اليقين بين العقل والموروث

على السعيدى في السبت ٢٢ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

اليقين بين العقل والموروث

 

إن تشكك الفرد فيما توارثه ضمن مجتمع عقيدته من ثوابت وأفكار ومقاييس ووضعها موضع التدبر والبحث مقارنة مع ما لدى مجتمعات العقائد المخالفة , ليس من الآمور السهلة بل هو حال عظيم الصعوبة على الإنسان.

فالإنسان بصفة عامة لا يقبل فكرة إمكانية التنازل عما يؤمن به من الحقائق التي عقلها بالإدراك والمشاهدة (فكيف يكذّب الإنسان ما رأته عيناه وأدركته حواسه). وكذلك بالنسبة لما يؤمن به من الحقائق التي عقلها استدte;تدلاً بالبحث والدليل القطعي.

كما أن من الغرائز المتأصلة في الإنسان إدراكه لا شعورياً بعجز حواسه عن أن تحيط علماً بكل شيء وكذا عدم امتلاكه القدرة التي تمكنه من أن يشهد كل الأحداث في الحاضر والماضي والمستقبل , لذا تجده يتقبل المفاهيم الفكرية والمعتقدات الموروثة بالغيب دون أن يعمل العقل فيه ويعتمدها كحقائق , لمجرد كونه قد أخذها بالنقل عن طرف يأمنه ويطمئن إليه.  لذا فمن الصعب عليه بل يستحيل أن يتنازل عنها بسهلة قبل أن يتنازل ولو مؤقتاً عن حالة أمنه وطمأنينته للأطراف التي يأخذ عنها أو إخضاع هذه الأطراف ذاتها للدراسة والبحث. وهذه الحالة هي أخطر نقاط ضعف الإنسان التي يستغلها الشيطان لغوايته.

 

السؤال هنا: ما الذي يجعل الإنسان مستسلماً للتصديق بالغيب دون أن يُعْمِل عقله فيه ؟

 

قبل الخوض في محاولة الإجابة على هذا الاستفهام , أود أن أعرض ملخص أحداث تجربة صادفتها , وكان لها أثر بالغ في تمكيني من تحديد طريقة تفكير الإنسان حول المعقول والا معقول فيما توارثه من عقائد وأفكار.

كنت في زيارة لأحد الأشخاص في منزله صادف حينها أنه كان مهتم بمتابعة حواراً في أحد القنوات الفضائية , حيث دعاني للمتبعة معه , وتجاوبت معه من باب مقولة (الضيف في حكم المضيف) رغم أني لست ممن يهتم بمشاهدة التلفاز عامة وبشكل خاص هذا النوع من القنوات , والتي دفعتني لأتعامل معها في بيتي بنفس تعاملي مع القنوات المخلة بالأدب والأخلاق لخوفي على من لم يبلغ سن التمييز من أولادي.

اعتقدت حينها أني أهدر وقتي في متابعة حواراً قد مللته لقناعتي أن لا فائدة منه , وكان هذا الحوار بين رجلين لم أهتم بمعرفة من هما , إلا أن أحدهما كان يمثل رجال دين الشيعة مظهراً وعقيدة , والآخر يمثل رجال دين أهل السنة والجماعة عقيدةً وبمظهر أهل الخليج , وما يهمنا هنا من موضوع حوارهما أو بالأصح جدالهما "الذي توسع أثناء الحلقة إلى عدد من القضايا" إلا الجزئية المتعلقة بـ (المهدي المنتظر). وجميعنا يعلم دعاوى وأدلة كلاً من الشيعة وأهل السنه في عقيدتهما حول هذه الشخصية ولا داعي لذكر تفاصيلها.  

وما قصدته من ذكرها هنا إلا لاطلاعكم على حالة عايشتها , والخواطر التي دارت في ذهني أثناء متابعة هذا الحوار نتيجة مراقبتي لتصرفات وانفعالات كلاً من المتحاورين على الشاشة وكذا الشخص الذي أنا في زيارته كمشاهد , والتي أعتبرها سباباً لفائدة تحققت لي نتيجة إرغامي على مشاهدة محاضرة دراسية تطبيقية كرهت حضورها , يائساً من تحصيل أي فائدة منها.

