الشعب المصرى: البحر من أمامك والعدو من خلفك
الشعب المصرى بين الماضى والحاضر

محمد صادق في الخميس ١٠ - فبراير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

الشعب المصرى بين الماضى والحاضر

الشعب المصرى: البحر أمامك والعدو من خلفك

 

عنوان هذه المقالة يذكرنى بما جاء فى القرءآن الكريم عن قصة فرعون وأولاد إسرائيل وما حدث لقوم أستضعفوا فى الأرض والحوار الذى جرى بين موسى عليه السلام وفرعون مصر ودور السحرة وبعدها تطورت الأحداث ويدخل الساحة عميل آخر هو السامرى وما تم بين هارون نبى الله و موسى رسولرسول ونبى الله . فكيف كانت قصة فرعون مصر وأعوانه من السحرة وإستغلال السامرى لهذا الشعب الذى ذاق وبال فرعون الذى كاد يدمر ويسحق شعب حكمه بالنار والحديد.

لنلقى نظرة على هذه القصة التى يجب أن نأخذ منها عبر ودروس والتى أصبح حال مصر منذ ذلك الوقت والتاريخ يعيد نفسه وللأسف لم نتعظ ولم نتدبر حكمة الله من هذه القصص القرءآنية التى قال عنها رب العالمين : "  لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ۗ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ" يوسف 111

يقول رب العزة عن قصة فرعون وبنى إسرائيل:

"  وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ  * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَىٰ إِلَٰهِ مُوسَىٰ وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا ۚ وَكَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ ۚ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ" غافر 36، 37

لم يجد فرعون من المصريين فى ملئه من يقولون له كفى أو يواجهونه بالحق أو حتى يعترضوا عليه، بل كانوا يعلمون كذبه ولا يجسر أحد على تكذيبه أو رده، بل كانوا يؤمِّنون على قوله مجاراة له ومجاملة ينالون بها الحظوة عنده، وإن كان فى نفوسهم كاذبا كما هو شأن الكثير من المصريين فى موافقة الحكام على آرائهم وإن كانت مباينة لما يكتمون فى أنفسهم.

" وَقَالَ مُوسَىٰ يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * حَقِيقٌ عَلَىٰ أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ ۚ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ *  قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَأَلْقَىٰ عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ *  وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ * قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَٰذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ *  يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ ۖ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيم * وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ* قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ * قَالُوا يَا مُوسَىٰ إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ * قَالَ أَلْقُوا ۖ فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ * وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ مُوسَىٰ أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ ۖ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ * فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ ۖ إِنَّ هَٰذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا ۖ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ* قَالُوا إِنَّا إِلَىٰ رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا ۚ رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ."

لما أعضل موسى وأخوه بفرعون ولم يجد السبيل إلى إقرارهما بأنه الإله الحق رجا أن يعجز عن الإتيان بآية تبين صدقهما فيما جاءا به عن إلههما. فكانت معجزة العصا واليد. أرسل فرعون فى مدائن مصر حاشرين يأتونه بالسحرة، وكان للسحر منزلة عظيمة فى أرض مصر يعنى به الملوك والأمراء والحكام ويكافئون عليه.وهذا أمر لم يزل كشف الآثار المصرية يبين عنه إلى اليوم. فجاؤا بجمهور عظيم من السحرة وعرضوا لفرعون بالأجر جزاء قيامهم بالسحر فوعدهم الأجر الجزيل والزلفى لديهوأى زلفة أعظم من زلفى قوم يؤيدون ربوبيته ويثبتون عرش ألوهيته. وتتوارى الأحداث سريعة، فوقع الحق وبطل سحر السحرة فخروا ساجدين لله تعالى وآمنوا برب موسى وهارون.

تمادى فرعون وقومه فى إصرارهم على الكفر مُعْرضا عن الآيات التى أتى بها موسى، فسَّكن فرعون روْع القوم واعدا إياهم بأن يقتل قوم موسى ويستحى نساءهم معتزا بما له عليهم من القهر والغلبة والسلطان، ثم أتبع القول بالعمل. فلنقرأ فى هذا الموقف الآيات التالية:

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ * إِلَىٰ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ ۚ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ * وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ * وَقَالَ مُوسَىٰ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ "   غافر 23-27   

ولنقرا ما قاله فرعون فى نهاية هذه القصة موجها الخطاب إلى شعب مصر: فى سورة الزخرف 51-54 " وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَٰذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي ۖ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَٰذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ * فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ * فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚإِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ *

