القرآن غير المقتبس

محمود علي مراد في الثلاثاء ١٩ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

في الاقتباسات القرآنية المتعلقة بالمنافقين، واليهود، والنصارى، تجاوز المؤلف إلى حد كبير إطار الفترة التي انصبَّ عليها حديثه الأصلي، أي فترة الشهور الأحد عشر أو الاثنا عشر التي تلت الهجرة. وعلى سبيل المثال، فإن السورة التي اختار منها أكبر عدد من اقتباساته المتعلقة بالمنافقين هي سورة التوبة، ورقمها 115 في تصنيف بلاشير لسور القرآن الكريم حسب تتابعها الزمني، وهي عنده السورة قبل الأخيرة. ومعنى هذا أن ابن إسحاق أراد أن يرسم صورة فئات الأشخاص الثلاث المذكورة، أي المنافقون واليهود والنصارى، التي تستخلص من القرآن الكريم المنـزل في الفترة المدنية بأكملها. ولكي نعرف ما إذا كانت هذه الصورة صادقة وكاملة، سنقوم، بدورنا، في هذا الفصل، باستعراض اقتباسات قرآنية أخرى من السور المدنية، وسنفعل الشيء ذاته في الفصول التالية، فيما يتعلق بالنصارى واليهود.

وقد وجدنا الآيات أو مجموعات الآيات الكريمة التالية في القرآن المدني بشأن المنافقين وسنذكرها، مع ملاحظاتنا، طبقاً لترتيب السور الذي وضعه بلاشير.

رقم 97: (8) الأنفال

إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴿49﴾

ملحوظة:

لم يشرح المؤلف سبب نـزول هذه الآية.

رقم 101: (57) الحديد

يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ ﴿13﴾يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاء أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴿14﴾فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿15﴾

ملحوظتان:

 أ ) على الرغم من أن هذه الآيات تتحدث عن الآخرة، فإن الآية (14) تشير إلى وضع كان قائماً في هذا العالم. ومن الواضح أن المقصود بالمنافقين في هذه الآية جماعة كبيرة من الناس.  

ب) المؤلف لا يقول شيئاً عن هؤلاء المنافقين الذين سيعاملون معاملة الكفار، ولا عن الظروف التي تربصوا فيها وارتابوا وغرتهم الأماني.

رقم 102: (4) النساء

وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنـزلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا ﴿61﴾فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَآؤُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا ﴿62﴾أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُل لَّهُمْ فِي أَنفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغًا ﴿63﴾وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَّحِيمًا ﴿64﴾فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴿65﴾وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا ﴿66﴾

ملحوظة:

هذه الآيات الست تتبع الآية (60) موضوع الاقتباس رقم 8 أعلاه. وهي توحي بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قد واجه موقفاً في غاية الصعوبة: مجموعة من الأشخاص الذين، وإن ادعوا أنهم مؤمنون، لم يعترفوا باختصاصه كقاضٍ وعقدوا العزم على تسوية نـزاعهم بطريقتهم الخاصة. وإذا بالتنـزيل الإلهي يأتي في عبارات قوية عامة النطاق لنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو يهدف إلى وضع حد نهائي لكل اعتراض على صفته كرئيس للأمة وكحائز للسلطة القضائية. لا يجوز للمرء إذاً أن يكون مؤمناً مع التحفظ. كذلك لا يجوز له التسليم بسلطة الرسول صلى الله عليه وسلم في مجال ورفضها في مجال آخر. والسؤال هو: ماذا كان موضوع النـزاع؟ الظاهر أنه لم يكن موضوعاً شخصياً أو خاصاً، إذ أن الآية (61) تقول إنهم دعوا "إلى ما أنـزل الله". هل كان موضوعه صفقة ربوية مثلاً؟ ومن كان أطراف النـزاع؟ إن تجرؤهم على رفض اختصاص الرسول في هذا الظرف يحمل على الظن أنهم لم يكونوا أشخاصاً عاديين وإنما كانوا من علية القوم. وسؤال ثان: هل رفض الطرفان المتنازعان كلاهما تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم أم رفضه أحدهما دون الآخر. ثم هل كان الطرفان كلاهما من أهل المدينة أم كان النـزاع نـزاعاً بين مهاجرين و"أنصار"؟ وأخيراً ما هو الفعل الذي "قدمت أيديهم"، الذي تشير إليه الآية (62). أسئلة أساسية يفرض الواجب على المؤرخ العارف ببواطن الأمور أن يرد عليها، ولكنها ستظل إلى الأبد دون جواب. إن هذه الآيات الكريمة، رغم أهميتها، لم تحظ بانتباه مؤلف "السيرة".    

فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُواْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ اللّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴿88﴾وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَاء فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَاء حَتَّىَ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتَّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلاَ نَصِيرًا ﴿89﴾إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىَ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ أَوْ جَآؤُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَاتِلُونَكُمْ أَوْ يُقَاتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً ﴿90﴾سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوَاْ إِلَى الْفِتْنِةِ أُرْكِسُواْ فِيِهَا فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿91﴾

ملحوظة:

نحن هنا إزاء آيات في منتهى الأهمية. ذلك أن القرآن الكريم لا يكتفي فيها بمهاجمة المنافقين، بل إنه يصفهم بالضالين والكفار. ولا يكتفي بهذا بل يأمر المسلمين، في بعض الحالات، بأخذهم وقتلهم حيث وجدوهم. وعمل المؤرخ حيال مثل هذه الآيات جوهري. إن عليه أولاً  أن يذكر من هم هؤلاء المنافقون، وما الذي ارتكبوه من جرم لكي يقوم إخوانهم بمعاملتهم من أجله معاملة أسوأ أعداء الدين. وعليه بعد ذلك أن يوضح معنى هذه الآيات الأربع، بأن يفسر:

– بالنسبة للآية (88)، ممن كانت تتكون كل فئة من الفئتين المذكورتين فيها.   

