نظرات متجددة في رحاب سورة الكوثر
سورة الكوثر بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
بين يدي السورة :
1. السورة مكية التنزيل أي أنها تنزلت قبل الهجرة.
2. ترتيب نزولها هو 15 أي أنها تـنزلت في العام البعثي الأول ،
3. عدد آيات السورة 3 آيات، ترتيب السورة التوقيفي هو 108 .
4. عدد كلمات السورة 10 كلمات، نصفهم خصت به سورة الكوثر
وهي الكلمات ..أَعْطَيْنَاكَ.. الْكَوْثَرَ (1) .. .. وَانْحَرْ (2).. شَانِئَكَ .. الْأَبْتَرُ (3)
والخمس كلمات الأخرى تكررت في غيرها من السور
منها ثلاثة أدوات وهي إِنَّا .. .. (1) .. .. .. (2) إِنَّ .. هُوَ .. (3)
ولفظين وهما .. .. .. (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ .. (2) .. .. .. .. (3)
تفسير سورة الكوثر أولا : تفسير الجلالين
1 - (إنا أعطيناك) يا محمد (الكوثر) هو نهر في الجنة هو حوضه ترد عليه أمته والكوثر الخير الكثير من النبوة والقرآن والشفاعة ونحوها
2 - (فصل لربك) صلاة عيد النحر (وانحر) نسكك
3 - (إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) المنقطع عن كل خير أو المنقطع العقب ، نزلت في العاص بن وائل سمى النبي صلى الله عليه وسلم أبتر عند موت ابنه القاسم
ثانيا : التفسير الميسر
1 - إنا أعطيناك -أيها النبي- الخير الكثير في الدنيا والآخرة, ومن ذلك نهر الكوثر في الجنة الذي حافتاه خيام اللؤلؤ المجوَّف, وطينه المسك.
2 - فأخلص لربك صلاتك كلها, واذبح ذبيحتك له وعلى اسمه وحده.
3 - إن مبغضك ومبغض ما جئت به من الهدى والنور، هو المنقطع أثره، المقطوع من كل خير.
تعليق :
لو سلمنا جدلا بصحة ما ذهب إليه فقهاء السلف من التفسير، فلسوف يبرز على الفور عدة تساؤلات
ففي الآية الأولى مثلا { إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) }
ماذا ينفع النبي أن يكون له خصوصية إمتلاك نهر خاص به في الجنة؟
والجنة بها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر..!!
قد يصير مفهوما لدى البعضأن يعلموا أن هذا النهر سوف يمنح للنبي خارج الجنة ، حتى ينعم به من هم يحاسبون الآن ، أما وقد أشار التفسير إلى أنه نهر في الجنة ، فما الفائدة المرجوة منه ، وما هو المحفز للإيمان بذلك؟؟
وفي الآية الثانية سوف نجد { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) }
إننا لو أخذنا بالمعنى الذى ذهب إليه مفسرو السلف في هذه الآية ، فالمعاني تشير إلى ورود ذكر شعيرتين من أهم شعائر المسلمين، ألا وهما الصلاة والحج، ذلك لأن النحر هو أحد المناسك المهمة في شعيرة الحج .
ونظرا لأن سورة الكوثر وكما جاء في تقديمها من كونها مكية وأنها تنزلت على رسول الله في العام البعثي الأول، لكن الناظر المتأمل في تزامن الأحدث سوف يجد أن الصلاة فرضت في ليلة الإسراء، وهذه كانت في العام البعثي العاشر ، أي أن الفارق الزمني بين تنزل سورة الكوثر وبين فرض الصلاة بشكلها المعروف كانت عشر سنوات، كذلك فريضة الحج فرضت في العام التاسع الهجري، بما يعني أن الفارق الزمني بين تنزل سورة الكوثر وفرض الحج كان عشرون عاما.
فكيف يعقل إذن ... أن يذكر الله منسكين في شعيرتين لم يكونا قد فرضا بعد !!!؟؟؟
ومن ناحية أخرى ، أنه من المعلوم عند الكافة أن صلاة العيد سنة نبوية مؤكدة، لكن حين يقول الحق
{فَصَلِّ..} ، فلا يكون هناك شك في كون هذه الصلاة فرضاً مفروضاً ولا تكون بحال سنة من السنن.