لما أخذت فرعون العزة وعتا عن أمر الله تعالى وتمادى فى تكذيب موسى وإستمر فى إعنات بنى إسرائيل وإقاع ضروب الإذلال والإهانة بهم، أمر الله تعالى موسى ى أن يعلن فرعون وقومه بأن الله تعالى سيوقع بهم العذاب جزاء لهم على تكذيبه وإمتناعهم من إطلاق بنى إسرائيل فكانوا كلما وقع بهم عذاب بعد إنباء موسى إياهم به وعدوه بالإيمان به تارة، وبإرسال بنى إسرائيل معه تارة إخرى إذا سأل ربه كشف ما وقع بهم من العذاب. فإذا كشف الله عنهم ما نزل بهم، عادوا إلى طغيانهم وغدروا بعهدم وخاسوا بوعودهم. وهكذا إلى الآية الكبرى والبطشة العظمى وهى إغراق فرعون فى اليم ونجاة بنى إسرائيل.

هذا هو الإتجاه السياسى الحاكم بكل جبروته وتذبيح أبنائهم وإستحياء نسائهم وإذلالهم وإستعبادهم لمصالح دنيوية وكبرياء الحاكم الفرعونى وتحديه لكل الآيات البينات التى أرسلها الله ليتوب أو يخشى. وما زال التاريخ يعيد نفسه فى كل مناسبة وفى كل زمان. "  وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِلَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ" الأعراف(130

لك يوم يا فرعون....!

 ولننتقل إلى المرحلة الثانية من هذه القصة، بنى إسرائيل والسامرى

وقبل ذهاب موسى لميقات ربه أمر أخاه هارون أن يكون خليفة على بنى إسرائيل وأكد عليه الأمر بالنظر فى مصالحهم وشؤونهم واليقظة فى أمرهم.

لم تكن معظم أنفس بنى إسرئيل مرتضاة بالإيمان وأنهم كانوا ذوى جهالة على الثقافة الكافية لصون عقائدهم من الزيغ. والقوم عاشوا فى مصر وألفوا أن يروا عبادة المصريين للعجل أبيس، وكان للمصريين عناية فائقة بعبادة هذا العجل وكانت العجول المؤهلة إذا ماتت حنطوها كما يحنط الآدمى بما يحفظ جسمها من التلف ودفنوها فى مقبرة خاصة فى جهة سقارة تسمى " سرابيوم". كانت بساطتهم وإلفهم للوثنية مسهلة لرجل ماكر كان فيهم سماه القرءآن " السامرى " فجاءهم بعجل له خوار وقال لهم هذا إلهكم وإله موسى نسيه موسى هنا وذهب لملاقاته فى الغيبة الطويلة.

"  وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَىٰ بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ " البقرة 54

سعى إليهم هارون وأراد ردهم عن عبادة العجل وأفهم القوم أنهم فتنوا به وجهد أن يردهم فلم يفلح ولم يصغوا إليه وقالوا له " لن نبرح عليه عاكفين حتى يرجع إلينا موسى " .

فرجع موسى إلى قومه غضبان حزينا حردا على أخيه إذ لم يردهم عن فتنتهم  بعد أن أخبره الله تعالى بأنهم فتنوا عن دينهم وأن السامرى أضلهم.

"  قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ ۖ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي *  قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي ۖ إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي " طه 92-94

إعتذر هارون بأنه عمل جهده ولو قام بقتال من إرتد لكان ذلك سببا لفرقة خشى هارون أن تكون سببا لغضب موسى لأنه لم يرتقب رأى موسى فى هذه الفتنة. هذا هارون نبى الله صبر على بعض من بنى إسرائيل فى عبادة العجل عن أن يجعل فرقة بين بنى إسرائيل. وإذا نظرنا إلى حال أمتنا المعاصرة فالفرق والأحزاب لا تعد ولا تحصى وكل حزب بما لديهم فرحون. والله سبحانه يحذرنا من التفرقة فى الدين فيقول لكل من له قلب وألقى السمع وهو شهيد:

 " مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا ۖ كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ" الروم 30-31

وتنتقل الأحداث إلى موسى والسامرى

" قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ * قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَٰلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ۖوَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا * إِنَّمَا إِلَٰهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ ۚ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا " طه 95-98

هذا هو الإتجاه الدينى الذى أضل القوم وتفرقوا وكان العقاب من الله سبحانه بأن أقتلوا أنفسكم....