– ما إذا كان المنافقون الذين ورد ذكرهم في الآية (89) والذين تنهى الآية عن اتخاذ أولياء منهم حتى يهاجروا في سبيل الله ينتمون إلى مكة أو إلى المدينة أو إلى غيرهما.

إن بلاشير يقول في ترجمته للقرآن الكريم إن عبارة "يهاجروا في سبيل الله" تثير صعوبة. وهو يضيف: "نظراً إلى أنهم منافقون (أي من أهل المدينة) فمن غير المعقول أن يطلب منهم أن يهاجروا من مكة للحاق بالرسول. والرازي يقول إن الهجرة تعني أحياناً الانتقال من مكة إلى المدينة، وأحياناً التحول من أفعال الكفار إلى الأعمال الصالحة التي يأمر بها الإسلام، ولكن هذا التفسير مشكوك فيه، ولعل الصواب هو تصحيح كلمة يهاجروا بكلمة يجاهدوا."

وتعقيب "بلاشير"، الذي يقول إنه يتفق فيه مع رأي المؤرخين والمفسرين المسلمين، يقوم على مقولة أنه لم يكن هناك، فيما عدا الهجرة إلى الحبشة، إلا هجرة واحدة، هي هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين إلى المدينة. ونحن، على العكس، نرى أن هجرات أخرى حدثت خلال الفترة المدنية وأن بعض مسلمي المدينة المضطهدين من قبائلهم قد هاجروا إلى مكة أو إلى بلاد غيرها. وحيث أن الشرك، في رأينا، لم يُستأصل من المدينة حتى وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، فمن المحتمل أن بعض قبائل المدينة المشركة استمرت في اضطهاد أبنائها المسلمين مما اضطر هؤلاء إلى الهجرة، بموافقة أو حتى بتشجيع الرسول، إلى مناطق أخرى. إن المدينة لم تكن لذلك، فيما يبدو لنا، مقصد المهاجرين الوحيد، وإذا كان القرآن الكريم قد حث المسلمين، بإصرار شديد، على الهجرة خلال الفترة المدنية كلها فلأنها كانت كذلك وسيلة لنشر الإسلام في أنحاء الجزيرة. لهذا فمن المعقول جداً في نظرنا أن تكون الآية (89) قد طلبت من المسلمين استخدام "اختبار" الهجرة للتفريق في بعض الحالات بين من أسلموا، من أهل المدينة، إسلاماً صحيحاً ومن كان إسلامهم مشبوهاً، وألا يولوا ثقتهم إلا لذوي الإسلام الصحيح.

ويلاحظ أن عملية "الغربلة" هذه، التي أمر المسلمون بإجرائها، في حد ذاتها، دلالة على أن عدد المنافقين الذين كان يقتضي تطبيقها عليهم كان كبيراً.

وبالنسبة للآية (90)، كان المطلوب أن نعرف:

– من هم القوم الذين كان بين المسلمين وبينهم في المدينة مواثيق. المشركون؟ اليهود أو المشركون عموماً أم فئات من بينهم؟ وما هي هذه الفئات؟ لو أن "السيرة" زودتنا بمعلومات في هذا الخصوص ليسرت علينا فهم أمور أخرى هامة، لاسيما فيما يتعلق بالمسألة التي سبقت إثارتها عن وجود أو عدم وجود مشركين في المدينة وعن علاقات المسلمين معهم. وتجدر الإشارة هنا إلى أنه، فيما خلا الصحيفة، التي يقول النص إن الرسول صلى الله عليه وسلم كتبها، والتي تتضمن مواد عن المشركين، فإن "السيرة" لا تشير إلى أي ميثاق معقود بينه (أو بين المسلمين) وبين المشركين. والحاصل أن هذه الآية الكريمة تتحدث عن ميثاق أي عن اتفاق بين طرفين. والطريقة التي وردت بها عبارة "الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق" يُفهم منها أن الأمر لم يكن أمر حالة وحيدة وأن مواثيق أخرى عقدت مع مجموعات أخرى من المشركين. ويؤكد هذا معلومة وردت في الآية الأولى من السورة رقم 115: (9) التوبة، تتحدث عن "الذين عاهدتم من المشركين"، والآية الكريمة رقم (7) من السورة ذاتها التي تتساءل: كيف يكون للمشركين عهد عند الله وعند الرسول؟

