مصر من الثورة إلى الفوضى

كمال غبريال في الجمعة ١٤ - أكتوبر - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

أطالب المجلس الأعلى للقوات المسلحة "بالاعتذار" عن مذبحة الأقباط بماسبيرو يوم الأحد 9 أكتوبر 2011، فهذه ستكون البداية الوحيدة للطريق المستقيم.
 
 مصر من الثورة إلى الفوضى
 
 
 
واقع مصر السياسي والثقافي والاجتماعي الآن يشير إلى أن المجلس العسكري أو أي حاكم مدني سيحكم مصر في هذه الظروف من المتوقع أن يسير على ذات نهج مبارك، فيخشى تحقيق العدالة والقانون وردع من يدفعون بمصر إلى الفوضى والذبح والحرق على الهوية، تحاشياً للاصطدام بجحافل الظلاميين الذين أخرجتهم الثورة والمجلس العسكري من القمقم، ليتسيدوا الموقف والشارع المصري، هذا ما لم يقم الشعب المصري كله باختلاف انتماءاته السياسية والدينية بالاعتراض على ذلك الوضع وتلك السياسة، التي تترك الحبل على الغارب لمن يستهدفون المصريين المسيحيين، ويستحلون دماءهم ومنازلهم ومتاجرهم وكنائسهم، ليقفوا وقفة رجل واحد مدفوعين بروح وطنية ليبرالية، فعندها فقط لابد أن المجلس العسكري أو أي حاكم كائناً من كان سوف يستند عليهم، ويقف هو الآخر قوياً راضياً أو مجبراً، في مواجهة الفوضى والظلامية التي تتفاقم مع الوقت، حتى لتشمل سائر مناحي الحياة المصرية.
ليس فقط الآن ولكن منذ بداية السبعينات تشهد مصر مسلسلاً من حوادث الغزوات أو الاعتداءات الإجرامية على الأقباط، وكلها لم يحدث فيها إدانة جان أو ردع محرض، لكن الجديد في عهد الثورة ومجلسنا العسكري، هو أن استهداف الأقباط لا يتم فقط في النجوع والقرى التي تكاد تفتقدة لوجود حقيقي فعال للدولة، وإنما بالتواكب معها قفز دعاة الظلام ودهاقنته على جميع المنابر الإعلامية، يؤسسون وينظرون لتكفير الأقباط وبالتالي شيطنتهم وفقاً لمفاهيم الخطاب الإسلامي، ليصير للهمجية والإجرام رأس وأطراف، ويكتمل جسد الفوضى وانتهاك القانون والنظام والإنسانية.
الحملات الإعلامية المحمومة على الأقباط في القنوات الفضائية المصرية، سواء التي أسسها الظلاميون لتتخصص في التحريض، أو القنوات الخاصة الساعية لجذب أكبر كم من الإعلانات، لتدفع الملايين أجوراً لمذيعي برامج "التوك شو"، صارت تستهدف الآن المسلم المصري البسيط، لتقنعه بوجوبية كراهية المسيحي، والتعامل معه على هذا الأساس، يقولون هذا بمباشرة وعلانية تثير الاندهاش والاشمئزاز والفزع، حين يتصدر الخطاب الإعلامي الجهاديون الخارجون تواً من السجون والمعتقلات أو المستجلبون من المنافي، أو هؤلاء الذين ألزمهم أمن الدولة المباركي جحورهم لا يبارحونها إلا وفق أوامره، ويتمحور الخطاب الديني حول قيمة الكراهية ووجوبيتها دينياً، ولتكون النجومية والتواجد الدائم ضيفاً على القنوات الفضائية رهناً بتبني أشد الأفكار غباء وتخلفاً وانحطاطاً، ثم عند اشتعال الحرائق على الأرض نجد الكثيرين في دائرة السلطة وخارجها يتنطعون بالحديث عن أياد خارجية تعبث بأمن الوطن. . نحرض الناس على كراهية وتكفير مواطنيهم الأقباط، ومتى تحركوا وفق تلك المفاهيم نسارع بنسبة ما يحدث لمؤامرات أمريكية وصهيونية، ونحن نردد الأغاني المبتذلة عن النسيج الوطني الواحد!!
