العراق بين "حزب الدعوة" و"حزب البعث"

د. شاكر النابلسي في الخميس ١٣ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

 

يقول عالم الاجتماع العراقي فالح عبد الجبار في كتابه الضخم (العمامة والأفندي: سوسيولوجيا خطاب وحركات الاحتجاج الديني) (590 صفحة من الحجم الكبير)  في العراق الذي كتبة بالانجليزية، عن نشوء وارتقاء "حزب الدعوة" الديني الذي حكم العراق مدة ست سنوات خلت (2004-2010) عبر حكومتين: الأولى لإبراهيم الجعفري (2004-2005)، والثانية لنوري المالكي (2005-2010)، وسيحكم العراق خمس سنوات أخرى(2005-2010) من خلال أمين الحزب العام نوري المالكي نفسه.

فما هو أثر هذا الحزب، الذي حكم وسيحكم العراق، طيلة أحد عشر عاماً؟

-2-

من الواضح أن العراق بعد 2003 انتقل من دولة "عَلْمانية" للبعث- بكل سلبياتها وايجابياتها - إلى دولة دينية لـ "حزب الدعوة" الإسلامي الذي يعتبر الجناح الأطول للثورة الخمينية 1979 وخطابها الديني والسياسي والاجتماعي، باعتبار أن العراق قد تمَّ حكمه منذ 2004 (وزارة الجعفري) ثم 2005 – 2010 (وزارة المالكي، الأمين العام لحزب الدعوة) ثم 2010-2015 (وزارة المالكي أيضا) كما ذكرنا أعلاه.

وفي كتاب المؤرخ العراقي المعاصر رشيد الخيّون (لاهوت السياسة: الأحزاب الدينية المعاصرة في العراق) والذي كُرِّس الفصل الأكبر منه لـ "حزب الدعوة"، يقول الخيّون أن الإمام محمد باقر الصدر (1935- 1980)  - مؤسس "حزب الدعوة" - كان قد أصدر فتوى بتحريم الانتماء لحزب البعث "العَلْماني"، وقال قولته المعروفة: "ذوبوا في الإمام الخميني كما ذاب هو في الإسلام" (لاهوت السياسة، ص 139). ومن المعروف أن الإمام الصدر، هو من كتب (الأسس) لـ "حزب الدعوة" عام 1960، كما يقول عبد الجبار (العمامة والأفندي، ص 126). وهو الذي وضع تنظيمه الداخلي، على غرار التنظيم اللينيني الذي دخل العراق، والمنطقة العربية من خلال "الأممية" الشيوعية الثالثة، في العشرينات من القرن الماضي. ولكن - وكما يقول فالح عبد الجبار - فإن أولى مصادر التلقين والتثقيف لدعاة "حزب الدعوة"، استُمدت من أعمال دعاة لـ "جماعة الإخوان المسلمين"، مثل حسن البنا، وسيد قطب، ومحمد الغزالي (العمامة والأفندي، ص 131). وبهذا تكون "حماس" و"حزب الدعوة" هما أول من وصل إلى كرسي الحكم من أجنحة "الإخوان المسلمين" خارج مصر. ولكن يبقى "حزب الدعوة" أقوى كثيراً من "حماس"، ويظل العراق أهم كثيراً من غزة، وتظل شرعية حكم "حزب الدعوة" للعراق طيلة ست سنوات سابقة، وخمس سنوات لاحقة، أمتن وأشمل من شرعية حماس المحدودة!

من ناحية أخرى، فإن علاقة "حزب الدعوة" بإيران، ووجود أطول حدود مشتركة بين إيران والعراق، وزيارة أكثر من مليوني إيراني سنوياً – باستثناء فترة حكم صدام حسين -  إلى الأماكن المقدسة في جنوب العراق، ووجود قادة في "حزب الدعوة" من أصل غير عراقي.. الخ. عوامل ساعدت كلها على تقوية مركز "حزب الدعوة" السياسي، والتفاف بقية الأحزاب الشيعية حوله (التيار الصدري، وميلشيا "جيش المهدي" مثالاً) استجابة للتعليمات الإيرانية، وتأهيل أمين "حزب الدعوة" العام (المالكي) للفوز بفترة ثانية لرئاسة الحكومة، والإمساك بناصية الجيش والأمن والاستخبارات، والداخلية، والوزارات السيادية.  

-3-

كان فكر الثورة الخمينية أكثر وضوحاً ورسوخاً من فكر جماعة "الإخوان المسلمين" في أيديولوجية "حزب الدعوة". وهذا ما قرأناه في المجلد الأول من (التأسيس) الذي وضعه محمد باقر الصدر المؤسس الأول لهذا الحزب، الذي يقف جنباً إلى جنب – وربما بقامة فكرية وفقهية ودينية أطول - مع حسن البنا مؤسس "جماعة الإخوان المسلمين".