– مَن كان الذين "جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم"؟ إن حالة هؤلاء الأشخاص حالة ذات دلالة خاصة. والظاهر أن الأمر هنا لا يتعلق بمنافقين وإنما بمسلمين حسني النية. وأكثر من ذلك دلالة هو الخيار الصعب الذي كان يواجهه هؤلاء المسلمون: أن يقاتلوا أبناء دينهم أو يقاتلوا قومهم، أي قبائلهم المشركة. هل كان هناك نـزاع مسلح بين المسلمين والمشركين أو بعض عشائرهم في المدينة؟ هذا ما يتضح في جلاء من عبارة هذه الآية، وليس من المستغرب أن يكون المؤلف قد فضل تفادي الخوض في هذا الموضوع. بل إن من المحتمل، في رأينا، أن يكون ما جعله يخفي وجود المشركين في المدينة هو بالذات حرصه على عدم إزاحة الستار عن عدائهم للمسلمين الذي كان يمكن أن يؤدي إلى الحرب. وموقفه في هذا الصدد يذكِّر من قريب بموقفه، في حديث الفترة المكية، من عشيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وقبيلته، بني عبد المطلب وبني هاشم، وتفاديه الوقوف عندهم لكيلا تُستشف عداوتهم للإسلام والتنكيل الذي كانوا يوقعونه بأعضائهم المسلمين. وجملة "لو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم"، في الآية (90) نفسها، تعزز النقاط الثلاث للفكرة التي سُقناها أي، أولا،ً وجود مشركين في المدينة، وثانياً، عداءهم للمسلمين، وثالثاً، عددهم الكبير، الذي ما كان باستطاعتهم لولاه أن يقاتلوا المسلمين ويسلَّطوا عليهم، كما تقول الآية الكريمة.

– وأخيراً كان المأمول أن يعطينا المؤلف شرحاً للآية الرابعة من هذه المجموعة، التي تتحدث عن "آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم". ممن كانت تتكون هذه الفئة من فئات المنافقين وفي أي ظروف وصل الأمر بهم إلى حمل السلاح ضد المسلمين إخوانهم في الدين؟ والى أي عشائر كانوا ينتمون؟ هذه أسئلة في غاية الأهمية، فإن عداء هؤلاء المنافقين، وعداء عشائرهم من باب أولى، للرسول صلى الله عليه وسلم وللمسلمين، قد بلغ، هنا، كما في الآية السابقة، درجة لم يبلغها أبداً في مكة. فإننا لا نجد في القرآن الكريم ولا في "السيرة" حديثاً، خلال الفترة المكية، كالحديث الذي نجده هنا، عن قتال مزمع ضد المسلمين في مجموعهم، فقد كانت كل قبيلة تكتفي باضطهاد أبنائها المسلمين أو بإبعادهم، ولم يؤمر الرسول صلى الله عليه وسلم أو المسلمون بتنـزيل إلهي بقتالهم أو بقتلهم حيث يجدونهم.

بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ﴿138﴾الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا ﴿139﴾وَقَدْ نـزلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ معهم حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللّهَ جَامعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ﴿140﴾الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللّهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً ﴿141﴾إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَاؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً ﴿142﴾مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاء وَلاَ إِلَى هَؤُلاء وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً ﴿143﴾يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا ﴿144﴾إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴿145﴾إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴿146﴾

ملحوظة:

لدى قراءة الآيات الكريمة (138) إلى (146) من سورة النساء، تخطر على البال عدة أسئلة: من هم الكافرون الذين كان المسلمون يتخذونهم أولياء وما مصدر عزتهم؟ هل كانوا أقوياء لثروتهم أم للمركز الذي كانوا يتبوأونه في قبائلهم؟ وإذا كان عبد الله بن أُبي بن سلول، أعلى كفار المدينة مكانة ومقاماً، الذي قررت عشائر الأوس والخزرج أن تنصبه ملكاً، قد اضطرته للانضمام إلى الدين الجديد موجة الإسلام الكاسحة، فما الذي جعلهم لا يحذون حذوه؟

ويلاحظ هنا الاختلاف الشديد في الطريقة التي يعامل بها نص ابن إسحاق كُبراء الكافرين في المدينة وكُبراء مكة. ففي حديث الفترة المكية يسلط النص كل الأضواء على هؤلاء الكُبراء ويترك في الظل جميع الأهالي الذين كانت توجه إليهم رسالة النبي صلى الله عليه وسلم. إن هؤلاء الكبراء هم الذين كانوا يجتمعون في المسجد؛ وهم الذين مشوا إلى أبي طالب أربع مرات ليسألوه أن يمنع ابن أخيه من مهاجمة دينهم، ومن ذمِّهم هم وآلهتهم؛ وهم الذين يطلبون منه أن يسلمهم محمداً ويهددوه بالحرب إن لم يفعل؛ وهم الذين يهزأون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويطرحون عليه أسئلة محرجة أو الذين يقدمون إليه عروضاً مغرية ليصرفوه عن دعوته؛ وهم الذين يقررون مقاطعة بني عبد المطلب وبني هاشم بسببه؛ وهم الذين يهجوهم أبو طالب في شعره، وهم أخيراً الذين يجتمعون بعد بيعة الحرب ويقررون اغتيال الرسول صلى الله عليه وسلم بأيدي "فرقة موت" تتكون من فتية ينتمون إلى كل قبائلهم. هؤلاء الأشراف هم الذين يمثلون في النص كفار مكة، علماً بأن القرآن الكريم حين يتحدث عن كفار مكة لا يخص بالذكر كبراءهم وإنما يتحدث عن الكافرين عامة ويقسمهم إلى طائفتين: الذين اتَّبَعوا والذين اتُّبِعوا. أما أصحاب العزة الذين ورد ذكرهم صراحةً في الآية (139)، والذين اتخذهم بعض المسلمين أولياء، فإن النص لا يقول عنهم شيئاً على الإطلاق وكأنهم لم يكن لهم أبداً وجود، فإن المدينة لم يكن فيها، في عرف المؤلف، مشركون، لا من أصحاب العزة ولا من الضعاف، فقد أسلم كل أهلها من غير اليهود. نعم، كان فيها منافقون، ولكن هؤلاء كانوا لعبة في أيدي اليهود، واليهود وحدهم.

