علاقة العمل بالجزاء
قيمة العمل في استحقاق النعيم الأبدي!

نسيم بسالم في الأربعاء ٠١ - فبراير - ٢٠١٢ ١٢:٠٠ صباحاً

 

   اشتطَّ أُنس فزَعمُوا أن لا يُدخِل أحدٌ الجنَّة عَملَه؛ فهوَّنُوا مِن قيمَة العَمل والتَّعويلِ عَليه؛ اتِّكاء على أُمنيات عديدَة؛ كرَحمَة الله ولُطفِه، والشَّفاعَة وما إلى ذَلِك. بنَوا تصوُّرَهم ذَاك على حَديث لَم يُكلِّفُوا أنفُسَهم عَناء عَرضِه على قَطعيَّات القُرآن ومُحكَماتِه التي لا يأتيها الباطِل مِن بينِ يَديها ولا مِن خَلفِها؛ وهُو قَوله e: (لن يدخل أحدكم الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل).

 واشتطَّ آخَرُون فاعتَقدُوا أنَّ عمَلَهُم الصَّالِح هُو ثَمَن دُخولِ الجنَّة! مُغترِّين رُبَّما بكلمة "الأَجر" التي كثُر وُرودُها في كِتاب الله تَعالى فقامُوا بنَوع مِن القياس؛ بينَ الأَجر المادِّي الذي اعتَادُوا الاصطِلاحَ  عَليه؛ وبينَ هذا الأَجر الذي يذكُره الباري عزَّ وجل.وكأنّي بابن عَطاء السَّكندَري يُشير إلى مِثل هؤلاء في حكمتِه التي يقُول فيها: (كيف تطلب العوض عن عمل هو متصدق به عليك، أم كيف تطلب الجزاء عن صِدق هو مهديه إليك؟!

وحينَ نخبُر مُعتَقدات جَمهرَة كَبيرَة مِن المُسلِمين نجدُهُم يَعتقِدُون بِفكرة الميزان في الآخِرَة! وهُو أن تُوضَع الأَعمال الصَّالِحة في كفَّة والسيِّئَة في كَفَّة أُخرى على شاكِلَة ما عُهِد في موازين الأسواق التِّجاريَّة؛ فأيُّهما رَجحُت كانَ مَصير صاحبِها بِحسبِها! ولَم يكُن ذَلك ليتجذَّر في مِخيالِهم إلاَّ لمَّا جوَّزُوا أن يَلقَى المَرءُ ربَّه بعَمل صالِح وآخَر سيِّ ء أصرَّ عَليه في حياتِه، وماتَ عليه، وحُشِر مُتلبِّسا بِه!

والوِطاء الفِكري لِهذا المُعتَقد طَبعا مَرويَّات مَنسُوبَة للرَّسُول eأشهرُها رُبَّما ما يُسمَّى ب "حديث البطاقَة" الذي جاء فيه منسوبا للرَّسُول الكريم ذي البلاغ المُبين: (إن الله سيخلِّص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة، فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مثل مد البصر، ثم يقول: أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: أفلك عذر؟ فيقول: لا يا رب، فيقول: بلى إن لك عندنا حسنة فإنه لا ظلم عليك اليوم، فتخرج بطاقة فيها: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، فيقول: احضر وزنك، فيقول: يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات! فقال: إنك لا تُظلم، قال: فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة؛ فطاشت السجلات، وثقلت البطاقة، فلا يثقل مع اسم الله شيء)!!

  وكذا حديث المُفلس المَعرُوف المَروي عَن أبي هُريرَة جاءَ فيه: (أَتَدْرُونَ مَا الْمُفْلِسُ قَالُوا الْمُفْلِسُ فِينَا مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ، فَقَالَ: "إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِصَلَاةٍ وَصِيَامٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ هَذَا وَقَذَفَ هَذَا وَأَكَلَ مَالَ هَذَا وَسَفَكَ دَمَ هَذَا وَضَرَبَ هَذَا فَيُعْطَى هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يُقْضَى مَا عَلَيْهِ أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ".

   لوَضع هذه الأَقوال المُختلِفَة على "الميزان" يجدُر بِنا أن نُسلِّطَ الضَّوء بعض الشَّيء على فلسَفة العَمل وعلاقتُه الحقيقيَّة بالجَزاء؛ وتناوُل بَعض آيات الميزان في القُرآن بعدَ ذَلكَ لتبيان مَدلُولِها الحَقيقي. وليسَ مقصُودي في هذه الأسطُر استِقصاء كُل المَسائل المُتعلِّقَة بالمَوضُوع (وما أكثَرها)؛ وإنَّما هَدفي الرَّئيس نَفي فِكرَة الوُقوف بينَ يدي الله بِعَمل خليط مِن صالِح وفاسِد؛ وبالتَّالي اجتِثاث عقيدَة الميزان مِن جُذورِها؛ وكذا إثباتُ عَدم انتِفاع الإنسان بِعمله الصَّالِح (مَهما عظُم) مَع الإصرار والاستِكبار وعَدم التَّوبَة النَّصُوح .

 بِدايَة يُقرِّرُ الباري عزَّ وجل أنَّه ما خَلقَ هذه الأَكوان؛ ولَم يُصلِح هذه الأَرض إلاَّ ليُدخِلَنا في امتِحان جَبري؛ هُو امتِحان العَمل! أيُّنا يُحسِنُه فيَنجُو؛ وأيُّنا يُفسِده  فيخيب ويَخسَر!

