المحصّـلة

محمود علي مراد في الثلاثاء ١٩ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

- على أساس هذه الآيات القرآنية المختارة، التي لم يقتبسها المؤلف، يمكن تقسيم منافقي المدينة (وغيرها) إلى ست فئات:

– المسلمون - الأكثر عدداً بلا شك - الذين لم يكن لهم من الإسلام إلا اسمه، أولئك الذين إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى؛ والذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف؛ والذين يراءون الناس، والذين يودون أن يكفر المؤمنون كما كفروا، والذين يقبضون أيديهم، والذين يتخذون ما ينفقون مغرما؛ وباختصار الذين نسوا الله؛

– المسلمون الذين لا يأخذون دينهم مأخذ الجد: أولئك الذين يقولون عن إخوانهم "غر هؤلاء دينهم"؛ والذين يستهزئون بآيات الله؛

– المسلمون المحايدون، الذين يسبحون في بحر الغموض ويرفضون الالتزام؛ والذين يفضلون الحلول الملتوية: أولئك الذين يترددون في مواقفهم ولا يميلون إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء؛ وأولئك الذين يتربصون بالمسلمين الدوائر، والذين يتآمرون؛ وأولئك الذين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم"؛ والذين إذا كان للمسلمين فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين؛

– المسلمون الذين إذا أصابتهم مصيبة بما قدمت أيديهم حلفوا بالله إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً؛ والذين يقولون لبعض إخوانهم في الدين لا تنفقوا على مَن عند رسول الله حتى ينفضوا؛ 

– المسلمون الذين يقبلون الدين ولا يقبلون الرسول صلى الله عليه وسلم: أولئك الذين يرفضون طاعته أو الذين يرفضون تحكيمه فيما يشجر بينهم من خلاف؛

– المسلمون الذين يرفعون السلاح ضد رسولهم وضد إخوانهم في الدين.

ومن كل هذه الفئات التي لا تشير، طبقاً للآية القرآنية المستخدمة في موضوعها، إلى حالات فردية وإنما تشير إلى مجموعات كبيرة أو صغيرة، فإن الفئات التي توقف عندها نص ابن إسحاق والتي ساق أمثلة بشأنها هي أساساً الفئة الثانية، أي تلك التي تتعلق بأقوال قالها منافقون. الفئة التي كان يكفي لتصويرها نقل عبارات من القرآن الكريم وإرفاق الآية المختارة بواقعة و/أو باسم أو أكثر. أما الفئات الأخرى، فإن النص لا يهتم بها إلا لماما. وأما أمثلة الأفعال التي وردت في النص لتصوير خطايا المنافقين، والتي بُنيت هي الأخرى على الآيات المقتبسة، فهي لا تتناسب لا مع ضخامة ولا مع جسامة ظاهرة النفاق كما تعكسها مجموعات الآيات غير المقتبسة. وهذه الخطايا تتحصل، في الواقع، طبقاً للنص ولشروحه للآيات المقتبسة فيما يأتي: بناء مسجد الضرار، الذي كان ولابد مسجداً صغيراً إذ أن مَن اشتركوا في بنائه لم يزد عددهم عن سبعة؛ ما فعله المنافقون الخمسة الذين أخرجوا من المسجد من سماع أحاديث المسلمين ومن سخريتهم واستهزائهم بدينهم؛ عدم استعداد واحد من المسلمين للخروج مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك؛ قيام أحد المنافقين بقتل اثنين من المسلمين انتقاماً لأبيه، قيام منافق آخر بسرقة درعين في إحدى الغزوات؛ وتفضيل أربعة أشخاص إحالة نـزاعهم إلى بعض كهان الجاهلية بدلاً من الرسول صلى الله عليه وسلم. أما أهم خطيئة للنفاق الجماعي وردت في "السيرة"، وهي انسحاب ابن سلول مع ثلاثمائة من "الأنصار" قبل غزوة أُحد، فإن النص لا يخصص لها إلا سطراً واحداً في حديث الغزوة المذكورة.(31)

2- من الممكن على هذا النحو أن نرجع وصف ظاهرة النفاق في "السيرة" إلى عمليتين اختزاليتين:

 أ ) حصر جميع أشكال النفاق التي حدثت في المدينة في تلك التي ذكرها المؤلف في شرح الاقتباسات القرآنية العشر وبعض الوقائع الفردية.

ب) دفع عبد الله بن أُبي بن سلول إلى مقدمة المسرح بصورة تجعل أدوار باقي الممثلين أدواراً ثانوية، مع الحد من نطاق نفاقهم، وجعل الجانب الأكبر من المنافقين لا يظهر على مسرح الأحداث. 