 وخلاصة حالة ذلك الموقف ما يلي:-

  1. رغم أن طرفي الحوار كانا يتصارعان حول موضوع ديني ذا أهمية في عقيدة كلاً منهما , إلا أن كلاهما لم يذكر القرآن الكريم كمرجع يحتكم إليه , (وهذا طبيعي لأن كتاب الله مطهراً من تلك التخاريف) لذا فإن كلاً منهما يؤيد عقيدته في المهدي المنتظر بسرد روايات متناقضة يأخذها من المصادر التي تعتمدها فرقته دون أن يدرك أو يعقل أنه يتناقض مع نفسه في ذات الموقف أو أنه بما يفعل يثبت تناقض أخبار وروايات مصادره التي يتدين بها ويتعصب لها.
  2. لاحظت أن كل طرف متوقد الذهن لمّاح لما يقع فيه خصمه من هفوة أو تناقض فيما يستدل به مركزاً على هذه الجزئية ويسترسل فيها متناسياً صلب الموضوع , وكلاً منهما كان يسخر من الآخر من عدم مقدرته على فهم أبسط الأمور , وفي نفس الوقت هولا يدرك أنه في هذا الجانب يمثل صورة طبق الأصل من خصمه وكأنه أمام مرآة , ومع ذلك ترى كلاً منهما وكأنه أصم لا يسمع ما يقوله خصمه الذي هو في الواقع يبصره تفصيلاً بما هو عليه من خطاء.
  3. وجدت كل طرف يطعن في سلامة ومصداقية مصادر خصمه ويجرح في عدالة رجالها وفي نفس الوقت لا يتورع من أن يستدل برواياتها التي توافق طرحه متناسياً قناعته السابقة فيها وفي رجالها , وقد تميز الشيعي بكثرة استخدامه لروايات من مصادر أهل السنة لدعم طرحه.
  4. في آخر القاء ارتفعت أصوات ضيفي الحلقة جدلاً وكان الطرف السني يسخر من عقيدة الشيعة في أأمتهم التي تجاوزت حدود العقل وخاصة في المهدي منها ما يتعلق بدعواهم أنه موجوداً في سرداب غيبته حياً يرزق طوال هذه القرون المزعومة حتى الآن واصفاً لهذه العقيدة بالخرافة التي لا يصدقها طفل الخمس السنوات , متسائلاً: كيف يأكل ويشرب : ومن الذي يخدمه. وطالبه ضاحكاً بقوله: أتحداكم أن تحددوا لنا مكان وموقع هذا السرداب إن كنتم صادقين.

وأمام هذا الانفعال والأصوات كان موقف الشيعي ضعيفاً جداً وزاد في ذلك ارتكازه على أدلة وبراهين هشة.

5- الشخص الذي أنا في زيارته ليس من بسطاء عامة الناس الذين لم ينالوا حظاً كافياً من التعليم , وإنما من أصحاب الشهادات العليا ويشغل منصباً ومكانة مرموقة في مجال عمله , ومع ذلك فقد لاحظته أثناء فترة الحوار وقد توقفت وظيفة عقله , التي أصبحت لا تميز من الخرافات والتناقضات إلا التي ينطق بها الرجل الشيعي فقط , لذا كان يعلق عليها من وقت لآخر بذكر أجزاء من آيات القرآن المتحدثة عن عمى وظلال الكافرين. أما بالنسبة لما يصدر عن الرجل السني فهو مؤيد له ولا يرى فيه أي غرابه أو مناقضة للعقل بل وزاد على ذلك أنه تأثر بحالة الانفعال التي أحدثها طرفي الحوار لدرجة قيامة من موضع جلوسه ليقف على ركبتيه على أرضية ويصرخ الله الكبر الله الكبر وكأنه يشجع مباراة كرة قدم.

 

رغم علمي المسبق بخلافات السنة والشيعة وصراعاتهما وكذا مشاهدتي لحوارات بينهما أشد سخونةً وأكثر تفاصيلاً , إلا أن هذا الموقف ومراقبتي لحالة من أنا في زيارته كان مختلفاً , هذا الشخص أنا على ثقة تامة من رجاحة عقله وارتفاع مستوى تفكيره , وكذا ثقتي في التزامه بالحق والصلاح في تعاملاته التي يغلب عليها التسامح , إلا إني خرجت من هذه التجربة بالذهول والشرود الذهني التي أصابتني لبضعةً أيام , متسائلاً ما دام أن حالة العناد والتعصب للمعتقد مغالبة بدافع الهوى والمصلحة التي نظنها غالباً أنها الدافع الرئيسي لتغييب العقل ليست هي المؤثر عامة.

