لماذا يُهدر المجلس العسكرى سُمعته؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٤ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

منذ عشر سنوات أجرى مركز ابن خلدون استقصاءً للرأى العام المصرى عن ثقته فى المؤسسات العامة، وحظيت المؤسسة القضائية وقتها بالمركز الأول، تليها مُباشرة فى المركز الثانى المؤسسة العسكرية (الجيش)، ثم المؤسسة الدينية (الأزهر) فى المركز الثالث، فالمؤسسة الجامعية فى المركز الرابع. وجاء الإعلام وقتها فى المركز التاسع، ومجلس الشعب فى المركز العاشر (الأخير).

وحبذا لو قام مركز ابن خلدون أو صحيفة «المصرى اليوم»، باستقصاء مُماثل، لمعرفة ما طرأ من تغيير فى درجات ثقة المصريين بمؤسساتهم العامة، خاصة وقد قاربت ثورة ٢٥ يناير على إتمام عامها الأول.. وما زال العالم كله مُنبهراً بتلك الثورة، ومهموماً بتطورات الأمور فيها نحو مزيد من العُنف. وضمن ذلك ما صدم كثيراً من مُراقبى الشأن العلمى، لخبر احتراق مبنى «المجمع العلمى المصرى»، خلال المُصادمات بين الثوار الشباب وقوات الجيش والشرطة، فى قلب القاهرة، بين ميدان التحرير وشارع مجلس الشعب، وحيث توجد مجموعة مهمة من مبانى الوزارات والجمعيات.

وحينما يتم حصر خسائر مصر، فقد يسهل ذلك فيما أصاب الشعب من قتلى وجرحى، وما أصاب الاقتصاد من إهدار للثروة والإنتاج، وما أصاب المجتمع من تفسخ فى مؤسساته، ومن صراع بين طوائفه وطبقاته. ولكن سيكون من الصعب تقدير الخسائر الأدبية والمعنوية، ومنها ما لحق المتحف المصرى من سرقات، وما لحق مُقتنيات المجمع العلمى من احتراق. فرغم أن حياة البشر هى أغلى نعمة ربانية، إلا أن هناك ما يقرب من تسعين مليون مصرى، يتوالدون ويتكاثرون، ويُعوّضون وفياتنا. كذلك رغم أن آثار المتحف المصرى غالية، إلا أن من سطوا عليها، سيبيعونها، وستعود للظهور، إن آجلاً أو عاجلاً، فى أحد المتاحف العالمية الأخرى، أو عند تجّار التحف والآثار.

ولكن احتراق المُقتنيات التاريخية هو الخسارة التى لا يمكن أن تُعوّض. وهنا، نأتى إلى لُبّ هذا المقال عن مسؤولية المجلس العسكرى، وعما لا بد أن يلحق بسُمعته من خسائر، لا فقط لأعضائه كأفراد، ولكن للمؤسسة الكبرى التى يُمثلونها، وينتمون إليها، وهى المؤسسة العسكرية المصرية.

فحينما احتلت إسرائيل سيناء (١٩٦٧/١٩٧٣)، نبّه المؤرخون الإسرائيليون حكومتهم، إلى عدم المساس بالمُقتنيات التاريخية لدير «سانت كاترين». وفعلاً، رغم كل مباذل ذلك الاحتلال، إلا أن دير سانت كاترين ـ بسُكانه من القساوسة، ومُقتنياته من الآثار والمخطوطات تمت المُحافظة عليه تماماً، وذلك بشهادة رُهبان الدير، حينما زرناهم مع طُلابى من الجامعة، فى أعقاب تحرير سيناء، قبل ثلاثين عاماً. وهذا لم يمنع العُلماء والمؤرخين الإسرائيليين من التردد على دير سانت كاترين وتسجيل كل محتوياته. فهذه بالنسبة لهم أهم وأبقى من تسجيل أى مواقع عسكرية أو موارد اقتصادية.

