وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
السُبُلْ والمَعَايش

محمد صادق في السبت ٣٠ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

السُبُلْ والمَعَايش

أقتبس من سورة الرحمــن هذه الآيات الكريمات "  الرَّحْمَٰنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ *  عَلَّمَهُ الْبَيَانَ ""

نحن على دراية بأن الله سبحانه خلق الإنسان ثم قال سبحانه: " وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا "17:70  والتكريم له دلالات لا تعد ولا تحصى فى القرآن الكريم. فواحدة من هذه الدلالات أنه سبحانه بعد التكريم فرض على نفسه أن يُعَلَّم هذا الإنسان ليسمو فى الأرض ويقوم  بمهام الأمانه التى حملها. لذلك قال سبحانه عن الإنسان أنه علمه البيان. فكيف كان هذا التعليم الربانى، لا يستطيع الإنسان أن يتعرف على هذا التكريم إلا بالإخلاص له بالعبودية وإتباع ما أرسله لنا على لسان رسوله الكريم وحتما لمعرفة ذلك لابد أن يقوم الإنسان بتدبر آيات الله فى الآفاق وفى أنفسهم.

ففى سورة الزخرف الآية " الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ " وحتى تكتمل الصورة نقرأ فى سورة الأعراف فى الآية العاشرة قول الله سبحانه: وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ."

والملاحظة الأولى فى هاتان الآيتان، فى آية الزخرف " جعل لكم الأرض مهدا " وفى آية الأعراف " ولقد مكناكم فى الأرض"

والملاحظة الثانية قول الله سبحانه " جعل لكم فيها سُبلا "، وفى الآية الثانية قوله سبحانه: " وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ

بمعنى انه سبحانه خلق الإنسان ثم كرمه ثم مهد له الأرض وجعل فيها سبلا حتى يمكنه التعرف على قدرة خالقه ومنها يدين له بالعبودية الخالصة النقية السليمة من كل شوائب، فقال فى ختام الآية لعلكم تهتدون، يمكن أن نقول من أحد معانى هذه الكلمة، أن على الإنسان أن يتدبر فى هذا الملكوت ويكتشف هذه السبل. حين يتم إكتشاف السبل، فجاء سبحانه فى آية الأعراف وقال إن تدبرت فى هذه السبل فإن لك فيها معايش. هل من غير الله سبحانه مَن يقوم بكل هذا التكريم لبنى الإنسان والعجيب أن نفس هذا الإنسان ذاته، غفل عن كل هذا التكريم ونئا بجانبه وإعترض وأهمل، ثم تكبر وتعالا فإختلف وتفرق وتمزقت أواصر صلته بالرحمن فكانت النتيجة : " ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ"30:41.

من هم هؤلاء الناس، هم الذين كرمهم خالقهم فنبذوه وراء ظهورهم وإتبعوا خطوات الشياطين من الجن والإنس. ويا اسفاه على بنى آدم ناكر الجميل وغرته الحياة الدنيا فكان أسفل السافلين إلا ما رحم ربى.

معادلة ربانية: خلق الإنسان، كرمه، جعل له الأرض مهدا، وجعل فيها سبلا، ومكنه فى الأرض، وجعل له نتيجة السبل معايش. وفى النهاية قال لعلكم تهتدون إلى كل ذلك ولكن الأسف الشديد أنه قال : قليلا ما تشكرون.

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (43:10

جعل هذه الأرض مهداً للإنسان يدركها كل عقل في كل جيل بصورة من الصور . والذين تلقوا هذا القرآن أول مرة ربما أدركوها في رؤية هذه الأرض تحت أقدامهم ممهدة للسير ، وأمامهم ممهدة للزرع ، وفي عمومها ممهدة للحياة فيها والنماء . ونحن اليوم ندرك هذه الحقيقة في مساحة أعرض وفي صورة أعمق ، بقدر ما وصل إليه علمنا عن طبيعة هذه الأرض وتاريخها البعيد والقريب - لو صحت نظرياتنا في هذا وتقديراتنا - والذين يأتون بعدنا سيدركون من تلك الحقيقة ما لم ندرك نحن. وسيظل مدلول هذا النص يتسع ويعمق  ويتكشف عن آفاق وآماد كلما اتسعت المعرفة وتقدم العلم  وانكشفت المجاهيل لهذا الإنسان.