يقُول تَعالى: {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ} [الملك : 2].

ويقُول: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الكهف : 7].

ويقُول أيضا: {وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [هود : 7].

   وأيُّ إنسان بِصريِح القُرآن مُخيَّر أتمَّ الاختيار فيما يَعمَل لا إكراهَ عَليه في شَيء! غايَة ما في الأَمر أنَّ الله مُطَّلِع على نيَّتِه الباطِنَة وما يُكنُّه صَدرُه! فإذا اتَّجه عَزمُه القاصِد نَحو عَمل خيِّر أو شِرِّير وَضَع الله الأسباب بينَ يَديه طيِّعَة؛ لتنفيذِ مُرادِه؛ وِفقَ حِكمَة الله البالِغة وتسيرِه المُحكَم لأشياءِ الكَون.

{أَفَمَن يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَم مَّن يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [فصلت : 40].

    والله مِن رَحمَتِه الحانِيَة؛ ولُطفِه البالِغ بعبادِه لا يَرضَى لَهُم الكُفر والفُسوقَ والعصيان رُغمَ تَخييرِهم المُطلَق فيه وعَدم جَبرِهم على شَيء؛ فتراه سُبحانَه يحثُّ في أكثَر مِن آيَة على العَمل الصَّالِح؛ ويَعِدُ بالعَطايا العَظيمَة لمَن أعطَى واتَّقى وصدَّق بالحُسنَى!

{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: 105].

{يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51].

{إِنَّ هَـذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً} [الإسراء : 9].

   والخالِقُ الرَّحيم يُثيبُ على هيِّنِ العَمل كَما يُثيبُ على جَليلِه تفضُّلا مِنه وإحسانا؛ فهؤلاء "أصحاب ساعَة العُسرَة" يُطمئِن خواطرَهم بأنَّ كُلَّ حركاتِهم وسَكناتِهم مَحسُوبَة لا يَضيعُ مِنها شَيء سيجدُون ذُخرَها غدا يَوم القِيامَة.

{ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ. وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [التوبة :120- 121].

{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف : 30].

* وفي المُقابِل يُحذِّر الله كُلَّ غاو ضال أنَّه مُحيط بِعمَلِه لا تَخفى عَنه خافيَة؛ وسيجدُ ما عَمِل حاضِرا يُجزَى بِه يَوم تُبلى السَّرائِر وتُكشفُ الحُجُب!

{وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس : 61].

{وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة : 74].{وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [البقرة : 233]. {وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ [البقرة : 234].

{زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن : 7].

* ويَظهَر الفَرقُ في التَّعامُل الرَّباني بعدَ ذَلِك واضِحا جليَّا بينَ مَن عَمِل صالِحا وبينَ مَن أساءَ العَمل؛ في الدُّنيا قَبلَ الآخِرَة!

{أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [الملك : 22].

{أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ} [محمد : 14].

{أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ}[الجاثية : 21].

{أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} [صـ : 28].

{وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ} [غافر : 58]

  * طَبعا فإنَّ دَلائِل التَّفرِقَة بين مُحسِن العَمل ومُسيئِه  وجزائِهِما في الدُّنيا مُتظاهِرة مُتظافِرَة في بيَانِ الله عزَّ وجل لستُ ناوٍ التَّركيز عَليها، ولَستُ أنوي التَّركيز على قيمَة العَمل الصَّالِح وموازين العَمل الصَّالِح؛ وسُبل الهِدايَة والتَّوفيق إلى صالِح العَمل، وأسباب الوُقوع في حبائِل المَعصيَة؛ وإنَّما كُلُّ قَصدي مِن هذا المَقال مُحاوَلة نَفيِ الحالَة الثَّالِثَة المُفتَرضَة مِن قُدوم إنسان إلى الدَّارِ الآخِرة؛ خلَط بينَ عَمل صالِح وآخَر سيِّئ؛ وهُو مَع ذَلك يَطمَع في مَغفِرة الله عزَّ وجل ورضوانِه؛ اطمئنانا مِنه إلى ضَخامَة عَملِه الصَّالِح التي تُغطِّي على عَملِه الطَّالِح وتنسِفُه نَسفا! فَهل نَجدُ لِهذا إشارَة في كِتابِ الله تَعالى؟!

   لنتأمَّل في هاتَين الآيَتين مِن سُورَة النَّمل يقُول فيهما سُبحانَه تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَهُم مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ. وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [النمل :89- 90].

   واضِح مِن الآيَة أنَّ النَّاسَ غدا يَوم القيامَة فريقان: فريق أتَى بالحَسنَة (فقَط) وفريقٌ أتَى بالسِّيِّئة (فقَط) وكُلُّ لاقٍ ما قدَّمَت يَداه؛ ويُنبَّأ كُلٌّ بِما قدَّم وأخَّر! فأينَ تِلكُم المُزايَدات والمُناقَصات والمُطارَحات "الحَسناتيَّة" التي تعجُّ بِها الرِّوايات؟!إنِ الأَمر إلاَّ فريقٌ في الجنَّة وفَريقٌ في السَّعير؛ ولا تَقبَل المُعادَلة قِسمَة ثالِثَة البتَّة!

   ونَظيرُ هذه الآيَة في سُورة القَصص في قَوله تَعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [القصص : 84].

   وكذا في سُورة الأَنعام في قَوله تعالى: {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} [الأنعام: 160].

