الثورة وشيطنة مبارك

كمال غبريال في السبت ٠٩ - يوليو - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

قبل تناول الظاهرة الخطيرة موضوع هذا المقال، يلزم بداية أن ننوه أننا لسنا بصدد تقييم عصر مبارك، كما أننا لا ننتوي تقييم مبارك الرئيس، في محاولة مثلاً للدفاع عنه. . ولقطع الطريق على هذه النقطة الأخيرة بالتحديد نقول، أن الحكم على الحكام وبالذات هؤلاء الذين جلسوا على كراسيهم دونما أمل في تركها لغيرهم، وأداروا البلاد بمنهج استبدادي، هؤلاء لا يتم تقييمهم باستعراض كافة ما تم في عهدهم من فعاليات سواء كانت سلبية أم ايجابية، وإنما ينبغي أن تكون المحاسبة فقط على السلبيات. . ذلك أن الإيجابيات إما أن تدرج ضمن إنجازات مؤسسات الدولة والشعب، وإما أن تعد واجباً مفروضاً عليهم، مادام التقييم لا يفترض احتمال أن يكون الرئيس شيطاناً مريداً، ووجود ولو إيجابية واحد يسقط دعوى كونه شيطاناً. . الأمر أشبه بتوظيف سائق سيارة ليقطع بنا مسافة مائة كليومتراً، وإذا سار بنا المسافة كلها باتزان وسلام، لكنه في المتر الأخير من الرحلة اصطدم بالسيارة في حائط، فإنه هنا لا يستطيع أن يحتج علينا عند محاكمته، بأنه قدر سار بنا كل هذه المسافة بكفاءة. . يكفي إذن ولو خطأ واحد قاتل كالذي ارتكبه عبد الناصر أو السادات أو مبارك، لكي نحكم عليه حكماً سلبياً.
ما يهمنا هنا ويقلقنا أشد القلق إذن ليس شيطنة مبارك وصحبه كأشخاص، وإنما ما يجري الآن باسم الثورة من شيطنة كل توجهات وسياسات عصر مبارك، ومحاولة البعض دفعنا للسير بعكسها بطريقة آلية. . هذا البعض في الأغلب يمثل أسوأ ما في مكونات النخبة المصرية المعارضة من حيث التوجهات والأفكار، ويحسب لعصر مبارك أنه أدار لهم ظهره طوال الوقت، ومضى في سياساته غير عابئ بهم إلا قليلاً، هذا القليل الذي جعل خطواته الإصلاحية بطيئة ومترددة، وقد أساء أشد الإساءة لمصر، بعدم مواجهتهم إعلامياً وجماهيرياً، وفضح زيف شعاراتهم وصراخهم. . فلقد اكتفى رجال مبارك (ربما لأنهم بالأساس فاسدون ولا يؤمنون بشيء) بالصمت والمضي قدماً فيما يفعلون، وكأنهم يرتكبون جرائم في حق الوطن، يجبنون أو يستحون من الدفاع عنها.
هي تلك التوجهات الثلاثة لأصحاب الإيديولوجيا والدوجما المفارقة للواقع، تسحبنا الآن باسم الثورة لمستنقعات التخبط والتخلف والنكسات، والتي وقانا منها عهد مبارك، رغم ما صاحب سياساته من فساد لا يحسب بالقطع على التوجهات ذاتها، وإنما أضعف ذلك الفساد من إيجابيات تلك السياسات، وجعلها عرجاء وبطيئة ومترددة!!
نبدأ بأهل اليسار ومعاداتهم الحمقاء للعولمة والاقتصاد الحر، ونقول حمقاء دون خشية من لومة لائم، لأن العالم كله، بما فيه رؤوس الاشتراكية ورأسمالية الدولة قد انخرطوا في تلك العولمة التي نصر على تلقيبها بالمتوحشة، بعدما افتضح الفشل الذريع للنظريات الاقتصادية الاشتراكية. . فقط فلولنا الاشتراكية العاجزة مازلت على العهد باقية، ليس اقتناعاً بما لم يعد أحد مقتنعاً به، ولكن عجزاً عن فهم العالم ومتغيراته، وقصوراً في التعلم من الخبرات الإنسانية. . هؤلاء يستهدفون الآن رجال الأعمال، ويضعون الجميع في خانة الاتهام إلى أن يثبتوا العكس، ويخلقون بيئة طاردة للاستثمار والمستثمرين.