وبالنسبة لأولئك الذين كانوا يكفرون ويستهزئون بآيات الله، الذين تعنيهم الآية (140)، فإننا نجد التفرقة ذاتها في النص. فإن معظم الاقتباسات القرآنية الواردة في حديث الفترة المكية تتحدث عن هؤلاء الأشخاص بالذات وقد اختارها مؤلفنا ليهاجم سادة قريش وأشرافها الذين كانوا يعارضون رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يحرص على تعيينهم بأسمائهم وقد ذكر منهم ثمانية عشر. أما هذه الآية التي تتعلق بمشركي المدينة، فإنه أغفلها وبالتالي فإنه لم يقدم أي شرح ولا ذَكَر أي اسم بشأنها، سواء بين المشركين أنفسهم أو بين المنافقين الذين كانوا يقعدون معهم ويعيرونهم آذانهم.

أما الآيات الكريمة (141) و (142) و (143) التي تأخذ على منافقي المدينة مواقفهم الملتبسة وذبذبتهم "لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء"، ورفضهم الانحياز إلى إخوانهم في العقيدة، وحقيقة أنهم يكيلون الثناء للمسلمين وللكافرين بحسب ما إذا كان النجاح حليف هؤلاء أو هؤلاء، وكونهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى، وكونهم يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً، وكلها مآخذ بالغة الجسامة لأنها تعرض مرتكبها للدرك الأسفل من النار الذي يبلغ فيه العذاب أقصاه، فإن مؤلفنا لم يقتبسها. ولولا أن فئات المنافقين المذكورة كانت تضم أعداداً منهم لا يستهان بها لما حمل القرآن عليهم هذه الحملة الشعواء. وكان المفروض أن تخصص صفحات في تاريخ أحداث الفترة لوصف الأفعال التي تشير إليها الآيات المذكورة. وكان المأمول أيضاً أن يخبرنا المؤلف عن الأمور التي فتح الله فيها على المؤمنين مما ورد ذكره في الآية الكريمة (141) وكذلك، على الأخص، تلك التي كان للكافرين فيها نصيب. هؤلاء الكافرين الذين لا تشهد الآية فحسب بوجودهم (في المدينة)، بل تشهد أيضاً بأنهم كانوا أحياناً يتغلبون على المسلمين. ولابد أن هذه الآيات، وغيرها من آيات سورة النساء التي تشدد النكير على الكفار والمنافقين والتي تنهى المسلمين عن اتخاذهم أولياء، كان لها وقع كبير في المدينة. ولابد أنها حملت بعض المسلمين على قطع علاقاتهم بنفر من أصحابهم ومعارفهم، وأن ذلك ترتب عليه نشوء وضع جديد في العلاقات بين الأشخاص وبين الجماعات. ولابد أن عداء الكفار للمسلمين انتقل إلى درجة أعلى تمثلت في قطع صلاتهم بأقربائهم المسلمين، وفي اضطهادهم لهم، وفي زيادة حدة العداء لأمة المسلمين. ولابد أنه كان من مظاهرها كذلك زيادة التقارب بين الكفار وبين خصوم الإسلام الآخرين، أي يهود المدينة وكفار مكة وغيرها من البلاد.

ولأن النص تجاهل مجموعات الآيات المذكورة، نجده لم يبين أي جانب من جوانب هذا الموقف في مختلف مظاهره. ولم يقل شيئاً عن أعداء الإسلام من بين الكافرين، ولا عن أعمال التنكيل التي اقترفوها، ولا عن ضحايا اضطهادهم. وهو لم يتحدث كذلك عن المسلمين الذين تابوا، استجابة للآية (146)، وأخلصوا دينهم لله. وهكذا خلت سيرة ابن إسحاق/ ابن هشام من فصل هام من فصول حياة الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة. 

رقم 105: (33) الأحزاب

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴿1﴾

وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴿48﴾

لَئِن لَّمْ يَنتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلا قَلِيلاً ﴿60﴾مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلاً ﴿61﴾سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً ﴿62﴾

لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا ﴿73﴾

ملحوظات:

أورد المؤلف في حديثه عن غزوتي الخندق وبني قريظة في السنة الخامسة من الهجرة عديداً من آيات هذه السورة المتصلة بالمنافقين. ومع ذلك فإنه لم يقتبس الآيات المذكورة أعلاه. وهي تثير الملحوظات التالية:

1- الآيتان (1) و (48) تحظران على الرسول صلى الله عليه وسلم طاعة الكافرين والمنافقين. وهذا يفترض أن هؤلاء وأولئك مارسوا ضغوطاً عليه ليقول أو يفعل أشياء تتعارض مع دينه. مَن الذين مارسوا هذه الضغوط، وماذا كان الغرض منها، وفي أي فترة حدث هذا؟ لا ندري.

2- يتضح من الآية (48) أن الرسول صلى الله عليه وسلم لحقه أذى. والحاصل أن النص ليس فيه أي إشارة إلى أذى من أي نوع حاق بالرسول صلى الله عليه وسلم على يد الكفار أو المنافقين.

3- إذا كان من المتعذر تأكيد أن الخطر الذي تطمئن هذه الآيات الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله تعالى سيقيه مغبته كان من صنع كفار المدينة ومنافقيها وحدهم، فإن من المتعذر أيضاً استبعاد هؤلاء الكفار والمنافقين من الفئات التي تشير إليها الآيتان (1) و(45) والآيات الأخرى التي تليهما؛ بل إن من المسموح به تصور أن كفار المدينة ومنافقيها أول من تنصب عليهم الآيات المذكورة.