ونحن اليوم ندرك من حقيقة جعل الأرض مهداً لهذا الجنس يجد فيها سبله للحياة أن هذا الكوكب مر في أطوار بعد أطوار حتى صار مهداً لبني الإنسان . وفي خلال هذه الأطوار تغير سطحه من صخر يابس صلد إلى تربة صالحة للزرع، وتكوّن على سطحه الماء من اتحاد الأيدروجين والأكسوجين، واتأد في دورانه حول نفسه فصار يومه بحيث يسمح باعتدال حرارته وصلاحيتها للحياة وصارت سرعته بحيث يسمح باستقرار الأشياء والأحياء على سطحه  وعدم تناثرها وتطايرها في الفضاء.

ونعرف من هذه الحقيقة كذلك أن الله أودع هذا الكوكب من الخصائص خاصية الجاذبية فاحتفظ عن طريقها بطبقة من الهواء تسمح بالحياة ولو أفلت الهواء المحيط بهذا الكوكب من جاذبيته ما أمكن أن تقوم الحياة على سطحه كما لم تقم على سطح الكواكب الأخرى التي تضاءلت جاذبيتها فأفلت هواؤها كالقمر مثلاً ! وهذه الجاذبية ذاتها قد جعلها الخالق متعادلة مع عوامل الدفع الناشىء من حركة الأرض  فأمكن أن تحفظ الأشياء والأحياء من التطاير والتناثر وفي الوقت ذاته تسمح بحركة الإنسان والأحياء على سطح الأرض ولو زادت الجاذبية عن القدر المناسب للصقت الأشياء والأحياء بالأرض وتعذرت حركتها أو تعسرت من ناحية ، ولزاد ضغط الهواء عليها من ناحية أخرى فألصقها بالأرض إلصاقاً أو سحقها كما نسحق نحن الذباب والبعوض أحياناً بضربة تركز الضغط عليها دون أن تمسها أيدينا ولو خف هذا الضغط عما هو عليه لإنفجر الصدر والشرايين انفجاراً.

ونعرف كذلك من حقيقة جعل الأرض مهداً وتذليل السبل فيها للحياة , أن الخالق العزيز العليم قدر فيها موافقات شتى تسمح مجتمعة بوجود هذا الإنسان وتيسير الحياة له.  ولو اختلت إحدى هذه الموافقات لتعذرت هذه الحياة أوتعسرت . فمنها هذه الموافقات التي ذكرنا ومنها أنه جعل كتلة الماء الضخمة التي تكونت على سطح الأرض من المحيطات والبحار كافية لامتصاص الغازات السامة التي تنشأ من التفاعلات الكثيرة التي تتم على سطحها والاحتفاظ بجوها دائماً في حالة تسمح للأحياء بالحياة . ومنها أنه جعل من النبات أداة للموازنة بين الأكسجين الذي يستنشقه الأحياء ليعيشوا به والأكسجين الذي يزفره النبات في أثناء عمليات التمثيل التي يقوم بها، ولولا هذه الموازنة لاختنق الأحياء بعد فترة من الزمان.

وهكذا . وهكذا . من المدلولات الكثيرة لحقيقة: (جعل لكم الأرض مهداً وجعل لكم فيها سبلاً) تتكشف لنا في كل يوم. وكلها تشهد بالقدرة كما تشهد بالعلم لخالق السماوات والأرض العزيز العليم . وكلها تشعر القلب البشري باليد القادرة المدبرة المعلمة في حيثما امتد بصره , وتلفت خاطره وأنه غير مخلوق سدى وغير متروك لقى  وأن هذه اليد تمسك به  وتنقل خطاه  وتتولى أمره في كل خطوة من خطواته في الحياة وقبل الحياة وبعد الحياة. لذلك قال سبحانه : "خلق الإنسان، علمه البيان"

لعلكم تهتدون). . فإن التدبر فى هذا الكون , وما فيه من نواميس متناسقة كفيل بهداية القلب إلى خالق هذا الكون , ومودعه ذلك التنظيم الدقيق العجيب.

ثم يخطو ببنى الإنسان خطوة أخرى في طريق نشأة الحياة والأحياء , بعد تمهيد الأرض للإنسان وتذليل السبل فيها للحياة.