لك موعدا يا سامرى لن تخلفه.....!

التاريخ يعيد نفسه، فما أشبه البارحة باليوم. فالشعب المصرى منذ القدم وإلى اليوم محصورا بين البحر من أمامك والعدو من خلفك، بمعنى أن الشعب المصرى على مر العصور محصورا بين تيارين الأول التيار السياسى والثانى التيار الدينى والقوم بين هذا وذاك فإلى أين المفر... " يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ * كَلَّا لَا وَزَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ * يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ * بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ أَلْقَىٰ مَعَاذِيرَهُ " القيامة 10-15

التيار السياسى....

ماذا كانت سياسة فرعون البارحة، هامان وجنودهما يدبرون القتل والإرهاب بالسلاح والفتن والإضطهاد لبعض من القوم دون الآخر فأوجد الفرقة والتشاحن والتباغض بين أفراد الأمة وأباح النظام السياسى آنذاك قتل الرجال وإستباحة النساء حتى لا تكون هناك مقاومة ضد النظام الذى فرضه فرعون البارحة على هؤلاء المستكينين والمستضعفين.

أود أن أوجه هذه الكلمات لشعب مصر الحبيب فى أزمتنا المعاصرة وسوف ألقى بعض اللوم على القوم الذين إعتقدوا أنهم مستضعفين فى الأرض.

قارنوا المواعيد الكاذبة التي نسمعها من عام 1948 وحتى الآن ، سنين مضت مضت ونحن نسمع المواعيد الكاذبة من كبار كذبة العالم الذين هم زعماء العالم الإسلامي وزعماء العالم العربي ، وكل يومٍ هزيمة جديدة ، لماذا ؟ ليس الحكام فقط هم المسؤولين ، أنتم أيضاً مسؤولون ، كما تكونون يولى عليكم ، لو كنتم أصحاب جد لجاءكم حكام أصحاب جد ، ولو كنتم أصحاب نظافة لجاءكم حكام أصحاب نظافة ، ولو كنتم أصحاب رؤيةٍ مستقبلية لكان حكامكم كذلك ، فأنتم جميعاً عما نحن فيه من تدهور وانحلالٍ وانحطاط وتراجع لا يريد أن ينتهي عند أحد.

 أقل من ربع قرن تُنشئ أمة وتقيم حضارة ، ومئات السنين ونحن نهوي ونهوي نحو القاع ولم نصلها حتى الآن ، السبب في ذلك كله يرجع إلى أننا سفهاء للغاية في أوقاتنا وفي قدراتنا وفي إمكاناتنا ، لا نريد أن نعمل من أجل الغد، وإنما نعيش اللحظة الراهنة وليس وراءها أي شيء، والمطلوب التوكل وليس التواكل.

دعوني أقول لكم : إن هذه الحالة المؤسفة عار علينا ، ولا يجوز أن تستمر بحالٍ من الأحوال ، إنها فوق أنها تنشئ أشباه رجال تسيء إلى الأمة كمجموع وتحكم بالإعدام على المستقبل وتسمح للعدو أن يزيد في التخريب وأن يزيد في التمكين وأن يزيد في التمزيق.

نحن إزاء هذا صرفنا النظر عن أن نهتم بمشاكلنا ، وصرفنا النظر عما تمليه البديهة ، أنا حينما أقع في مشكلة فمن الطبيعي أن أبحث عن حلٍ للمشكلة ، أما أن أفتح فمي وأنتظر أن يسقط لها الحل من السماء فهذه تنبلة ، أليس كذلك ؟ نحن فعلنا نفس الشيء ، انتظرنا أن يسقط علينا الحل من السماء ، وللأسف سقطت علينا المشاكل . لا بأس سأسلم مبدئياً ومن باب الجدل أن المناهج التي اتُخذت منذ عام 52 تاريخ الثورة المصرية وحتى الآن خُطَى في الطريق الصحيح ، سأسلم مبدئياً . وبناءً على هذا فالمثقفون منكم يعلمون أن الصوت الأعلى في الكتب وفي الصحف وفي الإذاعات على صعيد العالم الثالث أو الدول المتخلفة هو صوت برامج التنمية ، صحيح هناك جهل ومرض وتخلف وفقر والناس بحاجة إلى أن يخرجوا من هذه الحال ، وكان الجواب على ذلك برامج التنمية . وما زلت أتصور وأتخيل حتى الآن بكل مرارة وأسف أواسط الخمسينات حينما استُدعي خبير التنموي المشهور شارل بنتهاي فجيء به إلى مصر بعد أن قضى مدةً طويلةً في الصين ليصف العلاج الاقتصادي لهذه الأمم المنتثرة على أديم الكرة الأرضية