4- المقصود في الآية (60) والآيات التي تليها، التي تشير الدلائل إلى أنها نـزلت في وقت متأخر، هم على وجه التحديد منافقو المدينة. وعبارة الآية توحي بأن الأذى الذي لحق الرسول صلى الله عليه وسلم على أيديهم، والذي تتحدث عنه الآية (48)، قد استمرَّ وأثار غضب الله سبحانه وتعالى عليهم ولعنته لهم بأن يغري بهم رسوله فيقتلهم تقتيلاً.    

5- اللغة المستخدمة في الآيات (60) و (62) و (73)، ولكن أيضاً، وبصفة خاصة، الإشارة في الآية (62) إلى "الذين خلوا من قبل" توحي بأن المنافقين الذين يوجه إليهم هذا التهديد ليسوا آحاداً أو حتى عشرات بل مجموعة كبيرة من الناس.

6- من الأمور ذات الدلالة أن التهديد الوارد في الآية (73) لا ينصرف فحسب إلى المنافقين والمشركين، وإنما ينصرف أيضاً إلى المنافقات والمشركات، و"السيرة" تسقط هذه المجموعة النسائية كلها من الحساب.

رقم 106: (63) المنافقون

إِذَا جَاءكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ﴿1﴾اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴿2﴾ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ﴿3﴾وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ ﴿4﴾وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ﴿5﴾سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ﴿6﴾هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ﴿7﴾يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ ﴿8﴾

ملحوظات:

المؤلف، كما رأينا، بصدد الاقتباس رقم 10 يقول أن جملة: "لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ" التي نطق بها عبد الله بن أُبي بن سلول، كانت سبب نـزول سورة (المنافقون) بأكملها. ويثير قوله هذا الملحوظات الآتية:

1- جاء في حديث غزوة بني المصطلق(23) (سنة ست) أن هذه السورة: "أنـزلت في ابن أُبي ومن كان على مثل أمره". إذاً كان المنافقون الذين تعنيهم السورة عديدين، ولولا ذلك لكان تهديد ابن سلول بدون طائل.

2- ليس صحيحاً أن سورة (المنافقون) نـزلت كلها بمناسبة ما قاله ابن سلول وحده أو مع فريق من أتباعه المنافقين، فإن ربع السورة موجه إلى الذين آمنوا ولا صلة بينه وبين كلام ابن سلول أو السياق الذي قاله فيه.

3- على فرض أن الآية (8) من السورة كان سبب نـزولها الحقيقي كلمة قالها ابن سلول فإن الآية (7) تتحدث عن موضوع مختلف تماماً وتشير إلى طائفة مختلفة تماماً من المنافقين كانت تأمل أن ينفضَّ بعض المسلمين عن دينهم نتيجة فقرهم.

4- عبارة: "يحسبون كل صيحة عليهم هم العدو" تشير إلى واقعة تاريخية محددة. والنص لا يذكرها ولا يدلي بأي شرح لها. كذلك فإن الحالة النفسية التي تتحدث عنها الآية - أي الخوف - لا تتمشى وعجرفة مَن تشير إليهم الآية (8). ومعنى ذلك أن هناك عدة فئات من المنافقين لا فئة واحدة.

5- ليس من المؤكد أن المنافقين المقصودين بالآيتين (7) و (8) هم وحدهم الذين تتحدث عنهم سورة المنافقون، فقد جاءت صياغة الآيات من (1) إلى (6) عامة تنسحب بشكل واضح على عدد أكبر بكثير من الأشخاص، هم الذين تسميهم الآية (6) بالقوم الفاسقين.  

رقم 111: (66) التحريم

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿9﴾

ملحوظة:

هذا الأمر الإلهي الصادر إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بجهاد المنافقين والتشديد عليهم في المعاملة وارد، بالصياغة ذاتها، كما رأينا، في الآية (73) من السورة رقم 115 في ترتيب بلاشير (9) التوبة. وسنقتصر، بشأن هاتين الآيتين المتشابهتين، على إبداء ملاحظة واحدة: إن المنافقين في كلتيهما، يظهرون جنباً إلى جنب مع الكفار. والواقع أن القرآن المدني كله يعامل المنافقين معاملته للكفار، بل إنه يساويهم بهم. وهو يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بقتلهم أحياناً. غير أن "السيرة" لا تقدم لنا الرسول أبداً وهو يجاهدهم. وعلى الرغم من أن الجانب الأكبر من حديث الفترة المدنية في "السيرة" أي عدة مئات من الصفحات، مخصص لحروب الرسول صلى الله عليه وسلم ضد الكفار، لاسيما كفار مكة، وللشعر الذي قيل في هذه الحروب، فإن "السيرة" لم تخصص أي مساحة، ولا حتى صفحة واحدة، لجهاد الرسول ضد المنافقين، سواءً اتخذ هذا الجهاد شكل الصراع المسلح أو شكل الحملة الكلامية. ولولا أنهم كانوا أقوياء وكثيرين لما ذكرهم القرآن الكريم بالتوازي مع الكفار. والقرآن لا يترك أي مجال للشك في عدائهم للإسلام. "هم العدو": هذا هو ما تصفهم به الآية (4) من سورة المنافقون، كما رأينا، ولابد أنهم، بهذه الصفة، ارتكبوا أو أعدوا أعمالاً حربية ضد المسلمين أو اشتركوا فيها. ولكن حديث الفترة المدنية في "السيرة" ليس فيه أي ذكر لمثل هذه الأعمال.