(والذي نزل من السماء ماء بقدر , فأنشرنا به بلدة ميتاً , كذلك تخرجون

والماء الذي ينزل من السماء يعرفه كل إنسان ويراه كل إنسان، ولكن أكثر الناس يمرون على هذا الحدث العجيب دون يقظة ودون اهتزاز , لطول الألفة والتكرار . ولا يبرد من حرارة هذه الحقيقة ولا ينقص من وقعها أن هذا الماء أصله البخار المتصاعد من الأرض المتكاثف في أجواز الفضاء . فمن أنشأ هذه الأرض ? ومن جعل فيها الماء ? ومن سلط عليها الحرارة ? ومن جعل من طبيعة الماء أن يتبخر بالحرارة ? ومن أودع البخار خاصية الارتفاع وخاصية التكثف في أجواء الفضاء ? ومن أودع الكون خصائصه الأخرى التي تجعل ذلك البخار المتكثف مشحونا بالكهرباء التي تتلاقى وتتفرغ فيسقط الماء ? وما الكهرباء ? وما هذا وما ذاك من الخصائص والأسرار التي تنتهي كلها إلى نزول الماء ? إننا نلقي من العلم على حسنا أثقالاً تحجب عنا إيقاع هذا الكون العجيب بدلاً من أن نتخذ من العلم معرفة ترهف المشاعر وترقق القلوب. لذلك قال سبحانه ولقد كرمنا بنى آدم".

 (والذي نزل من السماء ماء بقدر

فهو مقدر موزون لا يزيد فيغرق ; ولا يقل فتجف الأرض وتذبل الحياة ; ونحن نرى هذه الموافقة العجيبة , ونعرف اليوم ضرورتها لإنشاء الحياة وإبقائها كما ارادها الله.

(فأنشرنا به بلدة ميتاً

والإنشاء الإحياء . والحياة تتبع الماء . ومن الماء كل شيء حي.

كذلك تخرجون)

فالذي أنشأ الحياة أول مرة كذلك يعيدها ، والذي أخرج الأحياء أول مرة من الأرض الميتة  كذلك يخرج الأحياء منها يوم القيامة . فالإعادة من البدء وليس فيها عزيز على الله.

وحتى لا يطيل علينا المقام، فسأسرد بعض الآيات التى تشير إلى السبل المختلفة التى من كرم الله سبحانه على بنى آدم والتى عن طريق هذا التكريم، أى هذه السبل، تنطلق منها أسباب المعايش .

الجاثية (آية:13): وسخر لكم ما في السماوات وما في الارض جميعا منه ان في ذلك لايات لقوم يتفكرون

هذه الآية الكريمة، آية جامعة شاملة لكل السبل التى كرم الخالق عباده بها، ثم جاء بآية أخرى تفصل إلى حد كبير ما جاء فى الآية الأولى:

البقرة (آية:164): ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابه وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون."

ثم تأتى آيات بها شيئ من التفصيل:

النحل (آية:12): وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بامره ان في ذلك لايات لقوم يعقلون

الجاثية (آية:12): الله الذي سخر لكم البحر لتجري الفلك فيه بامره ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون

البقرة (آية:164): ان في خلق السماوات والارض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فاحيا به الارض بعد موتها وبث فيها من كل دابه وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والارض لايات لقوم يعقلون

النحل (آية:14): وهو الذي سخر البحر لتاكلوا منه لحما طريا وتستخرجوا منه حليه تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون

النحل (آية:5): والانعام خلقها لكم فيها دفء ومنافع ومنها تاكلون

بعد أن تعرفنا على إحدى دلالات تكريم الله سبحانه لبنى آدم ولولا تسخير هذه السبل، ما كان هناك أى وسائل للمعايش. وكل ذلك من نعم الله السميع العليم على عباده.

فلنقرأ فى سورة الأعراف الآية العاشرة:

" وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ."

إن خالق الأرض وخالق الناس هو الذي مكن لهذا الجنس البشري في الأرض . هو الذي أودع الأرض هذه الخصائص والموافقات الكثيرة التي تسمح بحياة هذا الجنس وتقوته وتعوله بما فيها من أسباب الرزق والمعايش.

هو الذي جعلها مقراً صالحاً لنشأته بجوها وتركيبها وحجمها وبعدها عن الشمس والقمر ودورتها حول الشمس وميلها على محورها وسرعة دورتها . . إلى آخر هذه الموافقات التي تسمح بحياة هذا الجنس عليها . وهو الذي أودع هذه الأرض من الأقوات والأرزاق ومن القوى والطاقات ما يسمح بنشأة هذا الجنس وحياته وبنمو هذه الحياة ورقيها معا . . وهو الذي جعل هذا الجنس سيد مخلوقات هذه الأرض قادراً على تطويعها واستخدامها  بما أودعه الله من خصائص واستعدادات للتعرف إلى بعض نواميس هذا الكون وتسخيرها في حاجته.

