تساؤلات مبدئية حول الثورة

كمال غبريال في الإثنين ٠٧ - نوفمبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

في ثقافتنا الشرقية نعد التساؤل اتهاماً، ونعد النقد والتفحص عداء، في حين أنه لدى الشعوب المتقدمة آلية لا غنى عنها، ترافق أي تحرك أو فعالية تقوم بها، لكننا من موقع كاتب هذه السطور المنتمي بكل كيانه إلى ثورة رأى أنها فرصته الذهبية والأخيرة لكي يرى مصر حرة، وليمضي البقية المتبقية له من العمر ينعم بحرية حقيقية، لا يمكن أن نكون معادين للثورة. . كما أننا لسنا بالسذاجة التي تفترض في الثورات الملائكية أو العقلانية المطلقة، لكي نبغي بالنقد أو التحليل العلمي إدانة أو تزكية الهبَّة المصرية في 25 يناير 2011، فلم يسبق لأي من شعوب العالم أن قام بثورة مخططة مسبقاً بالورقة والقلم، ثم تم تنفيذ المخطط بدقة جراحية، لتأتي النهاية السعيدة بسرعة نهايات الأفلام العربية!!
علي بداية أن أكون واضحاً مع القارئ، أنه ليست لدي هنا أية إجابات عما أطرح من تساؤلات، فأقصى ما قد أصرح أو أضن به هو شكوك هائمة، مبعثها ما شاهدناه ونعيشه من أحداث جسيمة وتخبط، ما لم نعي بتفاصيلها، يستحيل علينا عبورها إلى أي مكان تحت الشمس.
نعم الممسكون بمقاليد الأمور يظاهرهم الجسد الأساسي لنظام مبارك يحاولون إفراغ الثورة من مضمونها أو قتلها، لكن الثورة ذاتها بمن التحقوا بها وصاروا جزءاً منها لم تعد فقط وبالتحديد ثورة "عيش وحرية وكرامة إنسانية"، بل نراها بجانب هذا "ثورة ضد النصارى والمرأة والسياحة والحداثة والرأسمالية والصهيونية العالمية والإمبريالية الأمريكية". . لتبدو هكذا كما لو كانت وحشاً منفلتاً يتحرك في كل الاتجاهات، مهدداً بالتهام البلاد والعباد، وبتصحر خضرة الحقول بامتداد وادي النيل، أو كما لو كنا نعود إلى المربع رقم واحد، وهو الاختيار بين نارين أو كأسين أحلاهما مر مرارة العلقم، بين النظام المباركي أياً من كان على رأسه الآن أو غداً، وبين الهمجية والظلامية باسم ثورة ركبها أسافل الناس وأشدهم تخلفاً!!
أتمنى أن يتم اليوم وليس غداً تكليف لجنة علمية، تقوم بتقييم فعاليات الثورة أو الهبَّة المصرية، لكي نستطيع فصل كل نوع من الفعاليات على حده، ليمكن تصنيف هويات مختلف المكونات المجتمعية التي صنعت الثورة، ليس فقط في يومها الأول أو الثلاثة أيام الأولى منها، بل ومنذ هذا التاريخ وحتى تلك الليلة التي تم فيها مداهمة مقار أمن الدولة وحرقها واقتحامها، فهذا سيفيدنا كثيراً في تصحيح مسيرة البلاد. . نريد معرفة من ترك التظاهرات السلمية في مختلف ميادين التحرير بسائر المدن الكبرى، وذهب لمهاجمة السجون وأقسام البوليس أيام الثورة الأولى، وهل كانت تلك المداهمات تحركات جماهيرية عفوية، أم هناك من خطط لها ولماذا فعل هذا؟. . ونفس هذا يقال عن مهاجمة جميع مقار أمن الدولة في ليلة واحدة في مختلف أنحاء الجمهورية، وسرقة ما بها من مستندات، ومن قام بمهاجمة السفارة الإسرائيلية، وما الذي دفع رئيس وزراء الثورة لتكريم من تسلق السفارة وأنزل علمها، وما هي دوافع الإعلام والأجهزة الرسمية لتصنع من هذا الشخص بطلاً قومياً، بما مهد لتكرار الهجوم على السفارة بصورة أكثر دراماتيكية!!