أما ثالث الآيات وآخرها : {إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }
شانئك تعني مبغضك أو كارهك أو معايرك
الأبتر تعني الأقطع ، وأبتر الذكر أي ينقطع ذكره عنده ، فليس ثمة ذكور من أولاده يحملون إسمه من بعده.
نعود للتسليم جدلا بأن المعاني التي ذهب إليها السلف،هي التي تعنيها كلمات السورة ، ومعها فلا زالت الأسئلة تترى على الذهن في صورة تساؤلات متلاحقة،
ماهي علاقة الكوثر كنهر في الجنة ممنوح إلى رسول الله يوم القيامة، بمعنى الآية بعدها والتي تقول أن يوم عيد الأضحى عليك أولا أن تبادر إلى سـُنة الصلاة - صلاة العيد - ثم بعدها أتمم نسك الذبح - ذبح الأضحية -، ثم الى الآية الأخيرة والتي تومئ إلى أن ثمة من يعايرك بأنك أبتر الذكر لخلو أولادك من الذكور وانقطاع عقبك منهم ؟؟؟؟؟؟
من الواضح أن ذلك يعني أن معنى كل آية منها هي وحدة قائمة بذاتها ، وليس لها أية علاقة بما يليها ولا يسبقها من آيات ، وهذا لا يمكن أن يكون في سور كتاب الله، شديدة الترابط، شديدة التواسق.
إذن لابد لنا أن نعمل أفكارنا في البحث عن نظرة جديدة ومتجددة، للوصول إلى تدبر أوقع ،أقرب إلى الإقتناع، وأيسر في الإقناع من هذا الذي قيل من قبل.
الخاطرة الأولى :
الآية الأولى: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
الكوثر هو اسم لجمع الجمع من الكثرة ، وتجمع على كوثر بالواو وكيثر بالياء، وتعني هنا أن الحق يخاطب بالقرآن متلقيه الأول ألا وهو رسول الله صلوات الله وسلامه عليه، وكذا يخاطب متلقيه الأخير الآني - أيْ الـشخص الذي يقرأه الآن وللقراء في كل الأزمان - ذلك بأن الحق يمتن على عباده بدءاً بمحمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى كل من يتدبر هذه الآيات بالنعم الكثيرة المتعددة وهي عطاء متجدد من الله جل وعلا ممتد إلى ما شاء الله لهذه الحياة من امتداد.
الآية الثانية : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
أما ثاني هذه الآيات فهي تشير إلى وجوب شكر الله على هذه النعم الكثيرة، والتي جاد بها المنعم على عباده، ويعلمنا الحق أن أحد صور هذا الشكر هو الصلاة ولا تعني لفظة الصلاة هنا أنها الصلاة المفروضة فحسب، بل تومئ أيضا لصلاة التطوع والنوافل ، ولا يقتصر الأمرعلى آداءها بالصورة النمطية المتعارف عليها من قيام وركوع وسجود ، بل لابد وأن تؤدى بما يتوجب لها من الخشوع القلبي، والخضوع الوجداني.
وفي النهاية يأتي عجز الآية { ...ِ.... وَانْحَرْ (2) }
والتي تشير إلى نوع آخر من أنواع الشكر ألا وهو نحر ذبائح الصدقة، لتوزيعها على الفقراء والمساكين ، إذن الأمر في هذه الآية لا يعني أن هناك تعاقبا مفروضا بينهما، فهما وسيلتين مختلفتين لتقديم الشكر إلى لله، ولا إلزام هناك بضرورة آداءهما معاً، أو أنهما متعاقبتين .
وهكذا نكون قد ربطنا بين ما تشير إليه كلا من الآيتين الأولى والثانية من سورة الكوثر.
الآية الثالثة : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3) }
وفي بساطة تعني كلماتها ما ذهب إليه كثير من المفسرين، من أن
(إن شانئك) أي مبغضك (هو الأبتر) المنقطع عن كل خير أو المنقطع العقب ،
أو أن ، إن مبغضك ومبغض ما جئت به من الهدى والنور، هو المنقطع أثره، المقطوع من كل خير.