عبد الله بن أُبيّ:

حالة عبد الله بن أُبي بن سلول حالة عظيمة الدلالة في هذا السياق. إن "السيرة" تقدمه لنا باعتباره شخصية شهيرة، وسيد الخزرج وشريفهم، والكبير الذي كاد يُتوَّج ملكاً على المدينة لولا وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إليها، وتقول إنه كان يكره الرسول وإنه لم يدخل في الإسلام إلا مضطراً، لأن الإسلام عمَّ المدينة فدخل الناس فيه دخولاً جماعياً.

كان المنافق الذي لا يبارَى في نفاقه. ولم يكن يفوِّت فرصة لإيذاء النبي صلى الله عليه وسلم. فقد استخدم نفوذه كله لكي يعفو الرسول عن مواليه بني قينقاع، اليهود، الذين كان الرسول سيحصدهم في غداة واحدة على حد قول ابن إسحاق.(24) وقد انخذل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بثلث الناس في غزوة أُحد الحاسمة.(25) وأيد يهود بني النضير ضد المسلمين بإيهامهم أنه سيقاتل وأنهم إن أخرجوا خرج معهم هو ومن معه.(26) وهناك أيضاً هذه القصة: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن بني المصطلق يجمعون له، فخرج إليهم حتى لقيهم على ماءٍ لهم، فتزاحف الناس واقتتلوا، فهزم الله بني المصطلق. وقد أصيب رجل من المسلمين، أصابه رجل من الأنصار، وهو يرى أنه من العدو، فقتله خطأ. فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك الماء، وردت واردة الناس، ومع عمر بن الخطاب أجير له من بني غِفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وَبَر الجُهني، حليف بني عوف بن الخزرج على الماء، فاقتتلا، فصرخ الجهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه: يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أُبي بن سلول، وعنده رهط من قومه فيهم: زيد بن أرقم، غلام حدث، فقال: أَوَقَد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا، والله ما أعدَّنا وجلابيب قريش (لقب مَن كان أسلم مِن المهاجرين، لقبهم بذلك المشركون) إلا كما قال الأول: سمِّن كلبك يأكلك، أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلَّ. ثم أقبل على من حضره من قومه، فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم، أحللتموهم بلادكم، وقاسمتموهم أموالكم، أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم. فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عند فراغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من عدوه، فأخبره الخبر وقد مشي عبد الله بن أُبي بن سلول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، حين بلغه أن زيداً بن أرقم قد بَلَّغه ما سمع منه، فحلف بالله: ما قلت ما قال، ولا تكلمت به - وكان في قومه شريفاً عظيماً -، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله، عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه، ولم  يحفظ ما قال الرجل، حدباً على ابن أُبي بن سلول، ودفعاً عنه. فلما استقل رسول الله صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أسيد بن حُضير، فحياه بتحية النبوة، وسلَّم عليه، ثم قال: يا نبي الله، والله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أوَ ما بلغك ما قال صاحبكم؟ قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: عبد الله ابن أُبي, قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجنّ الأعزُّ منها الأذلَّ، قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت. هو والله الذليلُ وأنت العزيز؛ ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه، فإنه ليرى إنك قد استلبته ملكا.(27)

"السيرة"، باختصار، تقدم لنا ابن سلول على أنه أكبر منافق في المدينة وأنه كان، في علاقاته الشخصية مع الرسول صلى الله عليه وسلم وقحاً ومتغطرساً، وأنه أساء إلى الرسول حين توقف أمام إطمه وزراه وحدثه عن الإسلام، وأنه كان المسئول الأول عن حديث الإفك، خلال غزوة بني المصطلق، ضد عائشة، زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم وابنة صديقه الحميم أبي بكر. والمؤلف يلقبه برأس النفاق، وبعدو الله. لذلك فيحق للمرء أن يتصور أن الأمر الإلهي الموجه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المنافقين وقتلهم إذا كان ينطبق على أحد، فعلى بن سلول قبل غيره. ولكن الذي حدث أن هذا الأمر لم ينفذ، وأن ابن سلول تمتع بحصانة كاملة إزاء الرسول وإزاء المسلمين على السواء. ومن جهة أخرى، فإن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي نفذ بكل دقة وكل حَرْفية الأمر الذي صدر له في الفقرة 9 من سورة التحريم بمجاهدة كفار مكة وجزيرة العرب (لا كفار المدينة مادامت المدينة في شرع مؤلفنا بلداً لم يعد فيه كفار)، لم يجاهد ابن سلول. وإذا كان لم يجاهده، وهو رأس النفاق، فقد كان من الطبيعي ألا ينفذ الأمر الإلهي الصادر له ضد سائر المنافقين، أي أولئك الذين كانوا مرءوسين له، وأولئك الذين ارتكبوا من أعمال النفاق ما هو أقل خطورة مما ارتكبه هو. وعلى هذا النحو يكون المنافقون الوحيدون الذين جاهدهم الرسول صلى الله عليه وسلم والذين تصرَّف معهم وفقاً للأمر المذكور هم الرجال الخمسة الذين أساءوا السلوك في المسجد، ويكون الشكل الوحيد من الغلظة الذي استخدمه معهم هو إخراجهم من المسجد إخراجاً عنيفاً.