   ونقرأ في سُورة طَه قَوله تعالى: {إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى. وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى} [طه :74-  75].

   إذَن: ليسَ بأُمنيَة أحَد أن يَفتَرضَ بمُجرَّد ظُنون وتعلُّق بِظاهِر رِوايات إمكانيَّة قُدوم إنسان مُحمَّل بأوزارِه وأوزار مَن كانَ يُضلُّه بِغيرِ عِلم؛ مُستَريحا إلى أنَّ ما أبلَى في الطَّاعَة كَفيل بإزاحَة معاصيه وآثامِه ولَو بلَغت مَبلَغ الجِبال!

{لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً} [النساء : 123].

* وممَّا يَزيدُ ما قُلناه قُوَّة وحُجَّة وسُلطانا؛ قَرن الله سُبحانَه الجنَّة بالعَمل الصَّالِح (فقَط) في آيات كَثيرة من كِتابِه؛ ولا نَجدُ رائِحة لَخلط مَزعُوم البتَّة! لنتأمَّل ولنستبصِر في بَعضٍ مِن تلكَ الآيات ولندَع التَّقليد جانبا؛ فالقضيَّة قضيَّة مصير؛ تُؤخذ يقينا لا ظنَّا.

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُولَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة : 82].

{وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِـلاًّ ظَلِيلاً} [النساء : 57].

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [يونس : 9].

{وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}[إبراهيم : 23].

{ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدّاً} [مريم : 96].

* والآيات في الحَقيقَة كثيرَة؛ إلاَّ أنَّ مضمُونَها واحِد مفادُه أنَّ الإيمان الحَقيقي هُو الذي يَعقُبُه عَمل صالِح خالص لا شَوبَ فيه؛ وإنَّ كُلَّ مَن يُصرُّ على أن يَلقَى الله بِذُنوب ومَعاص؛ غيرَ مُكتَرث بالتَّوبَة ولا واضِع لَها في حُسبانِه ليسَ في الحَقيقَة مُؤمنا؛ وإن ادَّعى ذَلك بلسانِه! بل هُو في الواقِع في شَراكَة حقيقيَّة مَع إبليس وجنُوده يُسوِّلُون لَه ويُملُون لَه، ويُوحُون لَه زُخرُف القَول غُرورا؛ لا يَستفيقُ مِن سماديرِها إلاَّ في أرضِ المَحشَر حينَ يتشخَّص لَه قَرينُه ماثِلا بينَ ناظِريه؛ فينادي في حَسرَة وألم ولوعَة: يا ليتَ بيني وبينَك بُعدَ المَشرِقَين فبيسَ القَرين!

   وآيَة ما قُلتُ أنَّ الشَّقي وهُو يَحتَضر ويُنازِع المَوت يتمنَّى شَيئا واحِدا ووَحيدا يجأرُ بِه ولَكن هيهاتَ أن يُجابَ له! ماذا يقُول؟

{حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ. لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون :99- 100].

   وهُو يصطَرِخ في سواءِ الجَحيم؛ تَلفَح وَجهَه النِّيران لا يَستَطيعُ أن يكُفَّها عَن وَجهِه ولا عَن ظَهرِه؛ يتمنَّى كذَلك شَيئا واِحدا ووَحيدا هُو عَين ما تمنَّاه في لَحظات النَّزع والفِراق!

{وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر : 37].

   وقَد سَبقَ لَه في ساحَة المَحشَر أن استَجدَى خالِقه في العَودَة إلى الدُّنيا واستبدال العَمل السيِّئ بآخَر صالِح؛ ولَكن مِن دُون جَدوى؛ فقَد سبَق السَّيف العذل!

{ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف : 53].

* يتبادَر الآنَ سُؤال لكُلِّ مَن اتَّبَع مَجرى الحَديث بعنايَة: هَل تَعني بِكلامِك أنَّ الإنسان الذي يستَحقُّ دُخولَ الجنَّة والفَوز بِرضوان الله ينبَغي أن يتَّصِف بِصفة ملائكيَّة لا أثَر فيها لِعصيان البتَّة؟! وهَل تَعني أنَّ مَن دلاَّه الشَّيطان بِغُرور و وَقع في مَعصيَة ولو واحِدَة في حياتِه محكُوم عَليه بالهَلاكِ الأَبدي؟! وهلاَّ قرأت سُورة التَّوبَة لتَجدَ أنَّ الله رَحم أُناسا خلطُوا عَملا صالِحا وآخَر سيّئا؛ وأنَّ الله التَفتَ إلى سابِقِ جِهادِهم مَع الرَّسُول (صلى الله عليه وسلَّم)؛ فتجاوَز لَهُم بِه عن جريرَتهم التي وَقعُوا فيها! فلمَ التَّهويل وتضييق الواسِع؟!