يجب أن نعرف ونحلل ماذا حدث، حتى لا نظل نضرب على غير هدى مقودين بقوى مخفية لا نعرفها. . جميل أن نحاسب النظام السابق وأن نستهدف ما نسميه فلوله، ولكن يجب أن تحاسب الثورة نفسها ويحاسبها الشعب الذي تتحدث باسمه، على الأقل ليعرف الشعب من هم الثوار تحديداً وإلى ماذا يهدفون. . نحن الآن جميعاً نسير كما لو داخل ضباب، نتصايح ونتصادم ونتقاتل، دون أن نعرف مع من بالتحديد، لكن لابد أن بيننا ثمة عقلاء ذوي تفكير علمي وإخلاص يحللون لنا ما حدث ويحدث منذ 25 يناير 2011 وحتى الآن، فبدون هذا لن ننجح في تبين معالم طريقنا.
من العبث الحديث عن ثوار حقيقيين بدأوا الثورة، بمعزل عن دخلاء نقول أنهم ركبوا الثورة، فمثل هذه النظرة المثالية التي تقسم الناس إلى "شعب وأعداء شعب"، أو "ثوار ودخلاء راكبي ثورة"، هو كلام مفارق للموضوعية، فبغض النظر عن النوعية المتميزة التي بدأت الثورة، وهي الشباب المواكب لعصر العولمة وثورة الاتصالات، فإن كل من التحق بالثورة بعد بدايتها بساعات أو أيام أو أسابيع من هم الشعب المصري الباحث عن التغيير، كل وفق رؤيته وأغراضه الخاصة.
لقد تم مهاجمة أقسام البوليس ليس فقط بجماهير بريئة تريد توصيل رسالة للداخلية التي دأبت لعقود ستة على معاملة الجماهير بصورة غير آدمية، لكن كان في القلب من هؤلاء المجرمون والبلطجية وتجار المخدرات والإرهابيون، الذين يعدون رجال الأمن عدوهم اللدود، علاوة على رغبتهم في إطلاق سراح زملائهم قيد الحجز. . هؤلاء أيضاً ثوار مصريون يبحثون عن التغيير، والتغيير الذي يرومونه هو مجتمع بلا أجهزة أمنية، يستطيعون فيه ارتكاب ما شاءوا من جرائم، ولا يظن أحد أن الشعب المصري ينفرد بهذا دون باقي شعوب العالم، فالبلطجية والخارجون على القانون عموماً موجودون في كل مكان وزمان، ولقد دأبوا دوماً على المشاركة في ثوارت الشعوب بطريقتهم ولأهدافهم الخاصة.
شارك الإخوان المسلمون أيضاً بعد أيام قليلة في الثورة، وكانوا عماد نجاحها بقدرتهم على حشد الجماهير، ولم يستخدموا في ذلك شعاراتهم المعتادة، إذ لو فعلوا لاعتبرها الناس مجرد تحرك إخواني لا شأن لهم به، لكنهم استخدموا شعارات الثورة ومنها "لا جماعات ولا أحزاب، الثورة ثورة الشباب"، لكن هذا الالتزام الشعاراتي أمام الجماهير لم يمنعهم بعد ذلك من الكشف عن وجوههم الحقيقية وهذا حقهم، فهم أولاً وأخيراً جزء من هذا الشعب، وجزء ممن صنعوا الثورة المصرية.
شارك في الثورة أيضاً بل وادعى قيادتها رموز التيارات العروبية واليسارية، والذي فشلوا طوال السنوات الماضية في إخراج الجماهير إلى الشارع، حيث التزمت الجماهير مثلاً بتجاهل الفعاليات الهزيلة لحركة كفاية على الأرصفة، ولم تعرها حتى الاهتمام الذي تعطيه للحواه الذين يأكلون النار أحياناً في الميادين من أجل جمع قروش قليلة. . هؤلاء كما الإخوان جزء من الشعب المصري، ومن غير الجائز حرمانهم من لقب "ثوار مصر"!!