نادراً ما قاد ووجه الحكام حتى الطغاة منهم شعوبهم بصورة مطلقة وقسرية، فالحاكم مهما كان جبروته يحاول تجنب غضب شعبه، كما يحاول استرضاءه واستمالته ولو بالخداع والشعارات التي يعرف أنها ستجد استحساناً ورواجاً سواء لدى النخبة من شعبه أو عموم الناس. . هكذا لا يستطيع الحاكم الديكتاتور بالذات أن يذهب في اتجاه مضاد للروح العامة السائدة لدى الشعب، حتى لو كان ذلك التوجه في صالح الوطن والجماهير ذاتها.
نعم كما نردد جميعاً بلا كلل ولا ملل هناك قاعدة عريضة وراسخة رسوخ الزمان من التعايش بين المسلمين والمسيحيين في مصر، ولم تكن الأمور بالطبع دائماً "سمنة على عسل" على حد التمثيل الدارج، لكنها تراوحت تلاحماً وشقاقاً عبر الأزمنة، تتحسن في أزمة النهضة، وتسوء في أزمة التدهور، لكنها كانت بالذات منذ بداية القرن التاسع عشر وحكم أسرة محمد علي تسير نحو التحسن والحداثة، بالتزامن مع انفتاح مصر على أوروبا، بفضل توجيهات حكام تلك الأسرة المستنيرة الطامحة للرقي بملكها وشعبها بالتبعية، ظل الأمر على هذا النحو حتى أدرك مصر "هادم اللذات ومفرق الجماعات"، والذي لم يكن الموت كما تشير العبارة المأثورة، وإنما الانقلاب العسكري الذي قامت به عصبة من الضباط المنتمين لجماعة الإخوان المسلمين!!
منذ ذلك التاريخ الأسود ارتبطت الوطنية والتوجات السياسية والثقافية بالعروبة والإسلام، وسمعنا هتافات بالجامعة إبان تولي الانقلابي كمال الدين حسين وزارة التعليم تقول: "إلى الحبشة يا أقباط"، لكن الحكم الحديدي الناصري الذي انقلب قائده الملهم على من أقسم لهم يمين الولاء، وأودعهم السجون وعلقهم على المشانق، حين حاولوا اغتياله والسيطرة التامة على الحكم، لم يسمح لأحد أياً كان توجهه أن يفتح فمه أو يرفع رأسه، فعاش الأقباط في سلام وأمان مهمشين ومستبعدين عن كل مواقع التأثير والسطلة، وهو الوضع الابتدائي الممهد لما يطمح له الظلاميون الآن، في معاملة الأقباط بصفتهم "أهل ذمة". . لقد أسس انقلابيو يوليو أو إن شئنا النظام الناصري دولة على النموذج الوستفالي، القائم على الدولة القومية العربية الإسلامية المستبعدة للآخر، ليس بمعنى اضطهاده بالتضييق عليه في حياته اليومية، ولكن بوضعه خارج دائرة السلطة والحكم بدوائره المتعددة، التي قد تصل في بعض المواقع إلى مستويات دنيا، وبالطبع تواكب مع تأسيس ذلك النظام المغلق قومياً ودينياً تهميش واستهداف تيارات عديدة من الساحة المصرية، كما تم شخصنة الحكم في دائرة أضيق كثيراً، هي ما عرفت بدائرة أهل الثقة، وقد ساعد هذا على جعل تهميش أو استبعاد الأقباط متوقعاً ومستساغاً إلى حد ما، وقد جاء في سياق يستبعد الجميع وإن بدرجات متفاوتة!!