   وجوابُ هذا القائِل: أنَّ الإنسان فِعلا هُو عُرضَة للمَعصية تحتَ تأثيرِ إغراءات الشَّيطان وتزيينِه وأنَّه ليسَ بمعصُوم عَن الخطيئة؛ ولكن لي طَلب واحِدٌ مِنك أن تلتَفِت إلى بِدايَة الآيَة وتُركِّزَ مليا؛ لتَجدَ أنَّ النَّاسَ الذين تتَحدَّثُ عَنهُم لَمَّا اقتَرفُوا ما اقتَرفُوا لَم يُصرُّوا على ما فعلُوا وركبوا رؤوسَهم ظُلما وعُتُوَّا؛ ولَم يُسوِّفُوا ولَم يتَمادَوا على ما هُم فيه تمسُّكا بأهدابِ أُمنِيَة كَما هُو شَأن كَثير مِن الذين ينتَسبُون إلى الإسلام؛ بل إنَّهُم قَد تابُوا وأنابُوا إلى ربِّهِم واعتَرفُوا لله بمَعصيَتِهم؛ وهُم بَعدُ يستَغفِرون بارئهم على ذَنب التَّقصير في جَنبِه كما تطَّلِع عليه مِن سياقِ السُّورة وجوِّها العام.

تأمَّل مَعي رَحمَك الله الآيَة: {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة : 102].

   لتَعلَم أنَّ الله سُبحانَه قَد آلَى على نَفسِه أن يَغفِر للعائِدين إلى حظيرَتِه؛ ويُكفِّرَ عَنهُم سيِّئاتِهم كَأن لَم تكُن بشَرطِ أن يستَكمِلوا شُروط التَّوبة المَعرُوفَة مِن نَدم وإقلاع وعَزم على عَدم الرُّجوع وما إلى ذَلِك! أو بالتَّعبير القُرآني الجامِع: لابُدَّ أن يَعتَرفُوا اعتِرافا قلبيا خالِصا بِما فرَّطُوا في جَنبِ الله.

    كيفَ لا وسُورة الأَنعام ناطِقَة بأنَّ الله قَد كَتبَ على نَفسِه الرَّحمَة أنّ مَن عَمِل سوءا بِجَهالَة ثُمَّ تابَ مِن بعدِه وأصلَح فسيَجدُ الله توَّابا غفُورا. والله أفرَحُ بتَوبَة عَبدِه ممَّن وَجدَ ضالَّته في بيداءَ تائِهَة بعد يأس وقنُوط واستِسلام للمَوت!

{وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [الأنعام : 54].

   ما يهُمَّنا في مَوضُوعِنا أنّ المُتَّقي الذي يسَتحقُّ دُخولَ الجنَّة ليسَ هُو ذَلك الذي لَم تنزَلق بِه قدمُه يَوما في حمأة رذيلَة ما؛ وإنَّما هُو ذَاك الذي لَقي ربَّه بِقلب سَليم، ومِلف أبيَض ناصِع لا لَطخَة فيه مِن سُوء؛ بعدَ تَوبتِه مِن جَميع المَعاصي والسَّيئات قَبل المَمات تَوبَة نصُوحا؛ وعَدم إصرارِه وتَماديهِ على واحِدَة مِنها. ولا يهُمُّ كَثرَة الذُّنوب ولا عِظمُها إذا لَم يَصحبها إسرار وتَسويف ومُكابَرة!

{إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوَءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ فَأُوْلَـئِكَ يَتُوبُ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً. وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَـئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً} [النساء :17- 18].

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنصَرُونَ} [الزمر :53- 54].

   * وما يُوطِّدُ دعائِم المَسألة أكثَر تصوير الله سُبحانَه وتَعالى للسُّعداء غَدا يَوم القيامَة ؛بعدَ عرض الأعمال ونَشر الكُتب؛ وهُم في قمَّة الفَخر والنَّشوَة بِما قدَّمُوا؛ يَعرِضُون صُحفهم في اعتِزاز لإخوانِهِم مِن أصحابِ اليَمين في أرضِ النُّور وهُم يُنشِدُون: هَاؤُمُ اقْرَؤُوا كِتَابِيهْ [الحاقة : 19]. إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيهْ} [الحاقة : 20].

   والسُّؤال الذي أُواجِه بِه الآن كُلُّ مَن يُؤمِن بِفكرَة الخَلط أو على الأَقل يستسيغُها ولا يُعارِضُها: لَو كانت ثمَّة مِن نُقطَة سَوداء أو عَمل شائِن مرذُول في صَحيفَة أحدِ أولئِك السُّعداء؛ عباد الرَّحمن؛ هَل كانَ سيتشجَّع في أن يَعرِضَها بتلكَ النَّشوَة والحُبور أمام ناظِري إخوانِه؟! بل هَل يَستَطيع أحد طلَبة العِلم المُتفوِّقين (تقريبا لصُورة المُحاكَمة والفَهم) أن يعرضَ كَشف نِقاطِه أمام إخوانِه، أو أن يُعلِّقَه في ساحَة المُؤسَّسَة مَثلا وفيه ما يستَحي مِنه مِن عَلامَة ضعيفَة ولَو في إحدَى المَواد لا في جَميعِها؟! أترُك الجَوابَ لكُلِّ مَن لَم يُطلِّق عَقلَه ولَم يَرضَ ببيان غَير بيان الله عزَّ وجل الخالِد بديلا وصِنوا!

    قَد يستَعجِل عليَّ أحدُهم ويقُول مَهلا! ما مَعنَى حِساب الله تَعالى للسُّعداء المَذكُور في الانشقاق مَثلا أم أنَّك تُؤمِن ببعض الكِتاب وتكفُر ببعض! ألم تقرأ قَولَه تعالى: { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً} [الانشقاق :7-  8].