 برامج التنمية كلها فشلت في تحقيق سعادة الإنسان ، ذلك لأنك تستطيع أن تتعامل مع الجماد وفقاً لقوانين الجماد ، لكنه من المستحيل أن تتعامل مع الأحياء وفقاً لقوانين الجماد ، هذا مستحيل علمياً وواقعياً . وبرامج التنمية تتعامل مع شؤون المجتمع بالرقم وبالواقعة المادية ، أي ضمن القوانين المادية التي تدخل في المعمل ويعامل عليها الجماد ، وحتى مع صرف النظر عن المنافع التي يمكن أن تتحقق من هذا المنهج فأنا أذكر أن الزعيم الصيني الراحل ماوتسيتونغ حذر من هذه الناحية ، حذر من التسابق في ميدان التنمية وله قولة مشهورة في ذلك.

 إن سباق التنمية أخطر على البشرية من سباق التسلح ، لماذا ؟ لأن سباق التنمية يجعل الإنسان بمثابة الحمار ، أو بمثابة البهيمة ، لا هم له إلا أن يأكل ويشرب وينكح وينسل ، فإذا استمر الأمر بهذا الشكل فما هو مصير المجتمعات ؟ ما شكل المجتمعات التي تأتي بعد عشر سنوات أو عشرين أو مائة أو مائتين ؟ هل هؤلاء بشر ؟ فالحياة ليست كلها طعاماً وليست كلها شراباً وليست كلها سفاداً كما يتسافد الحمر ، لا ، الحياة مُثُل وقيم وأهداف وأمانة مستقبل ، فإذا لم ينظر الناس إلى هذه الأمور باهتمام وبجدية فسوف تفشل الحياة وسوف تتدمر . فإلى الأمام نحو الحرية والعلم والتقدم والخلاص من العبودية والفقر والجهل الذى سيطر على عقول الأمة وجعلها تساق ولا تسوق.

إن التيارين الذى حصر بينهما الشعب المصرى، هما يد واحدة إجتمعت على تمزيق هذه الأمة ومواردها وعقولها وثرواتها. التيار الأول يخطط للحكم بالسلاح وقبضة من حديد، وحتى تكتمل الصورة هنا يأتى التيار الثانى ويتدخل لإرهاب الناس بأن كل شيئ حرام وإن إختلفت معه فأنت كافر يحل دمك. ما هو تأثير هذا المبدأ على القوم، إستكانة وخوف من المستقبل والخوف الأكبر هو التغير المطلوب للخروج من هذه القبضة الحديدية التى يساندها التيار الدينى والكل يجرى حسب أجندة متماسكة مترابطة إن إختلف أحد التيارين عن هذا المخطط سقط الآخر فى الهاوية.

التيار الدينى....!

الإصلاح... إصلاح جانبين اتصلاً بالدين يمثلان الأهمية العظمى فى المجتمع – فرداً أو جماعة – هاذان هما العقل الذى يميز للفرد ما بين الخطأ والصواب.. الهدى والضلال فهو "يوصله" حياته، وإذا خربت أو أنعدمت أصبح تائها يتخبط يؤمن بالخرافة ويظن أنها بالحقيقة، ويتمسك بالضلال ويحسبه الهدى فيجنى على نفسه وعلى أسرته، وبالطبع على المجتمع.

ومنذ ألف سنة وقد أغلق الفقهاء باب الاجتهاد ومعنى هذا أنه أصبح على المسلم أن يتعبد وأن يمارس شعائر عبادته وأن يطبق أحكام فقهه (وهى تغطى مجالات الحياة كافة) دون سؤآل ودون فهم العلة، إن هذا يعنى أن أمة محمد أعطت عقلها أجازه ألف عام، فلنحمد الله إننا لا نزال نسير على قدمين وكان يمكن أن ندب على أربع، لأن الله تعالى يقول " أُوْلَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئـِكَ هُـمْ الْغَافِلُونَ" الأعراف 179. فإذا كنا لا ندب على أربع فأشهد – صادقاً غير  حانث – أنى وجدت عشرات، أو مئات من الأفراد لها عقول لا تفضل عقول الأنعام، ولا تريد أبداً أن تفكر وتسأل فى كل صغيرة وتافهة، وتستفتى المفتى أو تلوذ باستخارة وتتحير أمام ما تعده مشاكل، وهو ما لا يقف الطفل الأوروبى الصغير أمامه، وكنت كلما أحثهم على التفكير، وأقول لهم إن لدينا من عدة البحث ما لم يكن يحلم به الأوائل فإنهم يرفضون ويصرون على ما قاله الأسلاف، وأنه لا أحد يمكن أن يرقى إلى منزلتهم.