فور تولي السادات بنزعته النازية المبكرة وبطبيعته الريفية المتعصبة انقلبت الأحوال، واستعان بحلفائه القدامى بعد أن أخرجهم من السجون لمواجهة التشكيلات الناصرية، وكان لابد أن يقدم لهم على سبيل الإغراء مائدة ينهشون فيها، وكانت المائدة الشهية هي الأقباط، وتمادى إلى حد التصريح بتركيبة النظام الوستفالي الذي لم يفصح عنه عبد الناصر قولاً، حين قال عن نفسه أنه "حاكم مسلم لدولة إسلامية يعيش فيها أقباط"، ليبدأ مع إرخاء السادات الحبل لحلفائه الجدد مسلسل ما سماه فتنة طائفيه، ويقصد الاعتداءات الطائفية على مستضعفين مسالمين لا حول لهم ولا قوة!!
جاء مبارك حاكماً كالماء الفاتر عديم اللون والطعم والرائحة، ولم يهتم بالتالي بغير بقائه على كرسي الحكم، عاقداً تحالف غير ممهور مع الإخوان وأجنحتهم، أن يفعلوا كل شيء عدا الاقتراب من عرشه، وقد كانت تلك الصفقة رابحة للإخوان بكل المقاييس، وقد اعتادوا العمل خلف الستار، دون تحمل مسئولية الحكم وأعبائه، هكذا نموا وترعرعوا وأفرخوا، واقتصر الحزم المباركي فقط على الجناح الجهادي بعد مذبحة الأقصر التي هزت العالم، وبقيت مساحة الشارع المصري كله متاحة للإخوان المعتدلون كما يقال، وليثمر الاعتدال المدعى هذا توالي حلقات مسلسل الاعتداءات على الأقباط في قرى ونجوع صعيد مصر بالذات، لكن الأخطر في الامتداد الإخواني في أنحاء مصر لم يكن بالحقيقة ما ترتب عليه من غزوات للأقباط هنا وهناك، وإنما الأخطر هو التجريف الثقافي للمجتمع المصري، المتمثل في رؤية الإنسان لذاته، فصارت الهوية الشخصية للفرد هي الهوية الدينية، ما ساعد الإخوان على رفع شعار "الإسلام هو الحل"، ليصير الدين هكذا هو محور الحياة والدولة، بما يعني أن مكان الأقباط وسائر غير المسلمين فيه هو موقع الضيوف أو أهل الذمة، الذين يتكرم عليهم البعض بمبدأ "لهم ما لنا وعليهم ما علينا"، فيما يطالب آخرون بمعاملتهم معاملة الكفار أعداء الله، وتختفي من الأفق والعقلية الجمعية أية مفاهيم عن المواطنة والحرية والعدالة وما شابه من مفاهيم لم تستقر يوماً في الثقافة المصرية.
رأس المشكلة الآن ليست فقط الظلاميين الذين يعلنون أنهم سيقيمون دولة طالبانية أفغانية الطابع، يسحقون فيها الأقباط الذين يتبارى الجميع الآن في تأكيد توصيفهم بالكفار، ولم يعودوا حتى "أهل كتاب"، لكن المشكلة أيضاً فيمن يقدمون لنا أنفسهم بصفتهم حكام عدول، وهم في الحقيقة حكام "ماركة مبارك"، التي تتميز بانعدام الرؤية السياسية والثقافية، بالطبع بجانب انعدام ما نعرفه بالضمير لديهم، فنجدهم ينفذون راغبين أو صاغرين ما يمليه عليهم الظلاميون القادرون على تحريك الشارع المصري، الذي تتقاسمه الدهماء وعناصر وكوادر مختلف جماعات التأسلم السياسي بشعاراتهم الدينية الصارخة وراياتهم السوداء، ورأينا عينة من قدرتهم على الحشد فيما سمي بجمعة قندهار في ميدان التحرير يوم 29 يوليو2011، حيث ارتفعت رايات تنظيم القاعدة السوداء وصور إسامة بن لادن!!