أيُّ مَعنَى لِهذا الحِساب؛ لَو لم تكُن هُناكَ مُوازَنة واضِحَة بينَ حسناتِ المَرء وسيِّئاتِه؛ ثمَّ تكُون الغَلبَة في الأخير للحَسنات لينَقلبَ المَرء إلى أهلِه مسرُورا بصريحِ الآية؟!

جوابا على هذا الاعتِراض أقُول أنَّ آيَة سُورة يُونس كَفيلَة ببيان ماهيَّة هذا الحِساب.

يقُول سُبحانَه وتَعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ} [يونس : 4].

   الكَلام هُنا عَن حسابِ المُؤمنين لا العُصاة؛ ومَعناه أنَّ المُؤمنين في الجنَّة تتفاوَت دَرجاتُهم بحَسب أعمالِهم! فهذا الحِسابُ اليسير إذَن هُو عَرض صحائِف السَّعداء؛ أصحاب الجنَّة لتَقويمِها وإعطاء أصحابِها الدَّرجَة اللائقَة بِهم؛ فهُنالِك عَدل إلهي مُطلَق حتَّى بينَ السُّعداء؛ بل أقُول حتَّى بينَ الأنبياء أنفُسهم!

يقُول سُبحانَه: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِّنْهُم مَّن كَلَّمَ اللّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} [البقرة : 253].

   وفي سُورة الطُّور يُصوِّر الباري عزَّ وجل ذَلِك الحَنين الذي يبقى بينَ الأولادِ ووالديهِم؛ وكانَ الوالِدين أعلَى دَرجَة في الجنَّة ممَّا يَعني عَدم اجتِماعِهم بأولادِهِم؛ فيُطمئنِهم البرُّ الرّحيم بأنَّه سيُلحِقُ بِهم أولادَهم؛ ولَكن مِن غَير أن يتساووا في النَّعيم؛ فكُلُّ امرئ بِما كَسبَ رهين! سُبحانك يا ربِّ ما أعدَلك!

{وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُم مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ} [الطور : 21]... ألتناهُم هُنا بمَعنى أنقَصناهُم وبخسناهُم!

    ولابُدَّ مِن التَّنبيه أنَّ الإلحاقَ هُنا بشَرط توفُّر الإيمان (الحَقيقي) والتَّقوى كَشرط لدخُول الجنَّة؛ وإلا فلَن ينفَع أحدٌ رحمَه؛ بل لا أنسابَ بينهُم يومئذ ولا يتساءلَون! يَوم يفرُّ المَرء مِن أخيه وأمّه وأبيه، وصاحبته وأخيه؛ لكلِّ امرئ مِنهُم يومئذ شأن يُغنيه! يَوم لا يُغني مَولى عَن مَولى شَيئا ولا هُم يُنصرُون!

{لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الممتحنة : 3].

    وهذه روايَة عَن عائِشة نستأنِس بِها لتأكيدِ ما نَحن بصدد تَقريرِه؛ فقَد رُويَ عَنه (صلى الله عليه وسلَّم) "من نوقش الحساب عُذِّب. قالت عائِشَة:  قلت أليس يقول الله تعالى فسوف يحاسب حسابا يسيرا؟ قال ذلك العرض".

   وإلى هُنا لا أظنُّ أنَّه قَد بَقيَ لأصحابِ فِكرة "الخَلط" مُتشبَّثا ولا مُتمسَّكا إلاَّ آيات الميزان فقَط! فآيات العَمل والحِساب ومَصير السُّعداء تَنسِف أمانيِهِم نَسفا. فلنأتِ الآن إلى وَقفات يسيرات مَع آيات الميزان في القُرآن.

   بدايَة نُقرُّ أنَّ الله سُبحانَه وتَعالى أورَد مَفهُوم الميزان بمَعناه المادِّي في سياقِ الأَمر بِضبط المُعاملات الماليَّة بالقُسطاسِ المُستَقيم؛ ومَنع التَّطفيف والغِش؛ وليسَ المَقصُود بِه الميزان ذو الكَفَّتين بالضَّرُورة (كَما يتوهَّم البَعض)؛ بل كُلُّ ما مِن شأنِه أن يَحفَظ لكُلِّ ذي حق حقَّه مِن غَير وَكس ولا شَطط!وهذه بَعض الآيات:

   يقُول سُبحانه وتعالى: {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}[الإسراء : 35].

   ويقُول في الوصايا العَشر في سُورة الأَنعام: { وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الأنعام : 152].

   وعلى لسان نبي الله  شُعيب يأتي هذا التَّحذير مِنه لقَومِه: {وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ} [هود : 85].

ولَكن: هل يَقتصِر وُرود "الميزان" ومشتقَّاتُه في كَلام الله عزَّ وجل على مَعناه المَادِّي حتَّى يَجزِم المُؤمنُون بفرضيَّة "المُوحِّد العاصي" أن سيُقامُ ميزان (ذو كفَّتان) غدا يَوم القيامَة؛ تُوضَع الأعمال الصَّالِحة في كفَّة والطَّالِحة في كفَّة؛ فأيُّهما رَجحت كانَ مصير المَرء مَرهُونا بالنَّتيجَة؟ وهذا بِناء مِنهُم طَبعا على فَهم آيات الثِّقل والخِفَّة على أنَّهما ثِقل مادِّي وخِفَّة مادِّية؛ والحالُ أنَّهُما ليسا كذَلك كَما سنُبيِّن.

   لنَقِف أوَّلا عِند آيات سُورة الرَّحمن ونتبصَّر فيها مَليا. يقُول الباري عزَّ وجل: {الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9)}.