إذا فما هو المؤثر الذي يجعل الإنسان يتمسك بعقيدة تتناقض مع العقل وخارقة للمألوف دون أن يدرك ذلك؟

 

الاستنتاج

هو أن العقائد في ذاتها لا تبحث ولا تناقش بالعقل

 

نرى والله أعلم أن في هذا الاستنتاج إجابة على التساؤل السبق:

ما الذي يجعل الإنسان مستسلماً للتصديق بالغيب دون أن يُعْمِل عقله فيه ؟

 

لبيان ذلك نورد على سبيل المثال: ثلاث معتقدات متشابهة وجميعها (خارقة متجاوزة لعقل الإنسان والمألوف لديه) وكلها قصص وروايات منقولة تم تصديقها بالغيب.

 

المعتقد الأول: (نقلاً بالمعنى عن ما رواه إله السنة والشيعة بالغيب)

عبارة عن رواية بالغيب عن مجموعة من الشباب الصالح لجأوا مع كلبهم إلى كهف لا يعلم أحد موقعة تحديداً , وكان ذلك فراراً من ملك جائر حيث مكثوا داخل الكهف في حالة نوم متواصلة لمدة ثلاثمائة وعشر سنوات دون أكل أو شرب, وبعد هذه الفترة قاموا من نومهم بحالة صحيه جيده يتحاورون فيما بيهم.

هل يعقل هذا ؟ ومتى يعقل ؟

 

 

المعتقد الثاني: (نقلاً بالمعنى عن ما رواه بالغيب الإله الخاص بالشيعة )

عبارة عن رواية بالغيب عن طفل غاب داخل سرداب لا أحد يعلم موقعه بالتحديد , منذ أكثر من الف سنة وسيبقى هذا الطفل حياً حتى آخر الزمان , ولا أحد يعلم ماذا يأكل أو يشرب هذا الطفل ومن أين, وقد أخبرنا الراوي أن هذا الطفل سيخرج من السرداب في آخر الزمان رجلاً بالغاً.

هل يعقل هذا ؟ ومتى يعقل ؟

 

 

المعتقد الثالث(نقلاً بالمعنى عن ما رواه بالغيب الإله الخاص بالسنة)

عبارة عن رواية بالغيب عن رجل أعور يقال له الدجال مسجون ومقيد بالأغلال داخل جزيرة لا أحد يعلم أين موقعها تحديداً , وهو داخل هذه الجزيرة مع حيوان خرافي لا يعلم أحداً ما هو ويقال له " الجساسة " وسيبقى على قيد الحياة من قبل آدم أو نوح عليهما السلام حتى آخر الزمان, لأن آدم ومن بعده من الأنبياء إلا وكل واحد منهم قد حذر أمته من خطورة وفتنة هذا الدجال , ولا يعلم أحداً ماذا يأكل ويشرب هذا الدجال ومن أين.

هل يعقل هذا ؟ ومتى يعقل ؟

 

وبالتالي فإن القول الساخر للرجل السني الموجه للشيعي أثناء الحوار , ينطبق تماماً على الثلاثة الأمثلة في حالة ما إذا ركزنا على أحداث الروايات وتفاصيلها فجميعها لا تعقل , ولا يمكن تقبلها إلا إذا كانت ناتجة عن إله وصادر خبرها عنه.

(( ...وكان الطرف السني يسخر من عقيدة الشيعة في أأمتهم التي تجاوزت حدود العقل وخاصة في المهدي, منها ما يتعلق بدعواهم أنه موجوداً في {سرداب أو الجزيرة أو الكهف } حياً يرزق طوال هذه القرون المزعومة حتى آخر الزمان واصفاً لهذه العقيدة بالخرافة التي لا يصدقها طفل الخمس السنوات , متسائلاً: كيف يأكل ويشرب : ومن الذي يخدمه وطالبه ضاحكاً بقوله: أتحداكم أن تحددوا لنا مكان وموقع هذا {السرداب أو الجزيرة أو الكهف } إن كنتم صادقين. ))

إذاً فمن قلة العقل مخاطبة الناس في عقائدهم بالعقل والمعقول, لماذا؟ لأنهم لم يعرفوا مضمون هذه الروايات استدلالاً بالعقل وإنما صدقوها نقلاً بالغيب عن آلهة يؤمنون بها لذلك هي غالباً خارقة وخارجة عن المألوف ويستحيل على الإنسان التحقق منها بالعقل وبالتالي هي خارج إدراكه , لذا يستحيل عليه أن يخبر بها من تلقاء نفسه أو أن يكون مصدراً بذاته يحتج به على صدق ويقين هذه الروايات مهما كانت درجت فضل الراوي حتى وإن كان من الأنبياء , ما لم يكن الراوي إلهاً.