منذ بداية الاعتداءات الطائفية على الأقباط في السبعينات تم تشكيل سلسلة من لجان تقصي الحقائق، قدم أغلبها روشتات علاج لا بأس بها، بداية من لجنة جمال العطيفي الشهيرة في نوفمبر 1972 فور أحداث الخانكة الطائفية، لكن الإرادة السياسية للعلاج كانت دائماً غائبة، سواء لقناعات وتحيزات الحكام الشخصية، أو لخوفهم من الشارع المتعصب، ولم تفلح الضغوط الدولية غير المباشرة والمترفقة والمهادنة في أحيان كثيرة في إجبار السلطات على تنفيذ توصيات اللجان الوطنية التي ظلت حبيسة الأدراج، حتى اللجنة الأخيرة في أحداث قرية المريناب بأسوان التي استقالت منها د. نهى الزيني احتجاجاً، وقد رأت تقرير لجنتها يذهب إلى ذات مصير سائر اللجان السابقة، في قاع سلة مهملات مجلس الوزراء المصري الموقر!!
نلاحظ هنا أن ذات شخوص السلطة الذين بعد كل كارثة يتقيأون مضغة المؤامرات الخارجية والعناصر المندسة، هم ذاتهم من يديرون ظهورهم لتقارير اللجان الجادة حول عناصر حل المشكلات، وهم من يعرفون جيداً أنهم أجبن من مواجهة ما يتحتم عليهم مواجهته لإنقاذ الوطن من وحل التشقق والتصدع!!
والآن وقد وصل الأمر لمذبحة للأقباط في ماسبيرو يوم الأحد 9 أكتوبر 2011، قامت بها السلطات حامية البلاد والعباد، وبالتعاون مع بعض الغوغاء والبلطجية كما رأينا في تسجيلات فيديو على اليوتيوب، وهي ما يحتاج بالتأكيد لفحص فني لتبين مدى حقيقيتها، فلا يمكن استمرار الأمر على ذات النحو، ولا يحتمل السياق تقارير أخرى تضاف لسلة المهملات المكتظة، بينما الأحوال في الشارع المصري تتفاقم بتسارع ودموية غير مسبوقة.. الأمل الآن في لجنة تحقيق دولية تشكلها الأمم المتحدة، فهي وحدها القادرة على تعويض الإرادة السياسية الغائبة منذ أربعين عاماً، وإجبار صاحب القرار المصري على اتخاذ ما يتحتم عليه اتخاذه من إجراءات ليحمي الوطن المكلف من قبل الشعب بحمايته. . فحسم الأمر سياسياً الآن بواسطة السلطات المصرية ذاتها وليس جهات خارجية، عبر ضغط الأمم المتحدة، هو الواقي لمصر من استمرار القابضين على زمام الأمور في ذات النهج المباركي للتعامل مع القضية، بالتعتيم والتدليس وإطلاق الدخان ليعمي العيون، وأحاديث صارت أضحوكة أن أيادي خارجية تعبث هنا وهناك، وقد صرنا على بعد خطوات قليلة من حالة إبادة عرقية، فما حدث في تظاهرة ماسبيرو هو بوضوح جريمة ضد الإنسانية، ما يعني أننا قريبون من توصيف "تطهير عرقي" أو "إبادة جماعية" مالم نتدارك أمورنا، وننتبه لنهاية الطريق الذي نسير فيه سواء عن جهل وسذاجة وحماقة، أو عن قصد مبيت ممن يدفعون الأمور في هذا الاتجاه.
إذا كانت لجنة التحقيق الدولية التابعة للأمم المتحدة تعد في نظر البعض وصفة لدواء مر، فإن تناول الدواء المر أفضل بما لا يقاس من ترك المرض يتمكن من الجسد المصري.
 
اجمالي القراءات 8512