فـ "حزب الدعوة" أشد انتماءً للخمينيّة، منه إلى "الإخوان المسلمين".

فكما أن الثورة الخمينيّة تهدف إلى الانتشار في محيط واسع، وتصدير الثورة خارج إيران، فإن "حزب الدعوة" يعتبر أن "الدولة الإسلامية" التي يسعى لإقامتها، تملك حق المطالبة بالكرة الأرضية بكاملها، نيابة عن الذات الإلهية ("الأسس"، مج 1، ص132) (نقلاً عن "العمامة والأفندي"، ص 133).

وكما يتم احتكار "علماء الدين" للسلطة في إيران، بموجب نظرية "ولاية الفقيه"، فإن "حزب الدعوة" ينصُ في (الأسس) على احتكار السلطة القضائية. وهذا يعني أن الشريعة الإسلامية في العراق، هي الفيصل الوحيد، رغم وجود مكونات دينية مختلفة في العراق.

وهناك الكثير من الإيديولوجيا السياسية والاجتماعية والدينية المقارنة بين "حزب الدعوة" والثورة الخمينية، التي يذكرها عبد الجبار في كتابه، والتي تعني أن مزيداً من التطبيقات الخمينية قادمة، في المستقبل القريب في العراق الجديد. وأن سبع سنوات ماضية (2003-2010) ليست كافية لتطبيق كل الإيديولوجيا "الدعوية" (نسبة لحزب الدعوة) وأُتيحت لـ "حزب الدعوة" الآن خمس سنوات حكم أخرى، يستطيع خلالها تطبيق المزيد من هذه الإيديولوجيا، خاصة وأن أعداء "حزب الدعوة" من العَلْمانيين والشيوعيين والتقليديين من رجال الدين، لم يعد لهم أي أثر. فالعَلْمانيون بقيادة إياد علاوي اندحروا، وتحوصلوا في زاوية ضيقة. والبعثيون تشتتوا، ومن بقي من بعضهم، انضم إلى المليشيات الإرهابية. والشيوعيون الذين اشتد ساعدهم أيام عبد الكريم قاسم انهزموا. أما التقليديون من رجال الدين، فهؤلاء سهُل قيادهم بالمال الإيراني، وبشيء من السلطة المزيفة. وبذا، يكون "حزب الدعوة"، قد انفرد تماماً بالسلطة العراقية، وأصبح المالكي أقوى من صدام حسين، لسبب واحد، وهو أن صدام لم تدعمه إيران (أقوى قوة إقليمية) كما تدعم "حزب الدعوة" المتمثل بالمالكي الآن.

-4-

سمير الخليل (عدنان مكيّة) كان من أشد المعارضين لحكم حزب البعث في العراق. وما كتبه مكيّة من نقد موضوعي لهذا الحكم في (جمهورية الخوف) لم نقرأ له مثيلاً من المعارضة العراقية، طيلة حكم صدام حسين خاصة. ولكن مكيّة الذي كان المعارض المنصف والموضوعي، والذي ذمَّ حكم حزب البعث، ومجازره، ومقابره الجماعية، ومصادرته للحريات، وإباداته للأكراد، لم ينسَ ايجابيات هذا الحزب، التي ربما تفوق ايجابيات "حزب الدعوة" حتى الآن. ففي كتابه (الحرب التي لم تكتمل) يقول مكيّة، أن حكم حزب البعث، رغم كل شروره، ومساوئه، ومظالمه الكثيرة، إلا أنه حقق ما كان يحلم بتحقيقه الملك فيصل الأول حاكم العراق (1921-1933) ولم يحققه.

فحزب البعث – كما يقول مكيّة في كتابه - جعل في العراق أعلى نسبة تعليم في العالم الثالث. واحتلت المرأة 46% من الجهاز التعليمي، و29% من مجموع أطباء الصحة، و 46% من مجموع أطباء الأسنان، و70% من الصيادلة(ص48). وهو ما لم يتم في أي بلد عربي آخر بما فيها مصر، التي سبقت الدول العربية جميعها إلى تعليم المرأة. وبنى البعثيون خامس أكبر جيش في العالم. وطوروا البنية التحتية الاقتصادية، ووفروا التعليم، والرعاية الصحية المجانية لكافة المواطنين، وأدخلوا الكهرباء لكل قرية.

وهذه الحقائق ليست – على الإطلاق – لتبرير جرائم حكم البعث في العراق. ولكنها للتذكير، بأن رذائل الدولة العَلْمانية وسلبياتها، تبقى أفضل من فضائل الدولة الدينية وإيجابياتها.

 

اجمالي القراءات 12358