هذا الصدأ – إن لم يكن الشلل – العقلى هو فى أصل تأخرنا، فلا يمكن لأمة أن تتقدم بعد أن عطلت عقلها، خاصة فى هذا العصر الذى يقوم فيه كل شىء على العقل ولا تقف الجريمة النكراء لهذا الفهم المشوه للدين عند هذا. إنها امتدت إلى الضمير، وهو الذخر الثانى للإنسان الذى يميزه على الحيوان، وكانت الأديان هى أول من قدمه للبشرية، وبفضله ميزت بين الخيروالشر.. ما يجب، وما لا يجب، والأساس الذى يقوم عليه التعامل بين الناس من صدق أو إخلاص أو وفاء..... الخ

هذا الضمير الذى هو مفخرة الأديان حدث له تحول خطير، إذ تحول من مجال العلاقات الإنسانية إلى مجال الشعائر العبادية. وتصور المسلم النمطى أن ضميره لا يمكن أن يستريح إلا إذا صلى الصلوات الخمس فى ميعادها.. وإذا صام رمضان، وإذا اجتنب المحرمات كأكل الخنزير وشرب الخمر. فإذا فعل هذا فقد أدى ما يمليه عليه الضمير المسلم، ولا حرج عليه بعد هذا إن كذب أو نافق أو أتصف بخلق دنئ أو انتهز الفرص لتحقيق مكاسب فردية، أو خدع الخ... وبهذا انهارت الأسس التى تقوم عليها العلاقات كما فقد الكرامة فأصبح يتقبل الاستغلال والاستعباد، والاستخذاء، ولا يتحرك ضميره تجاه أى ظلم، لأن أداء الشعائر قد استنفد ضميره.

بهذا انهارت الركيزتان التى يمكن أن يقوم عليها مجتمع، وماذا عسى أن يفعل الإصلاح السياسى؟ إن القضية قضية عقول ونفوس وهذا مما لا يزع فيها وازع السلطان ولا تستطيع الدولة فيها إلا أقل من القليل. كما أن الثراء المادى يزيد فى أثرته وأنانيته ويدفعه للمزيد بعد أن فقد الضمير الاجتماعى وأحل محله الضمير العبادى. إن الإصلاح الدينى أيها السادة والمفكرون أعظم مما تظنون، إنه ليس إصلاح الشعائر، أو تجديد أصول الفقه الخ... إنه إصلاح النفس البشرية التى ُشل عقلها وشُوه ضميرها، ولابد قبل أى إصلاح أن نعنى بهذا.

الإصلاح المنشود، الذى يريحنا إلى الأبد، من هاجس الإصلاح، ومن الإصلاح الجزئى، ومن التعديل، ثم تعديل التعديل.. هو إنهاء السلفية التى ظلت مهيمنة على الفكر الإسلامى طوال ألف عام، وإنما ظلت هذه المدة الطويلة لأن الظروف السيئة التى أحاطت بالمجتمع الإسلامى أتاحت لها ذلك. وهى اليوم تتشبث بذيول الماضى، وتطمع فى مدة أخرى وهيهات فقد تغير الزمان وتهيأ العصر لحركة الإصلاح الشامل الذى ينهى عهد السلفية، ويقذف بعيداً بكل الغشاوات والتراكمات التى أهالتها على الإسلام ويعود إلى المنبع الأصيل الذى لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.. القرآن الكريم

ويصطحب بهذه العودة، وربما يسبقها فهم لطبيعة الدين – لأن الإسلام رغم تميزه دين، ولابد أن يكون له طبيعة الأديان. إن من العجيب حقاً أن الجماهير من كل الأجناس تلقت أديانها كأمر مقرر قضى عليهم بالتزامه. أو هو جزء من الميراث الذى يرثه الابن عن أبيه وأمه وشأنه فى هذا شأن خصائصه الجسدية من طول أو قصر بياض أو سواد أو نتيجة لوضعه الذى جعله يولد فى بلد ما فيحمل جنسيتها ويدين بدينها لا فضل له فى هذا، فما من أحد سأله عن رغبته أو قبوله لهذا، وهو أيضاً لم يشغل نفسه بهذه القضية، فأصبحت أمراً واقعاً.