على أنه كان لابد من تفسير للموقف المتسامح الذي وقفه الرسول صلى الله عليه وسلم إزاء شخصية في مثل خطورة ابن سلول. وقد أعطى مؤلف "السيرة" هذا التفسير بطريقتين:

– بأن ذكر لنا أن ابنه، عبد الله بن عبد الله بن أُبي، لما بلغه الذي كان من أمر أبيه، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فإن كنت لابد فاعلاً فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجلٍ أبرَّ بوالده مني، وإني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعُني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أُبي يمشي في الناس، فأقتله فأقتل رجلاً مؤمناً بكافر، فأدخل النار؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.(28)

– بأن أخبرنا أن ابن سلول جعل بعد ذلك إذا أحدث الحدث كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه ويعنِّفونه؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر بن الخطاب، حين بلغه ذلك من شأنهم: كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلت لي اقتله، لأُرْعدت له آنفٌ، لو أمرتها اليوم بقتله لقتلته؛ قال عمر: قد والله علمتُ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.(29)

إن من الصعب علينا أن نقبل هاتين الواقعتين بلا تحفظ، وذلك للأسباب الآتية:

– أياً كانت مشاعر الرسول صلى الله عليه وسلم أو رأيه الشخصي، فلا يُتصور منه عصيان أمر إلهي؛ وقد كان الأمر القرآني بالجهاد ضد المنافقين وعدم الرفق بهم أمراً قاطعاً لا محيد عنه؛

– لو أنه حاد عنه لما فات عمر وغيره من المسلمين أن ينبهوه إليه. وما كان يسع الرسول صلى الله عليه وسلم أن يتغافل عن رأيهم وقد دعته الآية (159) من سورة آل عمران إلى مشاورتهم في الأمر. ويلاحظ في هذا الصدد أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان لا يريد، فيما يقول النص، أن يخرج لملاقاة العدو خارج المدينة ولكنه أخذ برأي أصحابه.

– إظهار الرفق برأس النفاق كان يمكن أن يفسَّر من جانب كل منافقي المدينة، الذين كانوا كثيرين، على أنه بادرة ضعف، وكان يمكن أن يعرِّض المسلمين لأسوأ العواقب.

– موقف ابن عبد الله بن سلول لم يكن فريداً. وقد كان من بين مسلمي مكة المهاجرين من رأى أباه أو أخاه أو عمه أو ابن عمه يُقتل في بدر وأُحد بأيدي إخوانه في الدين دون أن يشعر بحاجة أو بواجب يملي عليه أن ينتقم لهم. والحالة الوحيدة لمسلم قتل مسلماً آخر للثأر لأبيه هي تلك التي وردت بشأن الاقتباس رقم 2، ولكن المؤلف حرص على تقرير أنه كان منافقاً لاذ بعدها بمكة؛

– لم يعط المؤلف أمثلة لحالات تعرَّض فيها ابن سلول للوم قومه عن أعمال أو أقوال فيها إيذاء للرسول صلى الله عليه وسلم أو للإسلام؛

– ليس من الواضح لماذا يتمتع المنافقون، الذين يقول القرآن الكريم إنهم "هم العدو" ويعدهم بالدرك الأسفل من النار، بمعاملة أفضل من معاملة اليهود والكفار؛

– وأخيراً، فإن المؤلف لا يكتفي بشرح أن الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر حيال ابن سلول رفقاً لا يبرره أي عمل من أعماله أو قول من أقواله، بل يحكي لنا القصة التالية في تفسيره للآيتين (80) و (84) من سورة التوبة، ويحكيها على لسان عمر. يقول عمر:(30) لما توفي عبد الله بن أُبي، دُعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه، فقام إليه؛ فلما وقف عليه يريد الصلاة، تحولتُ حتى قمت في صدره، فقلت: يا رسول الله، أتصلي على عدو الله عبد الله بن أُبي بن سلول؟ القائل كذا يوم كذا، والقائل كذا يوم كذا؟ أعدِّد أيامه، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم، حتى أكثرت قال: يا عمر، أخر عني، إني قد خُيرت فاخترت، قد قيل لي: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم، إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم" فلو أعلم أني إن زدت على السبعين غُفر له، لزدت. ثم صلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومشي معه حتى قام على قبره، حتى فرغ منه. فعجبت لي ولجرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم والله ورسوله أعلم. فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نـزلت هاتان الآيتان". وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَدًا وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ﴿84﴾[التوبة]

فما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده على منافق حتى قبضه الله تعالى.

هل تُقبَل هذه القصة على علاَّتها؟ لا نظن ذلك. إنها، في رأينا، قصة من عشرات القصص التي رأيناها، والتي يُؤَوِّل ابن إسحاق فيها النص القرآني على هواه، ويلصق بتأويله اسماً ويقدمه على أنه واقعة تاريخية سابقة. ففي كل ما ورد في "السيرة" عن ابن سلول، ليس هناك شيء واحد كان يمكن أن يدفع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى التسامح معه. وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يُصَلِّ على عمه أبي طالب، الذي كفله وهو صغير، وحماه، فيما يقول النص، بعد الرسالة، والذي كان أبا ابن عمه وأول أصحابه علي، فما من سبب يحمل على تصديق أنه قبل أن يصلي على عدو معروف العداء كابن سلول. ويزيد من صعوبة تصديق ابن إسحاق فيما يقوله عن إصرار الرسول صلى الله عليه وسلم على الصلاة على هذا المنافق أن مؤلفنا يقول، في الفقرة التالية مباشرةً لتلك التي روى فيها القصة المذكورة، أن ابن سلول كان من أولئك الذين نـزلت فيهم الآية (86) من سورة التوبة التي يقول الله تعالى فيها: "وَإِذَا أُنـزلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُن مَّعَ القَاعِدِينَ" فنعى الله ذلك عليه وذكره منه.  