من الطريف هنا أن نجد الليبراليين المصريين يتراجعون أمام هؤلاء، فلا يذكرون عبارة "السوق الحرة" إلا ويقرنونها بعبارة "مع تحقيق العدالة الاجتماعية"، ونجد عباقرة يتحدثون عن طريق ثالث، يحقق الجمع بين الرأسمالية والعدالة الاجتماعية!!. . هي دعابة سخيفة أو طريفة، أن تفترض فروضاً أو إشكاليات من وحي خيالك، ثم تبدأ تبحث لها عن حلول. . افتراض أن الدول الرأسمالية لا تراعي العدالة الاجتماعية والطبقات الفقيرة، ورغم أن الفقراء ينقرضون طبيعياً في الدول الرأسمالية، حيث الكل مؤهل لكسب عيشه بكرامة وكفاءة، إلا أننا نسأل هؤلاء أين ومتى شاهدوا مجتمعات رأسمالية لا تكترث بالإنسان، بل وأي دولة رأسمالية نجد فيها حتى كلاباً وقططاً ضالة لا تجد مأوى أو غذاء؟!!. . رحمة بنا وبأنفسكم يا سادة!!
نأتي إلى أهل العروبة أو العروبجية، والمصممين على دور مصر الريادي في قيادة المنطقة إلى الكوارث، تحت راية تحرير فلسطين، متعامين عن أن هذا الدور هو الذي أجهز على كل فلسطين ومعها الجولان، ولم تسترد مصر سيناء إلا بسلام السادات ومبارك، ولم تدخل منظمة التحرير الفلسطينية إلى الأرض الفسطينية إلا باحتزاء هذا السلام. . نعذر هؤلاء لأننا نفهمهم جيداً، فهم ليسوا أهل تحقيق مصالح أو مكاسب لشعوبهم، لكنهم أهل متاجرة وارتزاق وعداء أبدي لكل العالم ولأنفسهم أيضاً. . لكنهم الآن وقد أسقطنا مبارك وأعوانه الفاسدين، يجدونها فرصة لتصوير كل سياسات مبارك وكأنها فساد في فساد، رغم أن الشعب المصري وجماهيره المنشغلة بقوت يومها يعرفون ويحفظون لمبارك وقايته لمصر من نكسات وكوارث الهوس العروبي وبلاويه. . هؤلاء العروبيين الذين لم يتعرفوا يوماً على الحرية والديموقراطية يريدونها قذافية أو أسدية أو حتى صدامية، ونحن مع التحذير منهم ومن خطورتهم على مصرنا، نعرف جيداً تاريخ أغلبهم، وكم قبضوا من صدام والقذافي، لتبقى مصر كسيحة وأسيرة لتلك العروبة المأفونة.
نأتي أخيراً إلى المتأسلمين، ولن نستفيض هنا في تعداد مخاطر خطابهم على مصر وعلى كل المنطقة والعالم أجمع، فقط نضرب مثالاً واحداً على استخدامهم توجه شيطنة مبارك، لسلب منجزات عهده، التي هي منجزات الشعب المصري والمجتمع المدني، والمثال هو محاولتهم التراجع بنا عن قوانين الأسرة، بدعوى أنها قوانين سوزان مبارك. . هم هكذا يستغفلوننا ويتقهقرون بنا تحت راية المعاداة لكل ما تم في عهد مبارك، وكأن سوزان مبارك قد وقفت وراء هذه القوانين لمصلحتها الشخصية، وليس لمصلحة المرأة والأسرة المصرية!!
هذا بالطبع بخلاف استغلالهم لمعاداة عصر مبارك في الإفراج عن عتاة القتلة والإرهابيين من السجون، والذين استطاعت اليد الأمنية القوية كسر شوكة إرهابهم في التسعينات، ووقت مصر شرورهم وجرائمهم. . خرج هؤلاء علينا ليصيروا نجوماً في الفضائيات التليفزيونية، وليتحدثوا وكأنهم أبطال صناديد عائدين من ميادين الجهاد، وليدلوا بآرائهم في أحوال البلاد والعباد، مع وعود بإصدار عفو عنهم لممارسة حقوقهم السياسية. . بالطبع لا نحسب من سمح بذلك على جانب الثورة والثوار، بل فعلتها تلك القوى التي ظنت أنها يمكن أن تضحك على ذقون الشعب المصري، وأن توهمه بحمايتها للثورة، وهي تفعل كل ما تتصوره كفيلاً بإعادتنا إلى حظائر العبيد.
لم نورد في هذه العجالة كل ما ينبغي علينا إيراده والتحذير منه، لكن يكفينا أن نطلق صيحة تحذير للشعب المصري ونخبته، لنحترس ممن يذهبون بنا إلى الجحيم، أو إلى الطرق المسدودة، مستغلين معادتنا لمبارك وعصره.

 

اجمالي القراءات 7309