لأن الإله وحده هو من يجب علينا أن نعتقد يقيناً صدق روايته بالغيب حتى وإن قصر العقل عن إدراكها لأن الإله محيط علماً بما خلق , شامل الإدراك , صادق وعدل , وهو كامل منزه من التقصير لا يعتريه اللبس أو النسيان. وبما أنه حي لا يموت فسيروي لنا عن شهادة حاضرة لا غائباً ينقل عن غيره.

وحتى نصدق بالغيب يقيناً , فإننا نشترط أن تكون روايات هذا الإله موجوده في كتابه المنزل من عنده , ويكون قد أيده بالآيات (المعجزات والعلامات والبراهين) القابلة لأن تدركها عقولنا حتى نتأكد يقيناً أنه إله وأن هذا الكتاب منه, وكذا أن يضع لنا ما يتناسب مع عقولنا من العلامات والبراهين  التي من خلالها نتأكد يقيناً أنه قد تكفل بحفظ كتابه من أي ضياع أو زيادة أو تحريف حتى قيام الساعة. ما لم فلن تكن له حجة علينا يوم القيامة إذا لم نصدق رواياته.

 هذه هي الاحتياطات والآلية السليمة التي من خلالها يجب علينا تصديق الرواية بالغيب يقيناً , وليس هذا فحسب بل تقبل كل ما جاء وفقاً لهذه الشروط من تشريعات أو أمراً أو نهياً دون إعمال العقل فيها.

إذاً لن نصل إلى نتيجة من بحث ومناقشة العقائد ذاتها بالعقل وإنما يقتصر دور العقل في مخاطبة أصحاب هذه العقائد فيما يتوفر لديهم من الأدلة والبراهين المتعلقة بإثبات وجود الإله الذي يدعونه ويأخذون عنه , وكذا إثبات صحة وسلامة المصدر الذي يعتمدونه للأخذ به عن هذا الإله , وإخضاعها للعقل بالدراسة والبحث.

وبالتالي علينا جميعاً إثبات الوهية من نعتقد صحة رواياتهم من البشر من دون الله.

 

 

أهمية العقل لضبط السلوك كشرط لتحقق الهداية إلى الحق

الإنسان بغض النظر عن كيانه المادي الملموس (الجسم) المتداخل بكيانه الغير ملموس (النفس), قد فطره الله بعدد من الدوافع والنوازع المتمثلة في كونه بالخلقة (عجول – هلوع – يؤوس – قنوط - ظلوم - كفور - جهول - ضعيف – خصيم – قتور – مكابد - يحب الخير لنفسه – أكثر جدالاً - ... إلخ ) كعناصر أساسية في مكونات خلقه , نراها من ظاهرها عيوباً ونقائص , لكنها ضرورات للإنسان تمكنه من التفاعل مع محيطه والتعايش معه , وفي معظم هذه الصفات هو يتساوى مع الأنعام , لكن الله قد ميزه عن الأنعام بأن جعل له عقلاً يستخدمه للتعامل مع هذه الدوافع والنوازع ليمكنه من السيطرة عليها , ثم يقرر متى يسمح لنفسه بالخوض في أي منها وما الحدود التي يجب أن تقف عندها.

أي أنه بالعقل أصبح (سميعاً بصيراً) قادراً على التحكم بغرائزه مميزاً متى يكبحها ومتى يطلقها , ليهلع من كل ما يضره ويفر إلى الله الذي خالقه لعلمه أن لا ملجا له سواه , يكفر بالباطل ويكون خصيماً للظالمين والمعتدين , يؤوساً من المستحيل وكل ما لا جدوى منه , وهكذا يتفاعل العقل مع باقي الدوافع والنوازع , كما أن العقل ينمي فطرة النوازع التي نراها سلبية في نفس الإنسان كـ (البخل والأنانية) ولا يكبحها وفي نفس الوقت يستثمرها لإشباع رغبة حب الاستئثار بالخير للنفس , وكل ما يفعله العقل لتحقيق ذلك هو رفع مستوى نظر الإنسان من الوقوع على الهدف والمصلحة الدنيوية البسيطة الزائلة والتي في حقيقتها هي عذاب وندامة دائمة في الآخرة, إلى مستوى نظر أعلى به يبصر الإنسان هدفه ومصلحته العظيمة الدائمة في الآخرة, وبالتالي فإن قمة الأنانية وحب النفس ستتحقق له عند قيامه بالإنفاق وعمل الصالحات والإحسان وأن يؤثر غيره على نفسه ولو كانت به خصاصة.