عَن أيِّ ميزان تتحدَّثُ هذهِ الآيات؟ لنَفتَرض أنَّها تتحدَّثُ عَن ميزان مادِّي؛ ومِن ثمَّ نُسقِط المَفهُوم على الآيَة فماذا نَجد؟!

أمَّا رَفع السَّماء بِغيرِ عَمَد فعرِفناهُ؛ ولَكن أين ذلكُم الميزان المَوضُوع مَن يهدينا إليه في أيِّ بُقعَة مِن الكُرَة الأرضيَّة وُضِع؟! أفي الرُّوس أم في جنُوب إفريقيا أم في أمريكا؟!

واضِح إذَن بَداهَة أنَّ الآيَة تتحدَّثُ عَن الميزان بِمفهُوم تجريدي؛ مَعناهُ حَسب السِّياق أنَّ الله نَظمَ هذا الكَون البَديع على نواميسَ وسُنن تَكوينيَّة؛ لا يجُوز للإنسان تجاوُزُها ولا إخسارُها بِوَهم أنَّه مَأمُور فقَط باحتِرام السُّنن والقَوانين التَّشريعيَّة فَحسب! فكُلٌّ مِن عِند الله!

ثمَّ لنأتِ بَعد ذَلك إلى سُورة الحَديد ونقرأ قَولَه تعالى: { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ }[الحديد : 25].

وعلى نَفس النَّسق التَّقريري السَّابِق نقُول: أمَّا الكُتُب المُنزَّلة على أولئِك الرُّسل الذينَ تتحدَّثُ عَنهُم الآية فعَهِدناها وعَرفناها؛ ولَكن لَم نَسمَع ولَم يَحكِ التَّاريخُ أنَّ أحدا مِنهُم اصطَحب مَعه ميزانا؛ فهُو يَعِظُ بِه قومَه!

إذَن فما مَعنى الميزان في هذه الآيَة؟!

   لا شكَّ أنَّ كُلَّ مَن زارَ محكمَة مِن المَحكمات الأرضيَّة سيستَقبلُه أوَّل ما يستَقبلُه في أوَّل قاعَة مِن تِلك المَحكمَة ميزان مُصوَّر على الجِدار ذي كَفَّتين مُتساويتين! ولَنا أن نتخيَّل مَشهَد ذَلِك الإنسان البَدين الذي قصَد "دار الشَّرع" في ظُلامَة لَه حتَّى إذا لمَح ذَلكم  الميزان قالَت لَه نَفسُه: ما مِن شَكِّ أنَّك ستفُوز بقضيَّتِك؛ فأينَ خصمُك النَّحيف مِن جُثَّتِك؟ ألَم تَر أنَّ القَوم إنَّما يُقوِّمُون النَّاس بأوزانِهم، ودُونَك الصُّورة أمامَك شاهِدة على ما أقُول، ما أوفَر حظَّك!

هَل يُمكِن أن يتصوَّر عاقِل هذا؟! إذَن واضِح مرَّة أُخرَى أنَّ الميزانَ المَوجُود في المَحاكِم إنَّما يرمُزونَ بِه إلى العَدل والقِسط؛ وعَدم بَخس النَّاس حُقوقِهم... وهذه هيَ المَعاني التي تَحمِلُها كلمَة "الميزان" في الآيَة الكَريمة! أي أرسَلنا رُسلَنا ليُقيموا العَدل في هذه البَسيطَة ويُحارِبُوا الظُّلم والظالِمين على مَنهَج: أمَّا مَن آمن وعَمل صالحا فلَه جزاء الحُسنَى وسنقُول لَه مِن أمرِنا يُسرا! وأمَّا مَن ظَلَم فسَوف نُعذِّبُه ثمَّ يُردُّ إلى ربِّه فيعذِّبه عذابا نُكرا!

ونَفس المَعنَى تَقريبا يتكرَّر في سُورة الشُّورى في قَولِه تعالى: { اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ} [الشورى : 17]؛ فكِتاب الله عزَّ وجل حَقُّ حَقيق؛ وميزان َطريس عادِل بِه تُوزَن جَميع الأفكار والمُعتَقدات والتَّشريعات؛ وتُعرَض عَليه لا العَكس!

ولا يغرُّنا العَطف في الآيَة لنقُول إنَّ الميزان شَيء آخَر مُفارِق للكِتاب؛ فالعَطف هُنا لتعدُّد الصِّفات لا للمُغايَرة؛ نَظيره قُوله تَعالى واصفا كِتاب مُوسى عليه السَّلام: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاء وَذِكْراً لِّلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء : 48] . فكُلُّ هذه أوصافٌ لمُسمَّى واحِد!

    نُورِد الآنَ آيَة في سُورة الحِجر تتعلَّق بالشَّيء المَوزون لا بالميزان؛ لنستبينَ مرَّة أُخرى أنَّ دَلالَة الموزُون ليسَت بالضَّرورَة دَلالَة مادِّية.

يقُول الباري المُتعال: {وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ} [الحجر : 19].

هَل رأى أحدُنا خُضرَوات وفَواكِه تنبُت مِن الأرض مكتُوب على ظهُورِها موازينُها؟!فهذِه عشرة كيلو؛ وهذه قنطار مَثلا؟

   كلمَة مَوزون هُنا بَمعنَى مُقدَّرة تَقديرا دَقيقا عادِلا بحكمَة ربَّانية بالِغة؛ فتِلك المَزروعات والجنَّات المَعروشات وغَير المَعروشات في مُختَلف أرجاءِ الأرض لا ذرَّة صُدفَة في نباتِها ولا عَشوائيَّة في تَوزيعِها... وما نُنزِّلهُ إلاَّ بِقدَر مَعلوم!