ويحضرنى هنا حديث جرى بينى وبين الفريق مُنير شاش، أحد أبطال حرب أكتوبر، فى أعقاب تعيينه مُحافظاً لشمال سيناء، قال لى الرجل فى حضور طُلابى، إنه درس فى الكُلية الحربية، ثم فى كُلية الأركان، وفى دورات تدريبية مُتتالية كل جغرافية سيناء: جبالها، وتلالها، وممراتها، ووديانها، وشواطئها، وعيون المياه العذبة فيها، ولكن الشىء الذى لم يدرسه كضابط، هو أهل سيناء من البشر!

لذلك قرر الفريق المُتقاعد مُنير شاش لحظة تعيينه مُحافظاً لشمال سيناء أن «يدرس البشر»، بعد أن كانت دراساته السابقة عن «الحَجَرْ».

ولذلك كرّس الرجل الشهور الأولى من تسلمه مهام عمله كمحافظ، أن يملأ تلك الفجوة فى تعليمه ومعلوماته، بالقراءة المُكثفة، وبالزيارات الميدانية لكل قبائل وعشائر سيناء، شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، فقد اكتشف الرجل أن التقسيم الإدارى لسيناء شىء، وطبيعة الحياة الاجتماعية القبلية شىء آخر، فالقبائل والبدو يتجولون، ويرتحلون، سعياً وراء الماء والكلأ، لقطعانهم من الإبل والماعز والماشية، وفى هذا التجوال اليومى والترحال الموسمى، لا تعنيهم الحدود الإدارية بأى شكل من الأشكال، وإن ولاءهم هو للقبيلة والعشيرة والقطيع، قبل أن يكون للدولة أو الوطن، أو الأمة ـ مهما قال المسؤولون فى القاهرة!

إن استطرادنا فى هذه النقطة عن الفجوات فى تعليم وثقافة أفراد المؤسسة العسكرية، هو لهواجسى حول معرفة وتدريب الجيل الحالى من أبناء هذه المؤسسة، وعما إذا كانوا بشجاعة المرحوم مُنير شاش، الذى اكتشف قصور معرفته ومعلوماته حينما تولى منصباً سياسياً، لم يكن قد استعد له. دارت هذه الأفكار والتساؤلات بخاطرى، أثناء حديث عابر مع مهندس مصرى شاب صادفته فى مطار «زيورخ»، يعمل فى شركة شِل للبترول، فى طريقه إلى مقر عمله بمدينة «هامبورج» الألمانية، واسمه خالد، وكان عائداً لتوّه من القاهرة، وحينما سألته عن الأخبار، كان حادث المجمع العلمى المصرى، هو أول الأخبار التى سردها، ودمعه مُحتبس فى عينيه..

ثم سألنى بصوت حزين: «هل نستحق هذا الذى يحدث لنا، ولتراثنا؟!» ورغم تأثرى بحزن هذا المهندس الشاب، إلا أننى حمدت الله أنه يوجد أمثاله من أبناء مصر الذين يُدركون عظمة تاريخهم، ويتألمون لما يُصيب تراث أجدادهم من خسائر وأضرار. ولعل المهندس خالد يفعل مثلما فعل الفريق مُنير شاش، فيدعو، ثم يعمل حملة لإنقاذ بقايا المجمع العلمى المصرى، وترميم مُقتنياته، وإعادة بنائه بنفس التصميم المعمارى، والذى كان سمة مُميزة لمعمار «القاهرة الخديوية».

إن هذه دعوة لمؤسستنا العسكرية أن تسدّ أى فجوات فى تعليمها ومعارفها عن المُجتمع والدولة فى مصر، أسوة بما فعله أحد أبنائها العظام، حينما تولى مسؤولية إدارة شمال سيناء، لذلك ما زال أهل سيناء يذكرون الرجل بالخير، ويترحمون عليه. فهل سيذكر أبناؤنا المجلس العسكرى بالخير.

وعلى الله قصد السبيل

اجمالي القراءات 8997