العرب بين أنظمة قروسطية وشعوب الألفية الثالثة

د. شاكر النابلسي في الجمعة ٢٢ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

ما زالت أسباب الثورات العربية المتلاحقة تثير الحيرة والدهشة والتساؤلات الكثيرة، من كثير من المراقبين والمحللين. ولا غرابة في ذلك، فمن بين الرسائل التي كان يبعثها الزعيم الهندي جواهر لال نهرو (1889-1964) إلى ابنته انديرا غاندي (1916- 1977) في الفترة (1930-1933) التي كان فيها مسجوناً، يتنقل من سجن لآخر، والتي جُمعت، وصدرت في كتاب تحت عنوان "لمحات من تاريخ العالم"، رسالة شرح فيها نهرو لابنته ما حصل في تاريخ الثورة الفرنسية. وهو شرح قريب جداً مما يحصل  في العالم العربي.

يقول نهرو في بداية رسالته تحت عنوان "سقوط الباستيل":

"داهمت الثورة الفرنسية أوروبا كالصاعقة."

فالثورات تأتي كالصواعق!

فما أشبه الأمس الفرنسي باليوم العربي. وكأن نهرو ما زال يعيش بيننا، ويكتب عن الثورة العربية الكبرى الجديدة، التي تجتاح العالم العربي كالصواعق.

فهل كان نهرو عام 1930، يقرأ أسباب الثورة الفرنسية، أم كان يقرأ ما حصل في العالم العربي في نهاية عام 2010 في تونس، وبداية عام 2011 في تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن؟

ثم لنر لماذا اندلعت الثورات، بما فيها الثورة الفرنسية، والأمريكية، والروسية، واليوم الثورة العربية الجديدة.

أليست أسبابها ومسبباتها واحدة: الفقر، والبطالة، والفساد، والظلم، والطغيان؟

إنها طبيعة واحدة. فهكذا تتم الثورات.

يقول نهرو:

"بركان الثورة، يثور كما تثور بقية البراكين الطبيعية بعد غليان وتفاعل، يجريان تحت سطح الأرض، مدى أجيال عديدة. ويظل ذلك الغليان حتى يضعف سطح الأرض، ولا يقوى على حبسه، فيشق له فوهة، ويقذف بحممه الملتهبة إلى عنان السماء. هكذا تتفاعل عناصر الثورة مدة طويلة، تحت سطح المجتمع."

وهذا ما شاهدناه ونشاهده في تونس، ومصر، وليبيا، وسوريا، واليمن.

 

أنظمة قروسطية وشعوب متعولمة

ورغم كل هذا، نستطيع القول، أن من أسباب قيام الثورات العربية، أن العرب يعيشون في فاتحة الألفية الثالثة، وفي انجازات القرن الحادي والعشرين العلمية، والتكنولوجية،، والمعلوماتية والاتصالات، وغير ذلك من انجازات الحداثة الغربية والعولمة. وأن العرب في الوقت ذاته، محكومون من قبل أنظمة سياسية تنتمي إلى القرون الوسطى.

 

شعوب داخل التاريخ وأنظمة خارج التاريخ

فالعرب كشعوب تعيش داخل التاريخ، بينما الأنظمة تعيش خارج التاريخ. والفيلسوف الألماني هيجل يقول بأن "التاريخ هو تقدم الوعي بالحرية." وهؤلاء الحكام الدكتاتوريون يعيشون خارج التاريخ حيث أن وعيهم بالحرية لم ولن يتقدم. في حين أن شعوبهم أظهرت بأنها تعيش داخل التاريخ، من حيث أن وعيها بالحرية قد تقدم كثيراً، وأذهل كثيراً من المراقبين والمحللين السياسيين.

 

الدكتاتور هو الحر الوحيد برأيه!

إلى متى يُعتبر الدكتاتور أنه هو فقط الحر الوحيد في البلد – ومفهوم الحرية للحاكم تعني هنا أنه لا يُسأل عما يفعل، ولكن باقي المواطنين يُسألون كعبيد وليس كأحرار - بحيث يحكم الدكتاتور كما يشاء، ويقتل كما يشاء، معتبراً أن الشعب كله من العبيد، وهو الحر الوحيد؟

فالحرية لا تتحقق إلا إذا اعترف حر بحرية الآخر الحر. بمعنى أن للحرية قطبان: الأول قطب حر، والثاني قطب آخر حر. أما إذا اعتبر قطب حر بعبودية العبيد، فلا حرية في رأي هيجل.  وما يجري في البلاد العربية الآن التي تحكمها عدة أشكال من الدكتاتوريات العسكرية الحزبية والقبلية اعتبار الثورات العربية ثورات عبيد، وليست ثورات أحرار، من وجهة نظر الدكتاتوريات الكاسرة.