   إذا فهِمنا هَذا سهُل عَلينا جدا فَهم مَعنى الثِّقَل والخِفَّة في الميزان غَدا يَوم القيامَة! إن هُو إلا ثِقل قَدر المَرء عِند ربِّه أو خفّتُه بِحسب ما قدَّم مِن عَمل وِفق مِعيار "الحَق" الذي  يُعرَض عَليه جَميع الخَلائِق مِن غَير تَمييز ولا مَحسُوبيَّة.

   يقُول سُبحانَه: {وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَـئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ} [الأعراف :8- 9].

رُبَّما يتساءَل البَعض: لمَ قال تَعالى "ثقُلت موازينُه" ولَم يقُل "ثقُل ميزانُه"؟ أليسَ ذَلك دَليلا على أعمال تُوزَن وتُوضَع في الكَفَّة؟ وجوابَه أنَّ الله سُبحانَه وتَعالى يقوِّم عبادَه مِن زوايا عِدَّة؛ فهذا صَبر، وهذا جِهاد، وهذه مراقَبَة؛ وقربات ونوافِل وواجبات...الخ؛ وكُلٌّ مِن أولئك مِيزان مِن الموازين بِه يُعلى المَرء وبِه يُخفَض.

{ قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً.أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً [الكهف :103-  105].

   حتَّى نَقتَربَ مِن فَهم المَوضُوع أكثَر كَثيرا ما نَسمَعُ عبارَة مُتداوَلة في الأوساط كقَول أحَدِهم: "فُلان ذُو ثِقل في المُجتَمع"، أو فُلان ثَقيل الوَزن عِند الحُكومَة؛ فماذا يَعني القائِل بِهذه العبارَة؟! لا شكَّ أنَّه يَعني أنَّ فُلانا ذَاك بِخصائِص مُعيَّنَة ومواهب مُميَّزة؛ وبِكفاءَة علميَّة مُتفوِّقَة رُبَّما؛ استَطاعَ أن تكُون لَه كلمَة مسمُوعَة في مُجتَمعِه؛ وقَرارا نافِذا في دَولتِه وما شابَه ذَلِك.

   والحال أنَّك رُبَّما التفتَّ إلى قِوامِه فتلفاهُ نَحيفا هَزيلا! وقَد حُكِيَ قديما عَن الأحنَف بن قيس أنَّه لا يُوجَد في الرِّجال مَن هُو أكثَر دَمامَة ولا نَحافَة مِنه؛ وكانَ إذا غَضبَ غضبَ لغضبِه مائة ألف مِن قَومِه لا يَدرُون فيما غضب!

    الثِّقل في كِتاب الله عزَّ وجل بمَفهُومِه المَعنَوي ليسَ بِغريب؛ فحينَما أرادَ الباري عزَّ وجل أن يُصوِّر هَول قيام السَّاعَة ويُعظِّم مِن شأنِها وإشفاق أهل السماوات والأَرض مِنها؛ استَعمَل كلمَة "الثِّقل".

   يقُول تَعالى: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} [الأعراف : 187].

      ويقُول في سُورة الإنسان مُبيِّنا إعراض النَّاسِ عن الذِّكر والتَّسبيح والأَخذ بِعزائِم الأُمور: {إِنَّ هَؤُلَاء يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً}[الإنسان : 27].

   ونَفس الشَّيء يُقال بالنِّسبَة لمَدلول "الخفَّة" فقَد ورَد هِو أيضا بمَفهُوم مَعنَوي؛ بل إنَّ غالِب وُوردِه في كِتاب الله عزَّ وجل بمعناه المَجازي!

   ففي سُورة التَّوبَة يحثُّ الله سُبحانَه وتَعالى المُؤمنين للخُروج إلى القِتال في أيَّة حالَة كانُوا عَليها: فُقراء أو أغنياء، أصحَّاء أو مَرضَى، شُبَّانا أو كُهولا! ويُعبِّر عَن كُلِّ ذَلك ببيانِه المُعجِز الجامِع: {انفروا خفافا وثِقالا}. على جَميع التَّفسيرات المُختَلِفة واضِح أنَّ ثقَل الجُثمان وخفّته ليسَ مقصُودا بالآيَة.

وكذا في سُورة الأَنفال في سياق تَفصيل حُكم المُواجَهة بينَ المُؤمنين والكُفَّار وفي أيِّ مُستَوى عَددي يتعيَّن الصَّبر ولا يجُوز التَّخلُّف والتَّولِّي؛ عبَّر الله عَن تسهيلِ الحُكم وتيسيرِه على المُسلمين بلفظ "التَّخفيف"؛ كأنَّ هُنالِك حِملا ثَقيلا ينُوءُ ببعضِ الضُّعفاء مِن غير أولي العَزائِم رفَع الله عَنهُم بَعضَه رِفقا و رحمَة .

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ.  الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال :65- 66].

وهكذا الشَّأن بالنِّسبَة لموارِد التَّخفيف في عدَّة مواضِع مِن القُرآن.

