هل الإسلام في مواجهة الأقليات الدينية في كُردستان أم هناك أبعاد أخرى

على سيرينى في الإثنين ١٩ - ديسمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

هل الإسلام في مواجهة الأقليات الدينية في كُردستان أم هناك أبعاد أخرى

علي سيريني

 

تنطوي الأحداث الأخيرة التي شهدتها مناطق كُردستان المحاذية للحدود التركية، على أبعاد ذات مغزى ودلالات أبعد مما تبدو على السطح السياسي الذي تدور عليه سجالات وتشابكات بين أحزاب المعارضة لاسيما الإسلاميين، وبين السلطة وخصوصا الحزب الديمقراطي الكُردستاني بزعامة السيد مسعود بارزاني، الذي يسيطر فعليا على تلك المناطق التي شهدت الأحداث.

قبل أيام حرّض خطيب جمعة حشداً من الناس في بلدة زاخو التابعة لمدينة دهوك، على مهاجمة مراكز التدليك التي يُعتقد أنها تقوم في الخفاء بتقديم خدمات منافية لقيم الدين. وفعلاً فقد تم حرق تلك المراكز، ويظهر الخطيب في فيديو متوفر على النت، أن الشخصيات الرسمية والحكومية توافق على طلباتهم بإزالة هذه المراكز. ومن المفارقات أن الخطيب المذكور هو من المقربين من الحزب الديمقراطي الكُردستاني. لكن المفاجأة الغريبة حقاً، كانت في ردة فعل معاكسة على عدة مقرات حزبية وإعلامية للإتحاد الإسلامي الكُردستاني في محافظة دهوك وأقضيتها، حيث تم حرق المقرات وما تحتويها. وسبق أن تعرضت مقرات الإتحاد إلى هجمات مماثلة في عام 2005 على يد مسلحي الحزب الديموقراطي الكُردستاني، فضلاً عن إغتيال كوادر قيادية للإتحاد. لكن الحجة والتبرير يختلفان في طبيعة الهجوم بين عامي 2005 و عام 2011 ونحن الآن في أواخره. كان رد فعل الخارجية الأمريكية سريعا، إذ أدانت "عمليات إستهداف الأقليات الدينية في كُردستان" كما جاء على لسان الناطق الرسمي بسم الخارجية وفق مصادر اعلامية كردية!

هذه الأحداث تنكسر على إحتمالات متعددة، يجمع بين جلّها خيط مشترك، ولا يضير في الإستنتاج النهائي لفهمها، تفرّد كلّ إحتمال بموضوع مستقل يترأى كجوهر منفصل عن الإحتمالات الأخرى. على أن الإحتمال هنا ليس صيغة لقراءة الغموض، وإنما تجنبٌ للخوض في فرض المؤكد الذي لا يقبل الشك على الواقع الكُردستاني، وبالتالي تقديم ما هو أقرب إلى منطق الأحداث وأغراضها.

يتفرّد الحزب الديموقراطي الكُردستاني، بسلطة مطلقة في المناطق التي يصطلح عليها بـ "بادينان" وهي محافظة دهوك ونواحيها. وبما أن العائلة البارزانية تنتمي إلى تلك المناطق التي تتميز بلهجة مختلفة عن اللهجة السورانية، وهذا ما يتأسس عليه التقسيم الثقافي الكُردي، فإن القناعة الراسخة لدى العائلة المذكورة التي تقود الحزب الديموقراطي، لم تقبل يوما إحتمال وجود قوة أخرى تشارك في الإدارة والسلطة في تلك المناطق. وهذه القناعة أصبحت بمثابة "الثوابت المقدسة" لدى الديموقراطي، في غضون الإقتتال الداخلي في تسعينيات القرن الماضي، بينه وبين الإتحاد الوطني الكُردستاني بزعامة السيد جلال طالباني. لكن مع بروز الإتحاد الإسلامي الكُردستاني بزعامة السيد صلاح الدين بهاء الدين، منذ عام 1994، تعرضت القناعة المذكورة إلى هزة عنيفة. وأصبحت المعادلة ممزوجة بهواجس القلق، تجاه تنامي شعبية الإتحاد الإسلامي وبروز نجمه. وما يشكل الخطر الأكبر على شعبية الديموقراطي كان منهج الإتحاد السلمي البعيد عن العنف، مما جعل البحث عن الحجج والتبريرات للقضاء عليه صعبا جدا، لأن الإتحاد المذكور ليس سوى حزب مدني إسلامي غير مسلح، ولم يخض يوما أي إقتتال أو حرب. لكن بسبب دخول الإتحاد في حوار مع الجهات العراقية الحكومية والمعارضة، كحوار عراقي وطني موسع في عام 2005، والذي رفضه الحزبان الكُرديان الحاكمان، وجد الديموقراطي بزعامة بارزاني ضالته في تبرير ضرب مقرات الإتحاد الإسلامي وإستهداف أعضائه، وكان له ما أراد لتوجيه ضربة موجعة له بحجة "الخيانة" و "العمالة للخارج"!