ولم يحاول أحد أن يسأل نفسه لماذا يحمل اسم على. بينما يحمل آخر اسم جورج، ولماذا يدين هو بالإسلام ويدين الآخر بالمسيحية، وما هو الإسلام وما هى المسيحية.. هذه أفكار لا تخطر للآحاد فى كل شعوب العالم، وقد تركت فى الشرق والغرب للمؤسسة الدينية المختصة. أى الكنيسة فى المسيحية والسناجوج فى اليهودية والفقهاء فى الإسلام وساد الاعتقاد بان الآحاد لا يمكن لهم معالجة الشأن الدينى، وأن هذا تتولاه المؤسسة الدينية، ولكن المؤسسة الدينية لا تقدم طائلاً، فهى لا تريد توعيه ولكن حفاظاً، ولا تسعى لتفهيم ولكن للاستحواز وشعارها الدائم، "ليس فى الإمكان أبدع مما كان". وبقدر ما كان هذا عاملاً من عوامل ثبات الأديان بقدر ما كان عاملاً من عوامل جمودها.

إن هذه الجوانب هامة لفهم أعماق الدين، وما يطرأ عليه من عوامل. وكيف يتعامل معه

بعد هذا الفهم الجديد للدين، نعود إلى الإسلام لنفهمه بعد أن تسلحنا بهذه الثقافة لنفهم مواقف الإسلام بوجه خاص سواء ما أشترك فيها مع الأديان، أو ما اختلف عنها بحكم طبيعته المميزة وهذا ما سيضىء لنا الطريق التى يستهدفها.. عندما نعود إلى منبع الإسلام أى القرءآن إذ سيوصلنا إلى ما فيه من الوسائل والغايات والأهداف والمقاصد وسيعلمنا طريقة القرءآن فى التعامل مع المشكلات والقضايا سواء كانت اجتماعية أو سياسية أو اقتصادية وبهذا نبدأ العهد الجديد – عهد ما بعد السلفية.

وعلينا الآن وقد رثت هذه القواعد وعجزت عن التجاوب مع متطلبات العصر أن نشمر عن ساعد الهمة، وأن نبدأ جولة جديدة نقدم فيها "ما بعد السلفية"

إننا نقف على مفصل من مفاصل التاريخ، نودع عهداً انقضى ونستهل عهداً لم يبدأ...

وإذا أردنا تفصيل هذا الإجمال فيمكن أن نقول تبريراً لإنهاء السلفية. أن عوامل عديدة تجعل هذا الإنهاء أمراً لازماً لا مفر منه.

من هذه العوامل أن الأساس المعرفى الإسلامى الذى وضع خلال القرون الثلاثة الأولى تسللت إليه روايات دست عليه للنيل من الإسلام أو لتحقيق سياسات خاصة ودقت على الأئمة بحيث أخذوا بها وكان هذا نقصاً فى صميم هذا البناء الرائع ومن هذه العوامل أيضاً أن هذا الأساس حتى لو كان سليما صحيحا، مبرءاً من الخطأ عندما قدم أول مرة، فإن مرور ألف عام لابد وأن تجعله متخلفاً لاختلاف الأوضاع ولتطور المجتمع تطوراً ما كان يتصوره العالم القديم. ولهذا الاختلاف والتطور أثره على فهم الأحكام من ناحية، وعلى تطابق وتجاوب الأحكام من ناحية أخرى.

ومن هذه العوامل أيضاً، أن أهم شىء هو أن نعمل عقولنا لأن العقول هى سلاح الإنسان فى الحياة وهى ما تميزه عن الحيوان وما تهديه للتفريق ما بين الخطأ والصواب وقد أوقفت أمة الإسلام إعمال عقولها طوال ألف عام حتى كاد العقل المسلم أن يشل وعلته طبقات بعد طبقات من الصدأ والغشاوات ولابد من إزالتها. ومن إيقاظ العقل النائم المخدر بأحلام الماضى – إلى ضرورة معايشته للواقع ومجابهته للحاضر – وستكون هذه هى الخطوة الأولى لأن تستخدم عقولنا فى كافة المجالات حى تكون النهضة شاملة.