   والآن لنُسلِّم جَدلا أنَّ هُنالِك موازين تُنصَب على الحَقيقَة كما تدَّعي كثير مِن " كُتب العقائِد"؛ فلنتأمَّل في سُورة القارِعة جيدا ثُمَّ لنتحاكَم بَعدها.

يقُول الباري عزَّ وجل بعد البَسمَلة: {الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (5) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)}.

   طبعا فإنَّ أولئِك القائلين بفكرة "الميزان" يَقصرُون مفعُولَه وأثَره على "المُوحِّد العاصي" الذي أتَى ب "لا إله إلا الله" وعملُه سيِّئ نَزِق! ولَكن كيفَ يستَطيعُون توجيه هذه الآيات الكَريمة في سُورة القارِعة؛ وهِي تتحدَّث عَن النَّاس! كُلِّ النَّاس بدُون استثناء!ثُمَّ تُقسِّمُهم بَعدَها إلى فريقين اثنين : فريق خفَّت موازينُه؛ وفريق ثقُلت موازينُه؛ ولا إشارَة لفريق ثالِث مَزعُوم أبدا!

نقُول لَهُم قَولا واحِدا لا ثانِيَ لَه: إمَّا أن تقُولوا بالميزانِ لكُلِّ النَّاس على جَميع مِللهِم؛ أو تَنفُوه عَن الكُل؛ أمَّا قصرُكم إيَّاه على "المُوحِّد العاصي" فتعسُّف لا دَليلَ له إلا الرِّوايات الظَّنيَّة التي لا تُغني مِن الحقِّ شَيئا!

    هذا وإنَّه لا ذِكر البتَّة لنَصب الميزان في السُّورَة الكَريمَة؛ بل في طُولِ القُرآن وعُرضِه؛ وإنَّما الحَديث عَن "الموازين" فقَط! فأمر عَظيم بِهذه الأهميَّة ألا يستَحقُّ أن يُشارَ إليه ولَو مُجرَّد إشارَة؟!

قَد يستَثقلنَّ عليَّ أحدٌ مِن القُرَّاء الكِرام إطنابِي في تفصيلِ مَوضُوع الميزان رُبَّما؛ ويقُول: لِم كُلُّ هذه الجَلبَة والمبالغَة في النِّقاش؟! ولَكن سيزُول عجبُه لَو أدرَك تأثيرَ هذا المَوضُوع في المِخيال الفكري والسُّلوكي للأمَّة الإسلاميَّة حقَّ الإدراك!

حكَى لي أحدُ الأصدِقاء أنَّه زارَ أحدَ مدارس (المُسلِمين) فلمَح لَوحَة حائِطيَّة في إحدَى الأروِقَة مُصوَّر عَليها ميزانا ذُو كفَّتان؛ على إحداها قرطاسا تتدلَّى مِنه أوراق ماليَّة (دَعوَة مِنهُم للتَّبرع للمَدرسَة)؛ وعلى الأُخرى زُجاجَة خَمر والعياذُ بالله؛ إشارَة مِنهُم إلى أنَّ الصَّدقات تمحُو الخَطايا؛ وتُطفئ غضبَ الرَّب! فلينظُر إحدانا بَعد ذَلك إلى ما سيؤول إليه أمرُ أولئِك الصِّبيَة المَساكين؛ وهُم يمرُّون على ذَلك المَنظَر المُعبِّر غُدوا ورَواحا! ولا نستَعجِب بعدَ ذَلِك أن نَجدَ أحدَهُم في المُستَقبَل وقَد غدا رجُل         َ أعمال مَشهُور أن يُؤسِّس قناة للخِنى والفجُور؛ ثمَّ يُؤسِّس جَنبَها قناة (إسلاميَّة)؛ ويقُول إنَّ هذه بتلك! وإن بقيَ شَيء فسُيلقيه الله يَوم القيامة على اليهُود والنَّصارى؛ وفي كُلِّ الأَحوال فالنَّجاة مَضمونَة بلا شَك! يبقَى الحَديث عَن دَرجتي في الجنَّة أتكُون في الأدراج  والسَّلالِم؛ أم في الفِردوس الأَعلى مَع النبيين والصِّديقين والشهداء والصَّالحين وحسُن أولئك رفيقا!

   لا أستبعِد (بل أعتَقد اعتِقادا راجِحا) أنَّ ما يُسمَّى ب "أحاديثِ فضائِل الأعمال" استُنبِتت في مشتَلة هذا الفِكر السَّقيم؛ فريحُها مِن ريحِه... ألا تَرى تِلك الأرقام الفلكيَّة وتلكَ العَطايا المُسيلَة لللُّعاب لمُجرَّد أعمال بسيطَة لا تتجاوَز ركعات أو صيام بِضعة أيَّام أو تحميدات وتهليلات مُعيَّنة؛ وكيفَ أنَّها تُذيبُ الخَطايا؛ وتُذهبُها ولَو كانت مِثل زَبدالبَحر؟!

   إلى كُلِّ من لا يَزال مُؤمنا بِهذه الرِّوايات ولا يَزال ساعيا لتَرويجِها؛ لا يسعُني في النِّهايَة إلاَّ أن أقُول لَه اتِّق يَوما تَرجِع فيه إلى ربِّك؛ وتِقف بينَ يديه؛ ويقُول الأشهاد: هَـؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود : 18]. وخَف أن يُحاجِجك أتباعُك قائلين لربّهم: ربنا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ! ويُجيبُ الباري:  لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ!

اجمالي القراءات 13393