 

بدأ العالم الحر يدرك ويعي الثورة العربية

العالم الغربي الحر، الذي تفاجأ باندلاع الثورات العربية، بدأ يفيق الآن من غفوته شيئاً فشيئاً، وبدأ يعي ويدرك ما يتم الآن في العالم العربي، وبدأ يعلم علم اليقين أن معظم الأنظمة السياسية العربية هي أنظمة دكتاتورية قروسطية، تحكم بمناهج وأساليب القرون الوسطى لشعوب تعيش في خضم انجازات القرن الحادي والعشرين وتحدياته. وبدأ الغرب الحر، يساند هذه الثورات ويدعمها بالسلاح، والمال، والاعتراف السياسي المهم، ويطالب الدكتاتوريين بالرحيل فوراً، حفاظاً ورعاية لمصالحه المستقبلية البعيدة المدى. وبعد أن ثبت له أن هذه الأنظمة الدكتاتورية، غير قادرة على الإصلاح والتغيير. فطبيعتها ضد الإصلاح وضد التغيير، الذي هو مخالف لطبيعتها ووجودها. ولو كان لديها القدرة على الإصلاح والتغيير لتمَّ ذلك منذ عشرات السنين، التي قضت فيها هذه الأنظمة تسرق، وتنهب، وتفسد، وتظلم، دون أن يرف لها جفن، أو يهتز لها طرف، حتى ولو أقدمت هذه الدكتاتوريات على ذبح مواطنيها من الوريد إلى الوريد، وخلع (زلاعيم) (جمع زلعوم) المواطن، ورمي جثته في نهر العاصي، كما فعلت السلطات السورية بمغني الثورة السورية إبراهيم القاشوش.

 

لا ضحك على ذقون المعارضة!

والمعارضة العربية، أصبحت واعية ومدركة بما فيه الكفاية، من أن دعوات الحوار مع السلطة، ووعود الإصلاح والتغيير التي تدلقها السلطات الدكتاتورية دلقاً، دون حساب أو جواب، ما هي إلا جرعات تخديرية، لا فائدة منها. وهي شِباك ومصائد، كمصائد الجرذان، تنصبها السلطات الدكتاتورية لاصطياد المعارضة، وزجِّها في السجون، وقتلها، وإخماد الثورات المستعرة، في طول الوطن العربي، وعرضه.

فمن الملاحظ، أن النظم السياسية الدكتاتورية القروسطية، التي تحكم العالم العربي منذ 30-40 سنة متواصلة، لم تفكر إطلاقاً بالالتفات إلى مطالب المعارضة، واحتقرتها، ورفضت الحوار معها، وأنكرت آدميتها، ونفت ما قاله أبو حيان التوحيدي من أن "أمر الإنسان واجب على الإنسان". واعتبرت النظم السياسية الدكتاتورية القروسطية رعاياها عبيداً، وليسوا مواطنين، الأمر الذي دعا المصلح الديني والسياسي خالد محمد خالد (1920-1996) إلى كتابة كتابه بعنوان صارخ في برية العبودية العربية (مواطنون.. لا رعايا) عام 1952.

احتقار حق الشعوب في الحداثة

كما احتقرت الأنظمة السياسية الدكتاتورية القروسطية الحداثة، من حيث أن الحداثة استعادت ثقة الإنسان في فكره، وعقله، وفعله، وحقه، ومُلكه، ومسؤوليته، ورضاه بفعله، وعقله، وخياله. إذ أصبح الإنسان المواطن  يجد المتعة كلها – كما يقول محمد الشيخ في كتابه " فلسفة الحداثة في فكر هيجل" – لا فيما قرره التقليد، أو أفتى به رجل الدين، أو أمر به رئيس القوم، وإنما في أفعاله، وأعماله، بما هو فرد حر عاقل، شأنه أن ينظر إلى أعماله، نظرته إلى الشيء المشروع المعقول، الذي هو وحده يملك حقه، ويعبِّر عن حاجته، وإرادته.

فكانت النظم السياسية الدكتاتورية القروسطية في وادٍ، والشعوب التي تعيش في القرن الحادي والعشرين في وادٍ آخر.

كانت النظم السياسة الدكتاتورية عمياء، أو مغمضة العينين عما يجري في العالم من تغيرات وتطورات، وتستنكر هذه التغيرات والتطورات. أما الشعوب، فتتفاعل مع هذه التغيرات والتطورات، تفاعل البراكين الثائرة تحت قشرة رقيقة، كما وصفها قبل قليل نهرو. حتى إذا ما وجدت الفرصة لإطلاق حممها، قامت بذلك.

فبُهتَ الذين كفروا بحق الشعوب، في الحرية والديمقراطية.          

 

 

 

اجمالي القراءات 15352