إن من أعظم المآخذ على السلفية أنها غيبت العقل السليم وأحلت محله "النقل" فأصبحت عقليه المسلمين عقلية نقليه وهو ما يقارب تعطيل العقل، وما ظلت السلفية فستظل العقلية النقليه، ولن يحدث أى تقدم لا للفكر الإسلامى ولا للمجتمع الإسلامى. كما أن التطور الجسيم الذى انتهت إليه الأوضاع، وما أوجدته هذه الأوضاع من مشاكل جديدة وقضايا جديدة، وما توصلت إليه من إنهاء أوضاع قديمة.. كل هذا يجعل إنهاء السلفية أمراً لا مناص عنه، وأن بداية عهد جديد هو أيضاً أمر لا مفر منه.

إن بداية "ما بعد السلفية" هى العودة إلى المنبع أى القرءآن الكريم...

وتختلف نظرة التجديد المنشود إلى القرءآن الكريم اختلافاً تاماً عن نظرة التفاسير التقليدية.

بل إننا نرى أن هذه التفاسير أساءت إلى القرءآن أكبر إساءة وفرضت عليه أفهام وتصورات المفسرين ونقلت إليه عالم عصرها ومفاهيمه وما كان شائعاً من أساطير وأقوال وخرافات الخ... ولهذا فلن يكون هناك إصلاح، ولا خلاص من السلفية، إلا بالخلاص من التفاسير والتفسير الوحيد المقبول هو القرءآن نفسه فإنه يفصِّل فى مكان ما بجمله فى مكان، ويصرح فى مكان بما بضميره فى مكان آخر وتوضح استخداماته للكلمة المتعددة للكلمة معانيها . يقول الله سبحانه وتعالى: "  وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا" الفرقان 33

من هنا فإن دعوة التجديد تستبعد الأخذ بالتفاسير بدءً من ابن عباس وهى ترى أن القرءآن الكريم هو أولاً إرادة تغيير كاسحة لم تعرف البشرية لها مثيلاً بحيث لا يكون من المبالغة القول إن الثورة التى أحدثها القرءآن كانت أعظم ثورة جماهيرية فى التاريخ لا يستثنى من ذلك ثورة اليهودية وإنقاذها بنى إسرائيل من الاستعباد الفرعونى وثورة المسيحية وتحريرها للمستضعفين من الطغيان الرومانى، إذ أجتمع لثورة الإسلام من عناصر الكمال ما لم يكتمل لهذين.

فرعون البارحة جمع حوله السحرة ليرهبوا أعين الناس بسحرهم فيظلوا مسحورين لا يقدرون على شيئ. والسحرة فى عصرنا هذا أرهبوا أعين الناس بنشر مبادئ السلفية ومن لا يتبعها يكون ضالا وخارج عن الملة، فكانت أسلحتهم إنتشار الفتاوى النكدية التى أرهبت عقول الأمة وحصرتها فى صومعة من الصعب الخروج منها وجعلوا لكل شيئ فى هذه الدنيا فتوى ومن خالف هذه الفتاوى فهو فى نظرهم كافر. وما هو  المعنى القرءآنى  للمصطلح الأرضى " السلف الصالح " أليس هو ما ألفينا عليه آباءنا..." وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا ۗأَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ " البقرة 170  

فرعون البارحة وصَفه ربه بالمستبد....

مشكلة "الاستبداد" قد تكون أخطر قضية واجهها العالم الإسلامي، ولا يزال يواجهها اليوم، لأنها ترهن مصيره كما رهنت ماضيه، وسترهن مستقبله، ما لم يجد لها حلا جذريا يجعله يتخلص من "الآصار والأغلال" التي فرضت عليه، باسم الدين والشريعة والسنة ومنهج السلف، أو حتى باسم المصلحة العامة وسد الذريعة.

وعندما ينتفض الإنسان من القيد ويسعى لمقاومة الاستبداد، فإنه لا ريب سيواجه، أول ما يواجه، مجموع الأعراف والتقاليد التي تحكم المجتمع الذي يعيش فيه، وهذه الأعراف والتقاليد يحرسها سدنة ويحوطونها حتى لا يتطاول عليها أحد، لا لشيء إلا لأن اتخاذها غرضا سيقوّض مصالح  السدنة  أنفسهم  وينزع  عنهم  ميزات  لطالما تمتعوا  بها  في  غفلة عن العامة، سواء كانت هذه الميزات مادية أو معنوية، والجاه والمنزلة والمكانةهي من أعظم هذه المصالح.