3- لماذا كان هناك كل هذا العدد الكبير من المنافقين في المدينة؟ نص ابن إسحاق لا يقدِّم أي إجابة عن هذا السؤال الهام. ولو أنه خصص لموضوع أسلمة المدينة العناية والمساحة اللتين يستحقهما، لربما كان في الإمكان، حتى مع غياب كل إجابة مباشرة، العثور على عناصر للرد. ولكن النص، الذي أهمل تماماً سرد ما وقع للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين من أحداث خلال السنوات الثلاث الأخيرة من الفترة المكية، لكي يحدثنا عن وصول الإسلام إلى المدينة وانتشاره فيها، اختزل - وياللغرابة! - في جملة واحدة وصف مرحلة من أهم مراحل دخول المدينة في الإسلام، وهي المرحلة التي تلت الهجرة مباشرةً. وفي الوقت الذي يخصص النص، في حديث الفترة المكية، مساحة كبيرة لحالات هداية شخصيات مدنية - فقصة إسلام سويد بن صامت تحتل أكثر من صفحة، وقصة إسلام إياس بن معاذ تحتل نصف صفحة، وقصة إسلام أُسيد بن حُضَير وسعد بن معاذ تحتل صفحتين، وقصة إسلام عمرو بن الجموح تحتل صفحة ونصف - فإنه يلزم الصمت المطبق حين يتعلق الأمر بشرح السبب أو الأسباب التي أدت إلى دخول الناس جملة في الإسلام بعد وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، أو تلك التي من أجلها كانت هناك نسبة مرتفعة من المنافقين بينهم. ومن الجهة الأخرى، فإن الشخص الوحيد من هذه الفئة الأخيرة الذي شرحت أسباب نفاقه طولاً وعرضاً هو عبد الله بن أُبي بن سلول. لقد كان نفاقه - فيما يخبرنا النص - في ثلاثة مواضع مختلفة، راجعاً إلى أنه كان على وشك أن يُنَصَّب ملكاً حين وصل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة. ولكن هذه المعلومة لا تفيدنا كثيراً في فهم البواعث التي تسببت في استشراء النفاق في المدينة. فقد جاء في النص أن هذا الشريف الخزرجي، الذي لم يكن يحب الرسول صلى الله عليه وسلم، إذا كان قد أسلم فإن إسلامه لم يكن عن إيمان وإنما لأن قوماً من قبيلته قد أسلموا، أي، إن جاز لنا التشبيه، لأن موجة الإسلام في المدينة قد جرفته. وهو ما يعني أن إسلامه قد سبقه إسلام الكثيرين، حتى من أبناء قبيلته. وإذاً فليس هو الذي تسبب في ظاهرة النفاق في المدينة، ويبقى السؤال قائماً: لماذا دخل في الإسلام أقوام لم يكونوا يؤمنون برسالة محمد عليه الصلاة والسلام أو كانوا يؤمنون بها ولكن مع تحفظات؟

التاريخ يعلمنا أن ظواهر نفاق مماثلة حدثت وتحدث في عديد من البلدان وفي فترات مختلفة نتيجة إما للخوف أو للمصلحة الخاصة. نتيجة للخوف حين يفرض فاتح وصل إلى بلد من البلاد على رأس جيش منتصر دينه على أهل بلده أو بلدٍ فتحه، ويهدد بالويل والثبور من يرفضون ذلك. وبدافع من المصلحة حين يكون من شأن الدخول في الدين الجديد الحصول لمن يعلنون دخولهم فيه على مزايا أو إعفاءات مادية أو اجتماعية. والحاصل أنه، لا نص ابن إسحاق، ولا التحليل الذي قمنا به، اتضح منهما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان، خلال السنة الأولى من الهجرة، فاتحاً عسكرياً في المدينة. إنه، هو وأصحابه القرشيين، لم يكونوا سوى مهاجرين طردت بعضهم قبائلهم. وبالإضافة إلى المشكلات المادية والنفسية من كل نوع التي تعرضوا لها فور وصولهم، كان عليهم وعلى مسلمي المدينة، أن يواجهوا ما تحدث عنه القرآن الكريم من عداء المشركين واليهود. ولم يتخذ رد فعلهم إزاء هذا العداء أبداً شكل انتضاءٍ للسلاح. وفي حديثه عن أحداث السنوات التالية، لا يشير النص أبداً إلى عمل حربي قام به المسلمون ضد مشركي المدينة لفرض الإسلام عليهم بالقوة؛ بل إنه يجعل من المشركين في الصحيفة، حليفاً بل جزءاً من الأمة الإسلامية، للدفاع عن المدينة. كذلك فإن القرآن المنـزل في المدينة لم يدعُ الرسول صلى الله عليه وسلم ولا المسلمين أبداً إلى استخدام السلاح لحمل أهل المدينة أو غيرهم على الإسلام. والقرآن الكريم، كما رأينا، يفرض شروطاً صارمة للغاية للجوء إلى الحرب. ولم تكن هذه الشروط متوافرة بصورة من الصور في المدينة. وفضلاً عن ذلك فمن غير المتصور أن يكون القرآن الكريم، الذي يأمر المسلمين بمجاهدة المنافقين، بل وبقتلهم في بعض الحالات، قد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم أو أجاز له أن يُكره الناس على الإيمان بدينه. وقد حظر القرآن الكريم هذا الإكراه حظراً قاطعاً في الآية (256) من سورة البقرة. وهذا شيء طبيعي فإن الإكراه يولد هذا النفاق الذي يسويه القرآن بالكفر ويعتبره أشنع الكبائر.