إذاً فإن استخدام العقل في إدارة وتنظيم دوافع ونوازع النفس لهو التقويم الحسن والسليم في خلق الإنسان وهو الأصل الأول الذي خلقه الله عليه {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) } التين قبل أن يرده إلى أسفل سافلين, {ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) التين} والارتداد إلى الأسفل هي الصفة والحال الجاري على (الإنسان) بصفة عامة على كل فرد يندرج تحت مسمى الإنسان , بما فيهم الذين آمنوا منهم عامة , حيث كان الاستثناء فقط للذين يعملون الصالحات منهم في أن لهم أجر غير ممنون {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) التين} لأن الإنسان في حياته الدنيا لم ولن يتمكن من تفعيل عقله للسيطرة على دوافع ونوازع نفسه بصورة كمال حسن التقويم التي كان عليها قبل أن يرده الله إلى أسفل سافلين , لدرجة أن الصفوة منهم وهم (الذين آمنوا) رغم مصارعتهم ومجاهدتهم لأنفسهم لتغليب العقل على الرغبات إلا أنه لابد وأن تختانهم أنفسهم وتغلب على عقولهم ولوا بالنذر اليسير, وهذا عام بما فيهم الأنبياء والصالحين , فإنهم جميعاً مع ذلك من الخاسرين إن لم يعملوا الصالحات كشرط لحصولهم على (الأجر والمغفرة) حتى تتحقق لهم الهداية اللازمة للفوز بالجنة.

{ وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3) العصر}

وَعَدَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ [المائدة : 9]

وعليه فإن الإنسان تَغلُب عليه صفة الأنعام , حيث أن الكائن من الأنعام جُبِل منذ صغره على أن يستسلم للمفاهيم والسلوكيات التي يتعلمها ويكتسبها بالمشاهدة والتقليد من أبواه ضمن القطيع الذي نشاء وترعرع فيه كفرد من أفراده , ومع ذلك تجد أفراد القطيع الواحد يتقاتلون فيما بينهم لتصارع أسباب العيش , ولا تجمعهم إلا فطرة المحافظة على تماسك وحدة القطيع من التفرق والتشتت انقياداً بالفطرة لرغبة وغريزة الاحتماء بالانتماء لضمان الاستمرار في العيش والمحافظة على الجنس (وهذا بالضبط ما يحصل دفاعاً عن "الهوية أو المذهب" عند الإنسان).

لذا تجد الجموع الغفيرة من الناس في إطار كل مجتمع (تيار أو مذهب أو جماعة عرقية) خاضعة لمن صنعته الظروف من أفراد مجتمعها ليبدو في نظر الجموع وقد تميز وتفوق عليهم بالسلطان إما (خضوعاً لقوة قمع لا يطيقونها _أو_ تقديساً بفضل ما ظنوه علماً قصروا عنه) مستسلمين له ليقودهم أو يوجههم لاقتراف جرائم جماعية تحت غطاء شعارات (دينية أو وطنية) براقة مناقضة للعقل وموازين الطبيعة مبنية استناداً لأكاذيب ومغالطات بشرية مستوحاة من الشيطان ما أنزل الله بها من سلطان , ويفترون أنها لا تحيد عن الحق المنزل من عند الله , بينما لو أعملوا عقولهم فيها وفيما يفعلونه أو قاموا بعرضه على ما بين أيديهم من آيات الخالق الديان لتبينوا ظلمات عقيدتهم وبشاعة ما يقترفون , ولكنهم اجتمعوا على أن لا يرون مصالحهم وغاياتهم إلا في حدود حياتهم الدنيا , تماماً كما تفعل أفراد جماعة القرود إتباعاً للقرد المتسلط عليها.

ولا يغرك ما توصل إليه الإنسان من قوة وعلوم أثار بها الأرض وعمرها ظناً بأنه يعمل عقله , كلا إن ما نراه هو مجرد ما أحاط به فكره من علوم لم تتجاوز حدود ظاهر حياته الدنيا , بينما أداة التعقل هي القلب, وقلوبهم قسية مختوم عليها لا يعقلون بها , عمياء لا يبصرون بها , لذا تراهم كثيراً يقترفون السوء قولاً وفعلاً وقليلاً ما يؤمنون , لذا فقد عاقبهم الله بأن أعمى بصائرهم في الدنيا ليكذّبوا بالحق المنزل من عنده ويستهزئون به , ليستمروا في الافتراء على الله بإتباع ما توارثوه من الباطل , لكي يتحقق لهم العذاب في الآخرة.