وعندما يرفع مُصلحٌ صوته بالإصلاح، فإن أول من سيرفض دعوته ويُحاربها هم أولئك الذين يستشعرون التهديد ويرفضون التغيير لأن كل تجديد في نظام الحياة أو نظام الفهم والفكر يستدعي تغييرا في مكانتهم الاجتماعية القائمة أساسا على نظام فكري معيّن يزول إذا زال. وتاريخ البشرية كلِّها يكشف لنا كيف قامت الثورات الكبرى، ثورات الفكر والعقيدة أساسا، ثم ثورات الجماهير التي قلبت أنظمة الحكم وحاربت الاستبداد وكفرت به، تحت أي مسمى تم تسويقه، ما دام أنه يتصادم مع الفطرة البشرية ونزعة الإنسان إلى الحرية والتحرروالهروب من إسار الظلم والطغيان. 

أما التحرر من الاستعباد: استعباد الحاكم خصوصا، فإنه لا يرتبط في مفهوم السلفيين إلا بالخروج وإراقة الدماء وإزهاق الأرواح وإهلاك الحرث والنسل، ولهذا فكل محاولة لإصلاح الأوضاع مرفوضة، رغم أن وسائل التغيير تغيرت في هذا الزمن وتطورت وصار يُتاح منها ما لم يكن متاحا من قبلُ. ومن أراد العجب فليعجب من تحريم فكرة الخروج على الحاكم وبطلانها مع أنه لم تقم دولة في تاريخ الإسلام بعد عصر الخلفاء الراشدين إلا بالخروج على الدولة التي كانت قبلها، ومع ذلك لم تعدم الأمة فقهاء رفعوا شعار: "من اشتدت وطأته وجبت طاعته"، وإن كان لهذه المقولة وظروفها وضع خاص لا عذرَ لنا في الائتساء به اليوم. والحديث عن الفقه السياسي السني يستدعي وقفة أخرى ليس هذا محلها، لكن علينا أن نلاحظ أن الأحداث ـ لدى الفقهاء ـ تنال شرعيتها من نتيجتها وإن كانت في مبدئها خاطئة في تصورهم، فمن تغلّب من حاملي السلاح سُمّي " أمير  المؤمنين "، ومن أخفق سُمّي " الباغي اللعين."

مشكلة بعض السلفيين اليوم، أو لنقْل جلّهم، أنهم يعتبرون كل محاولة للتجديد في فهم النصوص الشرعية مراعاة لتطور الزمان وتغير البيئة والمكان، وتماشيا مع المعرفة العلمية والإنسانية الحديثة، هو زندقة أو بدعة هدفها تقويض الإسلام وهدمه من الداخل، وإذا كان فرق ما بين أهل السنة والبدعة قديما هو النظر في الكلام (حسب مقولات بعض الأئمة)، فإن فرق ما بينهم اليوم هو الدعوة إلى فهم النصوص الشرعية بمراعاة الظرف الزماني، وبما تفتقت عنه معارف الإنسان في هذا العصر، وبما يقتضيه اللفظ اللغوي الذي يتسع في استعماله ودلالاته لأكثر مما تم فهمه من ذي قبل، بل لنقل، باعتزاز وفخر كبيرين، إن شريعة الإسلام لا تستمد صلاحيتها في كل زمن إلا بهذا التجديد الذي يجعل كل إنسان (مسلم وغير مسلم) يقرأ القرءآن بلغة عصره، لا بتعسف تأويله أو حمله على غير مقاصده، وإنما بالتعمق في فهمه أكثر وباستنطاق النص ليتكشف  في كل زمن على ما لم يتكشف عنه  للسابقين.

لا  ريب أن التاريخ  يعيد نفسه فما أشبه البارحة باليوم، فالسحرة هم السحرة، فى القديم أرهبوا عيون الناس بسحرهم، اليوم أرهبوا عقول الناس بفكرهم الوهابى السلفى، فى القديم كان عقاب من يخالف أوامر فرعون، يكون مصيره الصلب على فروع الشجر أما اليوم فالعقاب إما بالعصى والسلاح أو السجن أو الإختفاء من على وجه الكرة الأرضية ولا تسمع له حسا.

تدبروا معى بعض من آيات الذكر الحكيم: "  فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةًۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ " يونس 92

لك يوم يا فرعون وستكون لمن خلفك آية....

 ويقول سبحانه: " قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ ۖ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ ۖوَانْظُرْ إِلَىٰ إِلَٰهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا ۖ لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا " طه 97

لك موعدا يا سامرى لن تخلفه....

صدق الله العظيم...

اجمالي القراءات 17783