ولكن ألا يمكن القول هنا إن بعض مشركي المدينة الذين كانوا يرفضون الإسلام في قلوبهم أعلنوا إسلامهم بعد انتصارات المسلمين العسكرية دون أن يُكرهوا عليه؟ مما لا شك فيه أن هذه الانتصارات أحدثت موجة من الأسلمة في جميع أنحاء الجزيرة في المراحل الختامية للفترة المدنية. ولكن أهم حركة من حركات الانخذال (والنفاق) في جميع حروب الرسول صلى الله عليه وسلم - وهي التي شملت ثلث جيش المسلمين في أُحد - حدثت بعد انتصار المسلمين في بدر، وهزيمة المسلمين في أُحد لم تكن، طبقاً للنص، راجعة إلى حركة من حركات الردة أو إلى زيادة النفاق في المدينة. ومن جهة أخرى فإن موجة النفاق بدأت في المدينة قبل انتصارات المسلمين العسكرية. يكفي للتدليل على هذا أن نقرأ الآيات (8) إلى (20) التي نـزلت في بداية أولى السور المدنية وهي سـورة البقرة، التي تبدأ كالآتي:

وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ﴿8﴾يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ﴿9﴾

إذاً فافتراض وجود صلة بين ظاهرة النفاق والفوز العسكري افتراض مستبعد. وما لم يكن هناك تفسير آخر، فإن افتراض أن يكون الدافع إليه هو المصلحة المباشرة يصبح الافتراض السليم. ومن المرجح أن النجاح الاقتصادي الذي حققه المسلمون، في رأينا، في المدينة والمكاسب التي عاد بها على من اشتركوا فيه، وعلى المجتمع في المدينة في مجموعه، وفرص العمل المجزي التي تولدت عنها، عوامل كان لها تأثيرها في تقريب الإسلام إلى نفوس سكان المدينة. وكما يحدث كثيراً في مثل هذه الظروف فإن بعض هؤلاء السكان كان إدراكهم للمزايا المادية التي يكفلها الدخول في الإسلام والاشتراك في مشروعه الاقتصادي الكبير أكبر من إدراكهم لمعاني الخير والشر، وواجب الإحسان، والبعث، والحياة بعد الموت، والجنة والنار التي جاء بها الإسلام الحنيف.  

4- حالة منافقي المدينة وما حولها هي حالة خاصة إذ أنهم هم وحدهم الذين خصهم القرآن الكريم بالذكر في الآية التي سبق ذكرها من سورة التوبة التي تقول:

وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ﴿101﴾

هؤلاء المنافقون الذين مردوا على النفاق، من كانوا؟ هل كانوا نفراً من المشركين أو اليهود كلفهم قومهم بالتظاهر بدخول الإسلام لكي يتخللوا صفوف المسلمين وينقلوا إليهم أسرارهم، أو ليؤلِّبوا بعضهم على بعض، أو ليلقوا الشك في قلوبهم بشأن صحة التنـزيل القرآني، أو ليزعزعوا ثقتهم بالرسول صلى الله عليه وسلم أو بعض صحابته أو لنشر أقاويل لا أساس لها من الصحة بشأنهم؟ هذا شيء محتمل جداً وأعمال التجسس والتضليل التي من هذا النوع أمر مألوف في معظم الحالات المماثلة التي نجدها في تاريخ النـزاعات السياسية والدينية والأيديولوجية القديمة والحديثة في العالم. ومهما يكن من أمر، فإن المؤلف لا يقدم أي شرح للظروف التي نـزلت فيها هذه الآيات الهامة.

5- وكما سبق أن ألمحنا، فإن اليهود الذين يقول عنوان هذا الموضوع إن منافقي الأنصار قد اجتمعوا إليهم ليس لهم وجود في غالبية الحالات المعروضة.  

اجمالي القراءات 9029