{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)} الروم

 

(وهذا حال سائد على جميع الكيانات من الأديان والمذاهب الموجودة على وجه الأرض ) ليس هناك أي كيان من الأديان والمذاهب ما يمكن أن نصفه بالفرقة الناجية. وإنما الاستثناء لا يقع إلا على أفراد بعينهم , هم فرقة الذين أتقوا من (الذين آمنوا وعملوا الصالحات) الموجودين داخل كل كيان من هذه الأديان والمذاهب.

{وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74) قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75) وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)} مريم

 

ودائماً ترى الإنسان معرض عن آيات الله مستهزئ بالحق وبمن يخاطبه به ميالاً مطمئناً لما هم عليه جماعته (قطيعه) , معطلاً لوظيفة العقل التي ميزه الله بها إلا إذا كان من الذين آمنوا.

{كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَا اخْتَلَفُواْ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللّهُ يَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [البقرة : 213]

فالذين آمنوا هم وحدهم دون غيرهم القادرون على تحكيم عقولهم في كل ما يفعلون ويعتقدون فتجدهم دائماً يفكرون ويحللون كل ما يصادفهم من احداث ومواقف , هم كذلك لأن قلوبهم تستشعر وجود خلل ما أو خطاء ما في كل ما يخالط عقيدتهم من الباطل لذا تجدهم غالباً لا يقومون بفعل أي شيء لا تطمئن له قلوبهم مما يخالف ويعارض قيم العدل والإحسان حتى وإن تعارض مع رغباتهم أو خالف ما تعارف عليه الناس كمعتقد , وغالباً تجدهم قلة في مجتمعهم ودائماً يسخر الناس من فهمهم وتصرفاتهم.

{زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ اتَّقَواْ فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [البقرة : 212]

 

إذاً من هم المؤمنون؟ ومن هم الكافرون؟

وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ [آل عمران : 152]

(( الآية تخاطب جماعة فشلوا وتنازعوا وعصوا , منهم من يُرِيدُ الدُّنْيَا ومنهم من يُرِيدُ الآخِرَةَ, وقد تفضل الله عليهم بأن عفا عنهم, لأنهم جميعاً من المؤمنين, فكيف يكون المؤمن فاشل وعاصي ومريداً للدنيا دون الآخرة, إلا إذا كان للمؤمن معنى آخر غير الذي نعرفه )).

 

لَقَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَإِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ [آل عمران : 164]

((الآية تخاطب جماعة سماهم الله بالْمُؤمِنِينَ, ليخبرهم بأنه مَن عليهم إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ, أي من نفس جنسهم, من المؤمنين, إذاً فالمؤمنين موجودين من قبل الرسالة, ولم يقل الله أنهم من قبل لم يكونوا مؤمنين ولم ينفي عنهم صفة كونهم مؤمنون إلا أنهم (مع كونهم مؤمنين) كَانُواْ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ, مِن قَبْلُ أن يَتْلُو الرسول عَلَيْهِمْ آيَاتِ الله وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ, لتتحقق لهم الهداية ليكونوا من المتقين الموعودين بالنجاة والفوز بالجنة , جزاءً لأنهم كانوا مؤمنين.)).

 

وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ [المائدة : 43]

(( رغم أنهم أهل كتاب وعندهم التوراة ويعلمون أن فيها حكم الله, ومداركهم مصدقة وتعي أن الله سبحانه وتعالى واحد لا إله سواه , وهو الخالق والمتصرف بكل شيء , كما أن مداركهم مصدقة وتعي أن الكتاب الذي عندهم هو رسالة من الله جاء بها رسول منهم وهم يجللوه بل ويقدسوه, أيضاً مداركهم مصدقة وتعي أن الله ما أرسل لهم الرسول والرسالة إلا ليعلمهم أن حياتهم الدنيا زائلة , أما حياتهم الآخرة ستكون حياة خالدة لا موت فيها, إما نعيم وسعادة في الجنة أو عذاب وشقاء في النار, ولو سألتهم عن أي جزئية مما سبق ذكرها, لأجابوك بما يوافق الحق. إذاً فإنهم مدركون ومصدقون بالله وبالكتاب وبالرسول الذي أرسل به وباليوم الآخر وما سيكون الحال فيه, إلا أنهم تولوا تعاليم وشرائع توارثوها عن أحبارهم ولم يرضوا بحكم الله الموجود في التوراة , لأنه لا يوافق أهوائهم, لماذا..؟ الإجابة جاءت من الله سبحانه وتعالى لتؤكد أن مَا أُوْلَـئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ, إذاً فإن الإيمان والمؤمنين لا تعني الصدق والمصدقين, لأن أولئك هم من أهل الكتاب ومصدقين, ولكن الحقيقة أنهم (غير آمنين لله ولكتابه) لذا اعتمدوا على ذواتهم وانقادوا لدوافع ونوازع النفس وعطلوا وظيفة العقل , مما جعلهم يتولوا شرع طواغيتهم الذي اعتادوا عليه ويَأمَنوا له ليضمن لهم بقائهم وعيشهم في الحياة الدنيا. أي أنهم في الواقع لم يَأمَنوا لله ولم يَأمَنوا للكتاب والرسول ولم يَأمَنوا لليوم الآخر, ولم يَأمَنوا للناس, ونتيجة أنهم لم يَأمَنوا لشي غير ذواتهم وأنفسهم , فقد أطلقوا العنان للنفس وأهوائها أن تقودهم وتوجه سلوكياتهم, حتى أوصلتهم إلى الكفر والخسران)) إذا يمكن تعريف المؤمنين والكافرين بما يلي:-