ولولا تمكين الله للإنسان في الأرض بهذا وذلك ما استطاع هذا المخلوق الضعيف القوة أن "يقهر الطبيعة " كما يعبر أهل الجاهلية قديماً وحديثاً ! ولا كان بقوته الذاتية قادراً على مواجهة القوى الكونية الهائلة الساحقة.

إن التصورات الجاهلية الإغريقية والرومانية هي التي تطبع تصورات الجاهلية الحديثة . . هي التي تصور الكون عدواً للإنسان وتصور القوى الكونية مضادة لوجوده وحركته وتصور الإنسان في معركة مع هذهالقوى - بجهده وحده - وتصور كل تعرف إلى النواميس الكونية  وكل تسخير لها "قهراً للطبيعة " في المعركة بينها وبين الجنس الإنساني.

إنها تصورات سخيفة , فوق أنها تصورات خبيثة....

لو كانت النواميس الكونية مضادة للإنسان، عدوة له  تتربص به  وتعاكس اتجاهه  وليس وراءها إرادة مدبرة - كما يزعمون - ما نشأ هذا الإنسان أصلاً ! وإلا فكيف كان ينشأ ? كيف ينشأ في كون معاد بلا إرادة وراءه ? ولما استطاع المضي في الحياة على فرض أنه وجد ! وإلا فكيف يمضي والقوى الكونية الهائلة تعاكس اتجاهه ? وهي - بزعمهم - التي تصَرِّف نفسها ولا سلطان وراء سلطانها.

إن التصور الإسلامي وحده هو الذي يمضي وراء هذه الجزئيات ليربطها كلها بأصل شامل متناسق . . إن الله هو الذي خلق الكون وهو الذي خلق الإنسان . وقد اقتضت مشيئته وحكمته أن يجعل طبيعة هذا الكون بحيث تسمح بنشأة هذا الإنسان وأودع الإنسان من الاستعدادات ما يسمح له بالتعرف إلى بعض نواميس الكون واستخدامها في حاجته . . وهذا التناسق الملحوظ هو الجدير بصنعة الله الذي أحسن كل شيء خلقه . ولم يجعل خلائقه متعاكسة متعادية متدابرة.

وفي ظل هذا التصور يعيش "الإنسان" في كون مأنوس صديق وفي رعاية قوة حكيمة مدبرة . . يعيش مطمئن القلب مستروح النفس ثابت الخطو ينهض بالخلافة عن الله في الأرض في اطمئنان الواثق بأنه معانٌ على الخلافة ويتعامل مع الكون بروح المودة والصداقة ويشكر الله كلما اهتدى إلى سر من أسرار الوجود.  وكلما تعرف إلى قانون من قوانينه التي تعينه في خلافته وتيسر له قدراً جديداً من الرقي والراحة والمتاع.

إن هذا التصور لا يكفه عن الحركة لاستطلاع أسرار الوجود والتعرف إلى نواميسه . . على العكس هو يشجعه ويملأ قلبه ثقة وطمأنينة . . إنه يتحرك في مواجهة كون صديق لا يبخل عليه بأسراره  ولا يمنع عنه مدده وعونه . وليس في مواجهة كون عدو يتربص به ويعاكس اتجاهاته ويسحق أحلامه وآماله.

إن مأساة "الوجودية " الكبرى هي هذا التصور النكد الخبيث . . تصور الوجود الكوني - بل الوجود الجماعي للبشرية ذاتها - معاكساً في طبيعته للوجود الفردي الإنساني متجهاً بثقله الساحق إلى سحق هذا الوجود الإنساني ! إنه تصور بائس لا بد أن ينشىء حالة من الانزواء والانكماش والعدمية ! أو ينشىء حالة من الاستهتار والتمرد والفردية ! وفي كلتا الحالتين لا يكون إلا القلق المضني ! والبؤس النفسي والعقلي والشرود في التيه:تيه التمرد  أو تيه العدم . . وهما سواء.. .

وهي ليست مأساة "الوجودية " وحدها من مذاهب الفكر الأوربي . إنها مأساة الفكر الأوربي كله - بكل مذاهبه واتجاهاته - بل مأساة الجاهلية كلها في جميع أزمانها وبيئاتها . المأساة التي يضع الإسلام حداً لها بعقيدته الشاملة التي تنشىء في الإدراك البشري تصوراً صحيحاً لهذا الوجود وما وراءه من قوة مدبرة.