الجهاديون الذي أطلقهم المجلس العسكري من السجون والمعتقلات بجانب السلفيين كانوا آخر من انضم لقافلة الثورة، رغم شذوذ أفكارهم وظلام ما يدبرونه للبلاد، إلا أن الجنسية المصرية لم تسحب منهم، وبالتالي لا يمكن أن ننكر عليهم انضوائهم تحت لواء الثورة. . هم من هاجموا مقار أمن الدولة الذي أذلهم لعقود، ونجحوا إلى حد ما في حرق ملفاتهم لديه. . هم أيضاً يريدون تغيير وجه مصر، فلا يريدون جهازاً لأمن الدولة، لكي يستطيعوا هم السيطرة على البلاد والعباد وتحويلها إلى النموذج الطالباني، وليشبعوا حرقاً وهدماً في الكنائس والأضرحة. . لديهم آمال عريضة لمصر الجديدة، لخصها كبير منهم بأن تنظيم القاعدة لن يأتي ليقوم بتفجيرات في مصر، لأن فضيلته "سوف يطبق في مصر كل ما يهدف إليه تنظيم القاعدة"!!
يلزمنا أيضاً التعرف كيف تمكنت تشكيلات من حماس وحزب الله من اقتحام السجون وإطلاق أفرادها، ووصولهم في ذات ليلة الاقتحام إلى غزة، وهل كانت المعاونة جماهيرية فقط، أم كانت هنالك تسهيلات من الأجهزة الأمنية، ولحساب أي جهة يعمل من ساعدوهم؟!!
نأتي إلى المجلس العسكري لنتساءل عن دوره بالتحديد قبل وأثناء وبعد أحداث الثورة، فإذا كان من الواضح أن الجيش قد تخلى منذ البداية عن مبارك، فهل ينسحب هذا أيضاً على موقفه من النظام ككل، وإلى أي درجة وفي أي اتجاه كان يريد أو يسمح للأمور أن تذهب؟
هل قام المجلس العسكري ويقوم كما يقال بحماية الثورة، أم أن هدفه هو حماية البلاد والنظام من الثورة وتداعياتها، عبر تحجيم الثورة والسيطرة عليها تدريجياً وبقدر الإمكان، وهو ما نرصده من الاستجابة البطيئة والشحيحة لمطالب الثورة، وفق حجم الضغوط الجماهيرية التي يبديها الثوار؟!!. . الجيش المصري وقيادته أيضاً جزء من مصر، وليس طرفاً خارجياً نطالبه بحياد أصم، نعم جيشنا غير مسيس أو أيديولوجي، لكن شكل النظام المصري الجديد سيؤثر جوهرياً على طبيعة هذا الجيش ودوره، وبالتالي لا نستطيع أن نحرم قياداته من أن تكون مشاركة لسائر مكونات الشعب المصري في صياغة المستقبل، وبالطبع من المفترض أن يتم هذا بمنأى عن منهج الهيمنة الذي يتيحه امتلاك القوة المسلحة.
هكذا يلزم من يبحث الأمر النأي بنفسه عن مفاهيم مفخخة، مثل المؤامرة التي يدبرها طرف ضد أطراف أخرى، أو التواطؤ بين طرفين على ثالث، فمثل هذه المفاهيم التسطيحية أو فلنقل الساذجة تحرم أسيرها من التحليل العلمي للحالة محل البحث، أو للمعادلة التي تحرك الأحداث في الساحة عبر التفاعل بين مكوناتها، من خلال تحركات وتوجهات العناصر ووزنها النسبي، سواء عبر تصادماتها أو تحالفاتها سعياً لتحقيق أهدافها.
نلاحظ أن استعراض "حالة الثورة المصرية" أفقياً، بوضع جميع مكوناتها جنباً لجنب لا يسمح لطرف من الأطراف احتكار الحديث باسم الثورة، سواء بنسبتها إلى أشخاص أو توجهات بعينها. . فهي ثورة من أجل "العيش والحرية والكرامة الإنسانية"، بقدر ما هي ثورة من أجل "البلطجة وسيادة الفوضى والعشوائية"، وكذا من أجل "دولة دينية على النموذج الإيراني أو الأفغاني والصومالي"، وقد يريدها البعض "دولة ممانعة" أو "دولة مارقة" مثل سوريا الأسد وكوريا الشمالية وفنزويلا.
هذا هو حال الساحة المصرية الآن، وحال الشعب المصري الذي لم يحسم أموره في أي قضية، ولم يجد الحد الأدني للتوافق المجتمعي، الضروري لأي أمة ترغب في مسيرة ثورية أو غير ثورية. . إلى أين يمكن أن تصل بنا الأمور هكذا؟
يبقى ذلك السؤال العريض قائماً
إلى أن تقدم تفاعلات وصراعات الواقع إجابة حاسمة أو حتى تقريبية له

اجمالي القراءات 7735