لكن شعبية الإتحاد على عكس السابق، تصاعدت أكثر ونالت تعاطفاً جماهيريا حتى من قطاعات غير إسلامية. وواجه الديموقراطي الحرج بل وأزمة سياسية أستثمرت من قبل المعارضة السياسية المتنامية ضده. وفي الوقت الذي شهد ويشهد إقليم كُردستان فساداً إداريا عظيما، عانى الديموقراطي أزمات حقيقية تكمن في قلّة المعرفة السياسية، بسبب خلو صفوفه من المفكرين والخبراء الأكاديميين القادرين على استيعاب العملية السياسية. وبالتالي فإن الفوضى ظلت تلازم صفوف الحزب وقيادته، وغلب الإرتجال والعفوية على شؤونه. وتململت سياسة الحزب الديموقراطي في الأثناء بين إنغلاق شبه كلي على ما تمليه عائلة السيد مسعود بارزاني، وبين ما كانت الدوائر الغربية تمليه على الحزب بصيغة الإقتراح، عبر مستشارين غربيين، كانت لهم صولة وجولة في تحديد سياسة الديموقراطي في شؤون كثيرة، مثل "بيتر كالبيرث" وآخرون كثر. وفي هذا المجال هناك تناغم ثنائي غير متكافئ بين الحزب المذكور، والدوائر الغربية المعنية بشؤون المنطقة. ولا يبدو أن الحزب الديموقراطي الكُردستاني يأبه بتجارب الأنظمة التي غازلت الغرب كثيرا، ثم واجهت حتفها المؤلم. والسبب كما قلنا، يكمن في القراءة الخاطئة وسوء الفهم لطبيعة العلاقة بين القوى الخارجية الكبيرة والقوى المحلية الصغيرة. مع العلم أن من يقرأ جوهر العلاقة الكامنة بين الجهتين، يلاحظ بوضوح مكامن الخلل الكثيرة، التي تبدي شرحا واضحا عن فشل هكذا علاقة من تحقيق شئ ما للقوى المحلية وأهدافها.

منذ مدة ليست بقليلة، هناك محاولات جادة لتشكيل منطقة أو محافظة خاصة بالمسيحيين في العراق، بحجة تعرضهم لـ "الإضطهاد" و "الإبادة". وهذا الأمر الغريب حقا، أي عزل شريحة من المجتمع بحجة وجود العنف ضدهم، على خلاف الإدعاءات التي رافقت عملية سقوط نظام صدام حسين، في إنشاء مجتمع متعدد وديموقراطي، يؤكد وجود مخططات معينة تجري في الخفاء. فهل يتم إذاً عزل المكونات الأخرى في العراق بالحجة نفسها لأنها تتعرض للعنف؟

