المالي الذي تكشف لعهد مبارك، فإن واقع الجرائد والقنوات الفضائية الخاصة الآن، وبعد ما نتمنى أن يكون ثورة حقيقية، يفضح فساداً إعلامياً غير مسبوق، فأنت لا تستطيع وأنت تقرأ مانشيتاً أن تطمئن لأن محتوى المقال مطابق للمانشيت العريض المثير، والذي كُتِبَ ليس ليعبر عن محتوى المقال، وإنما لجر القارئ من ملابسه أو حتى من قفاه، ليشتري الجريدة ويقرأ ما بها، وليس من المهم بعد ذلك أن تكتشف بعدها المفارقة، بل وربما كان المحتوى نفياً تاماً للعنوان!!
ليت الأمر يقف عند هذا الحد من التزييف المبتذل، لكن الأدهى في طوفان الأخبار المفبركة، والتي تستند في مصدرها إلى "مصدر مطلع" أو "مصدر رسمي رفض ذكر اسمه"، بل ويصل التزييف إلى حد الإسفاف والنذالة في التعامل مع القارئ إلى حد نسبة مواضيع مختلقة من أساسها إلى جرائد ووكالات أنباء عالمية، بل وإلى مسؤولين عالميين تذكر أسماؤهم تحديداً، وهم أبرياء منها تماماً، براءة الشرف من كثير مما تعرضه جرائدنا ووسائل إعلامنا!!
نعم مازال لدينا معاقل للإعلام الهابط الفاسد والمفسد المتمثل فيما يسمى وسائل الإعلام القومية ويستعصي حتى الآن على الإصلاح، لكن ماذا نقول عن المؤسسات الإعلامية الخاصة، والتي نراها وقد انقسمت قسمين لا يقل أحدهما رداءة عن الآخر. . قسم قرر الالتحاق بالمؤسسات القومية في التخديم على سيطرة المسيطر، ليدخل في منافسة معها في النفاق والتزييف، والقسم الآخر قرر الالتحاق بالثورة، بالطبع ليس ثورة التطور والتغيير والإبداع، لكن الثورة في مفهومة هي التزام منهج التهييج والإثارة، والبحث عن كل ما هو شاذ لعرضه، جلباً للمشاهدين ومعهم الإعلانات، وليحصل مقدم البرنامج الثوري الهمام على شهرة تطبق الآفاق، ومعها الملايين التي تدخل جيبه وهو ينادي مع الثوار بحد أدني وحد أقصى للأجور!!
يخلع مقدمو البرامج الأشاوس رداء الإعلامي المحترف الذي يقدم للقارئ خدمة إعلامية محايدة ومتزنة وواقعية، ليتيح له أن يحكم بنفسه على ما يحدث، ويتبين لنفسه بنفسه أي الآراء يتبنى، ليرتدي الإعلامي الشهير رداء الثائر الغضنفر، الذي يهتف في الاستوديو بدلاً من ميدان التحرير، رغم أن بعض من نشير إليهم هنا جاءوا إلينا من الـ "بي بي سي" مدرسة الإعلام الراقي المحترف!!
عندما تكون السياسة الإعلامية للقناة الفضائية هي مجرد جلب أكبر قدر من الإعلانات، ويكون الهم الأول للنجم التليفزيوني مقدم برنامج "التوك شو" هو إحداث أكبر قدر من الإثارة، يحقق له أعلى نسبة مشاهدة، فلا ينبغي بأي حال أن نندهش حد الذهول ونحن نرى إعلامياً شهيراً تتسبب حلقة من برنامجه في مذبحة للبهائيين على الهواء مباشرة، وقد أتى بضيف همام حرض المشاهدين على البهائيين باعتبارهم كفاراً وأعداء للإسلام!!
كما لا نجد لنا حيلة إلا أن نرصد في غيظ مكتوم ومحتقن القنوات الفضائية المختلفة، وهي تتبارى في استضافة رموز كئيبة المنظر والخطاب، تبث على الهواء مباشرة سموماً تلوث الهواء، قبل أن تلوث العقول والقلوب بالكراهية والتعصب، وينتفي العجب كذلك ونحن نرى أن "فلاناً" الذي يطلق كل شاذ مثير للتقزز والسخرية من الآراء، مازال حاضراً ونجماً تليفزيونياً وضيفاً أثيراً للقنوات الفضائية الثورية وغير الثورية، رغم أن الجماهير قد أسقطته في الانتخابات، معلنة بذلك رفضها لخطابه المتهوس الممجوج، وإن كانت الفضائيات لم تكتف بعد من استخدامه في صناعة الإثارة المدمرة المبتذلة!!
ليس أدل على حالة التردي لنوعيات الإعلاميين الذين يتقاضون الملايين لقاء أدائهم هذا، أنهم رغم استمرارهم في ترديد تلميحات اللوم الصريح أو المستتر للجماهير على ما يعتبرونه خيارها غير الرشيد في الانتخابات البرلمانية، إلا أنهم لا يستحون من تحويل برامجهم إلى منبر لعتاة القتلة والإرهابيين الذين تلوثت أياديهم بدماء الشعب المصري، ليتم تقديمهم الآن باعتبارهم قادة الشعب المصري والمخططين لمستقبله، والمحددين لمعالم ثورته، وليتحدثوا على فترات عقوبتهم على ما ارتكبوه من جرائم وكأنها فترات كفاح ونضال ضد استبداد وفساد نظام مبارك!!
بالطبع إذا ما تفوهت بلوم هؤلاء النجوم الإعلاميين، فسوف تجد الرد واضحاً وحاسماً، ويتلخص في العبارة الشهيرة "الجمهور عايز كده"، أو يواجهونك بقسوة ليخجلونك قائلين "ألا ترى شعبية هؤلاء بالشارع المصري؟!!". . نعم، فبالتأكيد "الجمهور عايز كده" حقيقة مبهرة تعمي جميع العيون بسطوعها، وهذا هو ما بدأنا به مقالنا، من فقدان لنقطة ارتكاز تقوم عليها عملية التنوير والتغيير والتطوير، لنظل أسرى عملية إعادة إنتاج الذات الفاشلة المنغلقة على نفسها، ويكون حديثنا عن ثورة حقيقية تنقلنا من حال التخلف إلى مواكبة العصر من قبيل الأماني والأحلام التي نفتقد أياً من مقومات تحقيقها على أرض الواقع!!

اجمالي القراءات 7447