إن "الإنسان" هو ابن هذه الأرض وهو ابن هذا الكون . لقد أنشأه الله من هذه الأرض ومكنه فيها وجعل له فيها أرزاقا ومعايش ويسر له المعرفة التي تسلمه مفاتيحها وجعل نواميسها موافقة لوجود هذا الإنسان تساعده - حين يتعرف إليها على بصيرة - وتيسر حياته . . ولكن الناس قليلاً ما يشكرون . . ذلك أنهم في جاهليتهم لا يعلمون . . وحتى الذين يعلمون لا يملكون أن يوفوا نعمة الله عليهم حقها من الشكر وأنى لهم الوفاء ? لولا أن الله يقبل منهم ما يطيقون:وهؤلاء وهؤلاء ينطبق عليهم بهذين الاعتبارين قوله تعالى: قليلا ما تشكرون "

وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ...."

إنسان منتصب القامة ، لأن فيه جهاز توازن فوق الأذنين، ومساحة القدمين لا تكفي لأن يبقى قائماً ، ما هذه الأجهزة المعقدة ؟

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ

كم من إنسان يعيش بسبب الحرّ في الأرض ؟ التكييف ، والمرطبات، المكيفات ، لو أردت أن تعدد الحرف التي يعيش منها الملايين بسبب الحر ، الحر أحد أسباب المعيشة.

 

كم من إنسان يعمل في الأرض بسبب البرد ؟ المدافئ، والوقود السائل، والتدفئة المركزية، الثياب الصوفية.

 

كم من إنسان يعيش بالأرض بسبب طول الشعر .
كم من إنسان يعيش في الأرض بسبب المرض، كم من طبيب في الأرض ؟ كم من مستشفى ؟ كم من دواء ؟

 

وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ .... أى اسباب للرزق..

كم مِن إنسان يعيش على وجود حشرات زراعية ؟ مهندس زراعي، مبيدات، مضخات.... .

إنّ جسم الإنسان أحد أسباب وجود آلاف المهن والحرف لصيانتها:

ضَعف البصر : كم من إنسان يعيش على النظارات في الأرض ؟

 ضعف السمع : كم من إنسان يعيش على تقوية السمع ؟

 كسر العظام : كم من إنسان يعيش على تجبير العظام ؟

ويقال إن هناك أكثر من مئة حرفة متعلقة بالبناء،لأنك لا يمكنك أنْ تنام في العراء، تبرد، تحتاج إلى مأوى،   المهندسون ، مواد البناء ، والتخطيط شيء لا ينتهي ، الأبنية ، المستشفيات.

كم من إنسان يعيش بالتعليم في الأرض، التعليم، والمدارس، والمناهج، والكتب والمفتشون، والبعثات ، والجامعات.
كم من إنسان يعيش على صد العدوان ؟ معامل الأسلحة كما ترون كل يوم.

ألا نشكر، ألا نحمد الله سبحانه، ألا نعبد الله سبحانه حق عبادته.... قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ."

أيها الإنســان...

أنت نعمة من نعم الله ، وجودك نعمة منحك الإيجاد ، منحك الإمداد ، منحك الهدى والرشاد. قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ ."

 كلمة معايش دقيقة جداً ، كل هؤلاء الناس ، كل واحد منهم مكّنه الله عز وجل من إتقان صنعة.

تجد هذا جراح قلب، هذا طبيب عام، هذا مهندس معماري، هذا مهندس بترول، هذا يكتشف البترول،

وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ""

الحديث عن المعايش حديث لا ينتهي، والحديث عن التمكين حديث لا ينتهي، أنت ممكّن في الأرض، وأنت هيأ الله لك أن تعيش عن طريق حرفة تحترفها، ولولا أن الإنسان يحتاج إلى أن يأكل ويشرب لما رأيت على وجه الأرض شيئا.ً

إذاً : أنت المخلوق الأول ، وقد مكنك الله في الأرض ، وجعل لك سبلاً كي تكتسب رزقك ، وفي هذه السبل تُمتحن ، تصدق أم تكذب ؟ تنصح أم تغش ، ترحم أو تقسو ، أنت من خلال عملك تمتحن.

مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ ۚوَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا " 4:147            صدق الله العظيم)

اجمالي القراءات 12317