وللمرء أن يتساءل في هذا الصدد عن السبب الذي جعل ابن إسحاق يخترع هذه الواقعة التي ينسب حكايتها لعمر. والإجابة، في رأينا، تكمن بصورة طبيعية في تحيزه لكل ما هو مدنيّ. هذا التحيز الذي أعطانا المؤلف عنه أمثلة كثيرة، سواءً في حديث الفترة المكية أو في حديث بدايات الفترة المدنية، يظهر، في موضوعنا هذا، في اتجاهين: في اتجاه مكة أولاً فإن أحداً من كفار قريش، حتى أولئك الذين سعوا مثلاً في إنهاء المقاطعة التي فرضتها قريش ضد بني عبد المطلب وبني هاشم، والمطعم بن عدي الذي أجار الرسول صلى الله عليه وسلم بعد موت أبي طالب لدى عودته من الطائف، حظي لدى الرسول بمكرمة تشبه تلك التي جعلته صلى الله عليه وسلم يصلي على ابن سلول بعد موته؛ ثم في اتجاه كل المنافقين الآخرين في المدينة الذين كانوا يشعرون ولا شك، وهم يرون كبيرهم يتمتع بحصانة كاملة، أنهم في مأمن من كل عقاب.

رقم 115: (9) التوبة

يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنـزلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِؤُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ ﴿64﴾…الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ﴿67﴾ …وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ﴿68﴾…يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴿73﴾…وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴿75﴾فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ ﴿76﴾فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ ﴿77﴾ …الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنـزلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴿97﴾وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴿98﴾وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ ﴿101﴾

ملحوظات:

من مجموع الآيات المتقدمة، التي وردت في السورة قبل الأخيرة من القرآن الكريم، تتضح عدة أمور أهمها ما يلي:

1- أن المدينة، على وجه التحديد، وأماكن غيرها، كان فيها منافقون من الرجال والنساء، في آخر مرحلة من حياة الرسول صلى الله عليه وسلم؛

2- أن بعض هؤلاء المنافقين كانوا معروفين، وبعضهم الآخر لم يكن يعرفهم إلا الله سبحانه وتعالى، وبعضهم مردوا على النفاق، أي برعوا فيه.

3- أكثر المآخذ التي لام القرآن الكريم المنافقين بشأنها تواتراً هو رفضهم أو قلة حماسهم للإنفاق على الفقراء، وعلى الجهاد في سبيل الله. والأشخاص الذين نسب إليهم هذا الضرب من ضروب النفاق كانوا ولا شك ضمن مجموعة المنافقين المعروفين، ومهاجمتهم بمثل هذه القوة دليل على أنهم لم يكونوا قليلي العدد.

4- وبالإضافة إلى التهديدات المتكررة التي وجهها القرآن الكريم إلى المنافقين من كافة الأنواع بالعقاب الذي ينتظرهم في العالم الآخر، فإن القرآن الكريم يأمر الرسول عليه الصلاة والسلام بجهادهم والغلظة عليهم، والمقصود بطبيعة الحال هم المنافقون المعروفون.

5- لأنهم كانوا يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف، ويقبضون أيديهم، كُلِّف الرسول صلى الله عليه وسلم بمجاهدتهم، كما كلف بمجاهدة كفار المدينة وغيرهم من الكفار. وفيما يتعلق بكفار مكة وبعض مناطق الجزيرة الأخرى، لا تذكر "السيرة" إلا نوعاً واحداً من الجهاد هو الصراع المسلح. ولكنها لا تخبرنا بشيء عن الجهاد الموجه إلى كفار المدينة لأن المؤلف، كما رأينا، يخفيهم عن الأنظار ليس فقط بعد السنة الأولى من الهجرة بل أثناء هذه السنة. كذلك، وكما سبق أن أوضحنا، فإننا لا نجد في "السيرة" أي معلومة عن جهاد الرسول صلى الله عليه وسلم ضد المنافقين المعروفين الذين يقرر القرآن الكريم وجودهم صراحةً في المدينة.

ومما يستحق الذكر أن المؤلف فسَّر عديداً من آيات سورة التوبة في حديثه عن السنة التاسعة للهجرة، وهي سنة نـزولها. ولا يجد المرء في ثنايا الصفحات العشر التي خصصها لهذا التفسير أي إشارة إلى الآية (64) (عن المنافقين الذين يحذرون أن تنـزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم)، ولا إلى الآية (67) (عن المنافقين والمنافقات الذين يأمرون بالمنكر وينهون عن المعروف)، ولا إلى الآية (68) (عن لعنة الله على المنافقين). وليس في هذه الصفحات كذلك شيء عن الآية (73) بالغة الأهمية التي تأمر الرسول صلى الله عليه وسلم بمجاهدة المنافقين وبالإغلاظ عليهم. وفيما يتعلق بالأشخاص الذين تقول الآيتان (75) و(76) إن أشخاصاً عاهدوا الله لئن آتاهم من فضله ليصدقُنَّ والذين لم يفوا بعهدهم، لا يذكر المؤلف إلا شخصين: ثعلبة بن حاطب ومعتّب بن قشير من أهل المدينة، يعتبرهما ابن إسحاق منافقَيْن ولكن ابن هشام لا يعتبرهما كذلك استناداً إلى قول علماء يثق فيهم. وأخيراً ليس في "السيرة" شيءٌ عن الآيات (77) و (97) و (98)، ولا عن الأعراب وأهل المدينة الذين تشير إليهم الآية (101) والذين مُردوا على النفاق. 

اجمالي القراءات 8659