 

المؤمنون: هم جماعة من الناس يتصفون غالباً في كل سلوكياتهم بالصفات الحسنة , وهم موجودين في كل الملل والأديان السماوية أو الأرضية الوثنية وغيرها, وهم الذين يتميزون بالصدق والقسط والعدل والرحمة وهم المحسنين والمتسامحين والعافين عن الناس والمتصدقين والموفين بالعهود وهم الذين لا يعتدون , وهم بهذه الصفات يَأمَنوا جانب الناس والناس يَأمَنوا جانبهم, ولذلك هم مُؤمِنُون, وهم أصحاب الفطرة السليمة والنفس اللوامة, الذين يجاهدون بعقولهم نوازع النفس الأمارة, وينزهون ردود أفعالهم وسلوكياتهم من الفجور والظلم والعدوان الناتجة عن ورواسب العقائد والثقافات الموروثة الفاسدة أو الناتجة عن أمراض النفس الخبيثة, لذلك قال الله:

{وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَئاً وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مْؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةً فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِّنَ اللّهِ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً [92]وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)النساء : }

 أي يستحيل لإنسان مسالم لا يعتدي على أحد أن يقوم بقتل آخر وهو مسالم لا يعتدي على أحد , ولا يمكن أن يحدث بينهما ذلك إلا عن طريق الخطاء.

ومن يقتل مؤمن متعمد أي من يقتل إنسان مسالم لا يعتدي على أحد مهما كان دينه أو مذهبة فجزاؤه جهنم خالداً فيها.

وقد حذر الله المؤمنون الذين اتبعوا الرسول عندما يضربون في الأرض بأن يتبينوا حتى لا يصيبوا أحد ممن سالم ولم يعتدي عليهم بحجة أنه لم يكن داخل في دينهم لأنهم كانوا مثلهم من قبل.

والمؤمنون بالفطرة لا يرتكبون الجرائم التي تخلد في النار اللهم إلا ما يقترفونه بجهالة من سلوكيات خاصة بهم نتيجة فساد القيم فيما تعارف عليه الناس من السوء والفواحش , وتوارثوه على أنه عرف مستحسن يمارسونه فيما بيهم ولم يعد منكراً يستنكرونه , لذا فقد أمرهم الله بعد الذكر (بعد نزول القرآن) أن ينتهوا عنه ولهم ما قد سلف .

{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة : 275]}

{وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاء إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَاء سَبِيلاً [النساء : 22]}

ويمكن للمؤمنين أن يقترفوا الآثام فيما يتقربون إلى الله به من أقوال وأفعال أخذوها بالتقليد وتوارثوها عن أسلافهم وهي شركاً بالله بما لم ينزل به من سلطان.

{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ [يوسف : 106]}

وبما أن الله يحب هذه الفئة من الناس, وحتى لا تحبط أعمالهم يوم القيامة ويجدونها هباءً منثورا, لأنهم لم يكملوا إيمانهم بالله وحده ورسله واليوم الأخر وهم غافلون عن ذكره, فقد بعث الأنبياء والمرسلين بالرسالات هداية لقوم يؤمنون, ليؤمنوا بالله وحده ورسله واليوم الأخر ويذكروه كثيراً ويكونوا بأعمالهم من المتقين, لذلك خاطب الله الكافرين بقوله:

{مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللّهَ يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَاءُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرُسُلِهِ وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ [آل عمران : 179]}

وذلك لأن المؤمنين هم المقصودين من بعث الرسل وتنزيل الرسالات ليخرجهم الله من الظلمات إلى النور , وهم وحدهم من سيفهمها ويصدقها وتكون بشيراً لهم بالجنة , أما غيرهم فلا يفهموها ولا يصدقوها ولا يتبعوها وستكون نذيراً لهم ليس إلا.