فإذا إعتمدنا هذه المعاني فسوف نجد أنه لا علاقة بما جاء في الآيتين السابقتين ، من معانٍوبين معاني هذه الآية، ويعني هذا وجود خطأ ما في تعبير أيهما...!!
إذن لابد وأن يكون هناك خاطرة أخرى للغوص في إتجاه أخر نحو استجلاء معاني الآيات.
الخاطرة الثانية :
الآية الأولى : إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1)
لن يذهب بنا الفكر عند تدبر هذه الآية بعيدا عما سبق وأشرنا إليه، من كون الكوثر هو تكثير الكثرة من النعم، والتي أنعم بها المنعم على عباده مبتدءاً برسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وانتهاءً بالقارئ الآني في كل العصور، إلا أننا سوف نركز الضوء على نعمة بذاتها ، وهي وإن كانت في الظاهر تبدو وكأنها نعمة واحدة ، لكنها في الحقيقة هي كيثر من النعم ألا وهي كتاب الله وقرآنه العظيم ، فهو المنهج والدستور ، من عمل بما جاء فيه نجا ، ومن خالفه ضل سواء السبيل .
إذن الكوثر هو قرآن الله الحكيم، ومجمع نعمائه ، وهي عطاء الله لعباده ، وكيثر فضله .
الآية الثانية : فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2)
صدر هذه الآية يشير إلى طبيعة الشكر ، أو كيفية الشكر ، وحسبما أراد الله بالصلاة ، لكنا أومأنا إلى أن فرض الصلاة لم يكن قد فـُرض بعد.. وقت تنزل سورة الكوثر، وهذا يعني الذهاب إلى عموم معنى الصلاة من كونها تعني دوام الصلة بالله، وديمومة التواصل مع الله بالدعاء وبالتسبيح والذكر والذي هو في حقيقته يعني أن يكون الله في قلبك في حركة حياتك اليومية، وأن يكون مقصود عملك هو رضى الله، وأن يملأ اليقين وجدانك بأن الله معك أينما كنت، أي.. أنها صلاة قلوب.. لا.. صلاة قوالب، وصلاة مشاعر.. لا.. صلاة شعائر.
هكذا.. وهكذا فقط تكون قد أديت بعضا من واجب الشكر لله على ما أنعم به عليك من النعم.
واستخدم فيها الحق أيضا صفة الربوبية ولم تظهر هنا صفة الألوهية، ذلك لأن عطاءات الله تكون في الجانب الذي يمس العقيدة والإيمان، أما هبات الرب فتكون في جانب النِعَم المحسوسة ، والأشياء الملموسة من مخلوقات الله لدنيانا الأرضية، وبما يتناسب مع إمكانياتنا البشرية من تفاوت لإستقبال ما يترى من النعم، فكلُُُ ُ ميسر لماخلق له.
ثم يأتي عجز الآية { ...ِ.... وَانْحَرْ (2) }
ويتوجب هنا وفي هذا المقام، أن أعيد لفت الإنتباه إلى أن كلمة { وَانْحَرْ }هي واحدة من خمس كلمات تفرد ظهورها في سورة الكوثر تفردا مطلقا ، بمعنى أنها ظهرت لمرة واحدة فقط في عموم القرآن، وفقط في سورة الكوثر ، وقد يدفعنا هذا للتساؤل ، هل يعني هذا أن لكل كلمة من هذه الكلمات الخمس معنى واحد محدد ولا يمكن لنا أن نحيد عنه إلى أي معنى آخر..؟؟
حدا بنا هذا ، إلى أن نجري عدة بحوث فرعية خاصة حول تلك الكلمات التي تمس عملية فصل الرقبة عن الجسم،ذلك فيما استخدم للتعبير عن هذه العملية من جذور كلمات القرآن الكريم
ونبدأ في عرض ملخص موجز للمعلومات التي أظهرتها هذه البحوث
أولا : الجذر ( ذ . بـ . ح ) عدد الإشتقاقات : 8 ، عدد الإستخدامات : 9 ، عدد التخريجات : 1
ثانيا : الجذر ( عـ . قـ . ر ) عدد الإشتقاقات : 3 ، عدد الإستخدامات : 5 ، عدد التخريجات : 2
ثالثا : الجذر ( نـ . حـ . ر ) عدد الإشتقاقات : 1 ، عدد الإستخدامات : 1 ، عدد التخريجات : 1
تفرد مطلق في الآية الثانية من سورة الكوثر، وعلى الصورة (وَانْحَرْ).