هذا الطرح أبداه طالباني علنا، ويعمل من أجله بالمشاركة مع بارزاني. المسيحيين في العراق، يحلمون في الواقع ـ خلاف ما يعلنون ـ بهكذا مشروع، لأنه قد يجسد حلمهم بإنشاء أرض خاصة بهم، لتكون نواة دولة في المستقبل، على غرار الشتات اليهودي الذي أسس كيانه في فلسطين. وبما أن الكثيرين من المسيحيين هربوا جماعياً من العراق، وبسرعة قياسية، نحو كُردستان (وهذا الأمر ملفت للنظر أيضاً ويثير شكوكا قوية حول هوية مستهدفيهم في بغداد ومحافظات الجنوب حيث تسيطر قوات التحالف الغربي!)، فإنهم بذلك وجدوا الملاذ الآمن، نظرا لتمتع كُردستان بالعيش السليم بين المكونات المختلفة. ولكن الأمر بدا على هذا النحو إحباطاً للمشروع المذكور، أي إيجاد منطقة خاصة بالمسيحيين. وفي نفس الوقت زار بارزاني ـ بدعوات رسمية ـ دول الغرب عدة مرات، بما فيها دولة فاتيكان سرا وجهارا. وقد يكون الطرح المذكور قد جاء من تلك الدوائر الغربية. ولكن لكي تكتمل الطبخة، كان لزاما صنع مشهد يبدي المسيحيين غير آمنين حتى في كُردستان. ولا يهم إن كان هذا السيناريو ضعيفا، فالمهم إيجاد حجة لتهيئة الأرضية لمشروع إنشاء منطقة عازلة خاصة بالمسيحيين. وما يثير الشكوك حول الأحداث التي جرت، أنها دبّرت بضعف كبير في الإخراج، حيث تم ربط بيوت التدليك والخمارات بالمسيحية، ومن جهة أخرى ألصقت تهمة العنف والتعصب الديني بالإتحاد الإسلامي الكُردستاني. وماكانت الصورة لتكون أفضل شكلاً، بإقحام جماعات إسلامية لها باع في العنف أو كان لها نشاطات مسلحة في السابق، نظرا لعدم وجود قواعد لها في تلك المناطق، فكان الإختيار الوحيد (والضعيف في آن) قد وقع على الإتحاد الإسلامي. وما يؤكد ذلك جملة أسباب: أولاً، لو افترضنا أن الناس هاجموا الخمارات وبيوت التدليك، بتحريض من الإتحاد أو بدونه، فما وجه العداء للمسيحية هنا، هل المسيحية تعني الخمارات وبيوت التدليك؟ ثانياً، الناس المحرضون هاجموا مراكز التدليك ومتاجر الخمور لا الكنائس والصوامع، فلماذا قام إعلام الحزب الديموقراطي منذ البدء، بإستخدام مصطلحات لا تمت إلى الواقعة بصلة مثل: التعايش السلمي بين الطوائف، حرية الأديان، حماية المسيحيين واليزيديين؟

إذن فإن الأمر على هذا النحو يحمل في طياته دلالات تحتاج إلى فك الرموز، وتحليل دقيق لما يدور خلف الستار. وقد يقول قائل أن لتركيا يد في الحوادث، لكونها تقع على الطرف الآخر من الحدود ولها حضور قوي داخل كُردستان العراق، لكن الأمر مرة أخرى يتعلق ببنية ومحتوى الحزب الديموقراطي الكُردستاني سواء كان مستفيداً أو خاسرا. فهذا الحزب يعاني تفاقما وفوضى كبيرين في صفوفه، حيث تبني قواعده علاقات مشبوهة ولوجستية مع مخابرات دول الجوار، دون علم قيادة الحزب، من أجل إمتيازات مادية في ظل الفساد المستشري. وهذا ما يسهل تدخل دول الجوار، والدول الأخرى في شؤون الإقليم. وأثناء لقاء كاتب هذه السطور ببعض المسئولين في الحزبين الحاكمين في أعوام 7-2006، أكد معظمهم وجود هكذا علاقات بين أفراد كثيرين من الحزبين بدول الجوار سرّاً!

إن تخبط وعشوائية السياسات الداخلية للديموقراطي، ومحاكاته للإرتجال والعفوية العشائرية، ومن ثم إستجاباته السريعة للعروض الخارجية، ومن ثم غلبة العقلية الإقطاعية في إدارة الإقليم، تهيئ الأجواء أمام السياسات الغامضة وغير المحمودة العقبى، وبالتالي فإن تناغما مستمرا، بين أمور متفرقة (قد تفتقد الى وحدة موضوعية بينها)، سيخلق الأجواء التي تحمل مفاجئات غير سارة، كإستياء الجماهير من الفساد الحزبي والحكومي، وتعاظم شعبية الأحزاب المعارضة في مناطق الديموقراطي التاريخية، وتدخل الدول الإقليمية مضافاً إليها إرادات دول غربية لسياسات معينة في الداخل. والأهم من ذلك، ان الهجوم على مراكز التدليك ومتاجر الكحول لم يكن بدافع ديني بحت، وإنما تعددت الأسباب من إقتصادية و سياسية، كون هذه الأماكن تشكل رمزا للرخاء الفاسد للطبقة الحاكمة أمام شرائح واسعة معدومة من المراتب الدنيا من العيش، وكون بعض المتاجرين في هذه الأسواق أو المستفدين من مسئولي السلطة، لكن النتيجة كانت مبكية ومضحكة في آن: حرق أماكن الخمور والتدليك، فُسّر من قبل الحزب الديموقراطي الكُردستاني، أو على الأقل مناصريه، على أنه إستهداف للأقليات الدينية، لكن حرق مقرات الإتحاد الإسلامي لم يحلل على أنه إستهداف للإسلام، أو على الأقل هجوما على الحريات العامة والقانون! والأنكى هو الضرر الكبير الذي سيجنيه الديموقراطي من هذه الأعمال عاجلا أو آجلاً.   

اجمالي القراءات 9856