وليس كل المؤمنين أتبعوا الرسول بل منهم من بقي على ملته لذا قال له الله تعالى

{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الأنفال : 64]}

{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [الشعراء:215]}

 

الكافرين : أما الفئة المقابلة والمعاكسة للمؤمنين, هم الفئة المقصودة بالرسالة لتنذرهم بالعذاب وتكون حجة عليهم لا لتهديهم, وهم الفئة من الناس الذين يتصفون غالباً في كل سلوكياتهم بالصفات الخبيثة ويعملون السيئات, وهم من الكاذبين أو من المسرفين أو من الفاسقين أو من الظلمين أو من المجرمين, أو من الخائنين وهم بهذه الصفات لا يَأمَنون جانب الناس والناس لا يَأمَنون جانبهم وقد حكم الله عليهم بأنهم لن يهتدوا , لأنهم غطوا الفطرة السليمة فيهم وعطلوا عقولهم بالغرائز والأهواء الأمارة بالسوء , كما غطوا العقائد والثقافات الموافقة لشرع الله, بالعقائد والثقافات الموروثة الفاسدة الناتجة عن وحي الشيطان وهوى النفس, لذلك هم الكافرين, ويستحيل لهذه الفئات وهم الغالبية في كل الملل والأديان السماوية أو الأرضية الوثنية وغيرها أو المذاهب الإلحادية, معرفة الحق أو أن يكونوا من المحسنين, أو أن يقبلوا برسالة الله, حتى وإن كانوا من أهل الكتاب (التوراة أو الإنجيل أو القرآن) سواءً كانوا من ورثة إحدى هذه الملل أو من متبعيها إسلاماً وتسليماً للكثرة والغلبة ولم يكونوا من المؤمنين حقاً, بل هم ممن هجروا كتاب الله وتركوه وراء ظهورهم, واتبعوا ما تخطه أيديهم وما تمليه عليهم أحبارهم ورهبانهم وعلمائهم, ويشركون بالله شرائع وأقوال ما لم ينزل به من سلطان, افتراء على الله ورسله, وهم أكثر أهل الأرض ممن تركوا الحق اليقين واتبعوا الظن الباطل المتفق مع أهوائهم, فلن تقبل هذه الفئة برسالة الله وحدها ولن يفهموا ما جاء فيها.

{وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ [البقرة : 171]}

ورسالة الله بالنسبة لهذه الفئات هي نذير لهم بالعذاب وليست بشير, ولن يهتدوا بها أو بغيرها مهما بلغت البراهين والآيات والجهود المبذولة لهدايتهم, حتى لو صعدوا إلى السماء ليروا الآيات بأعينهم, أو كان الرسول مجتمعاً بالإنس والجن ونزلت معهم ملائكة السماء ليهدوهم فلن يهتدوا, لأن في آذانهم وقر وستكن رسالة الله وآياته عليهم عمى, وإن اطلعوا عليها زادتهم رجساً إلى رجسهم, وسيسعون في آيات الله معاجزين, لأن الله أظلهم وختم على قلوبهم وصدهم وصرفهم عن آياته.

{وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ [الأنعام : 116]}

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ [يونس : 57]}

{وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً لَّقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ [فصلت : 44]}

{وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَـذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124)وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة : 125]}

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [البقرة:6]}

{إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ [الأنفال : 55]}

 

إلا أن يتوبوا من الكذب أو الإسراف أو الفسق أو الظلم أو الإجرام, أو الخيانة ومن ثم يسلكوا سبيل المؤمنين ويعملوا الصالحات عندها لن يحتاجوا لأحد ليهديهم, بل بمجرد تلاوتهم لكتاب الله وحده, الفرقان والنور الهادي الذين به سيميزون الحق اليقين من الباطل المفتراء الذي يشركون به, وبالقرآن وحده تخشع وتلين قلوبهم لذكر الله.

{إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً [النساء : 146]}

(( لماذا لم يقل من المؤمنين وقال مع....؟ لأنهم في الأساس لم يكونوا من المؤمنين ونتيجة لأنهم تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ, فقد أدخلهم مع المؤمنين في الأجر والجزاء.

بينما الله ربط على قلب أم موسى لتكن من المؤمنين وليس مع المؤمنين حيث أنها لم تكن كذلك من قبل))

{وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ [القصص:10]}

 

أسأل الله أن يهدينا ويوفقنا لما فيه الخير

علي السعيدي

اجمالي القراءات 10977