رابعا : الجذر ( ر . قـ . ب ) عدد الإشتقاقات : 12 ، عدد الإستخدامات : 24 ، عدد التخريجات : 5
وكلها تشير إلى تحرير الرقبة من الأسر، وجاءت لمرة واحدة فقط بمعنى الرقبة التي
تحمل الرأس في الجسم البشري { فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى ...(4) } محمد
خامسا : الجذر ( عـ . نـ . ق ) عدد الإشتقاقات : 4 ، عدد الإستخدامات : 9 ، عدد التخريجات : 1
وكلها تشير إلى الأغلال في الأعناق
وإثنتين من الآيات هما فقط اللذان يشيران إلى العنق والذي يحمل الرأس الآدمية
{ ... فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) } الأنفال
{ ... آَيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) } الشعراء
وجاءت بصيغة الوعيد والإنذار وجاءت مرتبطة بالمشيئة غير المـُفعَلة
سادسا : الجذر ( صـ . د . ر ) عدد الإشتقاقات : 9 ، عدد الإستخدامات : 46 ، عدد التخريجات : 4
وجاءت كلمة الصدر فيها كلها - المفردة والجمع - بما يفيد أنها تعبر عن مكنون
الفؤاد وهو غيب ولا يعلمه إلا الله، وتفردت آية واحدة منها بأن أشارت إلى
المعنيين، الصدر بمعنى القفص الصدري، والصدر الوجداني.
{ أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا
يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) } هود
ويظهر من الموجز سابق العرض أن القرآن الكريم يـُجـَوِز استخدام المعاني بغير شائع استخداماتها في الحياة العامة، فنرى أنه لم يستخدم كلمة رقبة سوى مرة واحدة بمعناها الدارج، ولحقت بها كلمة العنق في استخدامها لمرة واحدة، وكذا في حالة لفظة الصدر.
كما أننا نلاحظ أن الذبح استخدم لفظه تسع مرات، والعقر ورد في خمس حالات، واقتصر استخدام كلمة
( وَانْحَرْ )على سورة الكوثر، ، ألا يدفعنا هذا إلى البحث عن معني غير دارج لهذه الأمر.
الشاهد أنه بالبحث في معجم لسان العرب وجد أن هذه اللفظة تعني في أحد معانيها إنحر برأسك عالياً واشمخ بها رفعةً في إعزاز واعتزاز وشمم، هي إعزاز لما من َّ الله به عليك بالوحي بهذا القرآن، واعتزاز بالنفس ثقة بالله وبها عن الصغائر والذي يتقول بها الحاسدون لك والمبغضون لمسيرتك ، وشمم عن الرد عن مثل هذه الترَّاهات العرفية والتفاهات القبلية والتي يرددها من هم نكرات من قليلو الذكر ومن الباحثين عن الشهرة وذيوع الصيت.
وبعد هذه السياحة القرآنية، نستطيع أن نربط بين معاني الآيات الثلاث والتي وردت في سورة الكوثر على النحو الآتى :
يشير الحق إلى العطاء المتجدد والذي أنعم به على عباده ألا وهو القرآن الكريم، ومطلوب الله من عباده بالحرص على دوام الصلة به والتواصل الدائم معه بالدعاء والذكر ، والقراءة الدائمة والتلاوة المستمرة والترتيل المتأني للقرآن، وتدبر المعاني، والأخذ بأحكامه، والعمل بما فيه، على أن يشعر المرؤ دائما بالإعزاز لنفسه لمنح الله له كل هذه النعم ، والإعتزاز بخالقه للتيقن بوجوده الدائم معه بتواجد القرآن في قلبه، والزهو بما أنعم الله به عليه من نعمائه، ذلك دون الإلتفات أو التأثر بما يتقول به بعض المبغضون والحاسدون مما لم تتنزل عليهم مثل هذه النعم، من محاولات للإقلال من المكانة التي هو عليها والعزة التي هو فيها ، فهم الأبترون من النعمة، المقطوعون من القرب، المحرومون من رحمة الله.