من ثقافة الذاكرة إلى ثقافة الإبداع

د. شاكر النابلسي في الإثنين ١٠ - يناير - ٢٠١١ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-

يُجمع خبراء التربية والتعليم، وعلماء الاجتماع والاقتصاد وبعض السياسيين، على أن عائق التربية والتعليم ومخرجات هذه التربية وهذا التعليم، هي السبب الرئيسي وراء تخلُّف العالم العربي وزيادة نسبة حجم البطالة فيه، بحيث وصلت الآن إلى نسب مرعبة لا تبشر بالخير أبداً، وتنذر بانفجارات اجتماعية، وأخلاقية سيئة، هنا وهناك. ويحاول بعض المفكرين الشجعان، وضع الإصبع على الجرح تماماً، كما يفعل الفيلسوف المصري الم&Ua;معاصر مراد وهبة، الذي يرد سبب ما نحن فيه الآن من بلاء وامتحان عسير، إلى اعتمادنا على "ثقافة الذاكرة"، وابتعادنا، ونبذنا لـ "ثقافة الإبداع".

ففي كتابه (مُلاّك الحقيقة المطلقة) يؤكد وهبة على وجود علاقة حميمية بين السلطة والأخلاق، وينطلق من هذه النقطة إلى طرح السؤال التالي:

  1. ما هو انعكاس علاقة السلطة بالأخلاق على مجال التعليم، وعلى العلاقة بين الطالب والمُعلِّم؟

ويجيب وهبة على هذا السؤال بقوله:

"إن العلم يمثل السلطة، بما تنطوي عليه من مُلكية للحقيقة المطلقة، فيمتنع معها تدريب الطالب على التفكير الناقد، الذي هو مُتَضَمَّن في التفكير الإبداعي، فيجيب الطالب من ثقافة الذاكرة، التي لا تختزن إلا ما هو مُتَّفَقٌ عليه. وما هو مُتَّفَقٌ عليه، رمزُ الحقيقة المطلقة."

ويخلص وهبة إلى نتيجة مفادها أن: "العلاقة السوية بين الطالب والمُعلِّم، لإنتاج ثقافة الإبداع ليست علاقة ضبط وكبت، ولكنها علاقة حرية التفكير، التي تؤدي إلى ثقافة الإبداع."

وفي كتاب آخر، يؤكد مراد وهبة أن:

"التعليم  - بما أنه المنهاج الأساسي لبناء المجتمعات الإنسانية الحرة - أصبحت غايته تنمية العقل الناقد، في كل فرد وجماعة." وهو ما نادى به تيار معاصر، نشأ في الغرب، لمحاربة التشدد والتزمت الإيديولوجي، وكان ذلك ضمن عشرة بنود، آخرها موضوع التعليم.

-2-

تقول الكاتبة السعودية، وأستاذة علم الاجتماع الثقافي، بدرية عبد الله البشر:

"إن ثقافة الذاكرة التي تتجلّى في كل سؤال يخالف النص، ولا يُحفظ عن ظهرقلب، ويعتمد على تحليل عقلي أو استنتاج، لرتق شقِّ الذاكرة، الذي سقطت منه الكلمة فيالنص، سوف تُشطب إجابته، ويُوضع للطالب صفر."("الوطن"، 8/6/2006).

وترى البشر، أن مصيبة التعليم في العالم العربي، ومن ضمنه السعودية تتلخص في أن:

"المُعلِّم يطلب من الطالب أن يصف له ما لم يره، ويجيب عن ما لم يقرأه، أو يسمع به، أو يعرفه."  وتقول أن الطفلة "غادة" (ابنة أختها): "اعتُبرت طالبة مشاغبة في المدرسة لأنها تخرج عن نص المنهاج المدرسي، ولأنها لا تستجيب لرغبات معلمتها"، التي تريد منها أن تصف ما لم تره غادة، وتجيب عن ما لم تقرأه، أو تسمع به، أو تعرفه.

وتُعلّق الأستاذة البشر على ذلك بقولها:

"مناهجنا تقوم منذ تأسيسها على مبدأ هام، هو وُصفما لا يُرى، وهي بهذا تقوم بدور هام، وهو توسيع ملكة الخيال، حتى صار طلابناوطالباتنا يعيشون في بحر كبير من الخيال، ما إن يخرجوا منه، حتى يفتح كل واحد منهمفمه واسعاً، عند كل تجربة."

-3-

وفي "المنتدى العربي الرابع للتربية والتعليم"، الذي عقدته "مؤسسة الفكر العربي"، عام2007 (24-25 إبريل/نيسان) في عمان – الأردن، كانت "ثقافة الذاكرة"، أبرز المحاور، التي تحدث عنها المشاركون في هذا الملتقى.

وكانت من أهم الأوراق التي قُدمت - في رأيي المتواضع - في هذا "المنتدى"، ورقة وزير التربية والتعليم اللبناني السابق إدمون رزق. وكان أهم ما أثاره إدمون رزق في ورقته (نحو منظومة قيمية للتعليم والعمل)، دقّ المزيد من نواقيس الخطر، لعل القوم يستيقظون من سباتهم العميق، الذي وصل إلى حد غيبوبة الموت في بعض الأحيان. فقد أورد رزق بعض الأرقام السوداء، التي لا يريد مسئول عربي أن يسمعها. وأكد رزق في ورقته، أن نسبة البطالة في العالم العربي بلغت 15-20 % مع زيادة سنوية بمعدل 3 %. وأن نسبة الفقراء (خط الفقر العربي يتمثل بدخل ألف دولار سنوياً؛ أي بمعدل دولارين ونصف يومياً، في حين أن خط الفقر في الدول المتقدمة - أمريكا مثالاً - هو عشرة آلاف دولار سنوياً) تتراوح بين 20-25 %. وهذه كلها أرقام غير دقيقة، وغير شفافة، كما هو معلوم. فلا إحصائيات رسمية دقيقة في العالم العربي. والعالم العربي - كما هو معروف للقاصي والداني - عالم غير معلوماتي، ولا أحد يدري بالضبط وبالدقة ما يدور فيه. ولكن تظل معدلات البطالة أعلى مما ذكره إدمون رزق. كما تظل أرقام الفقراء أعلى بكثير أيضاً مما ذكره. بل إن ما ذكره رزق يُعتبر أرقاماً متفائلة.

                                                                 -4-
فما هو سبب كل هذا الفقر، وهذه البطالة في العالم العربي؟
لا شك بأن الفساد المالي والإداري والسياسي، هو من الأسباب الرئيسة لهذا العطب والخلل والفشل العام. ولكن رزقاً يريد أن يوصلنا إلى نتيجة أن إصلاح التعليم وربطه ربطاً محكماً بالتنمية البشرية والوطنية، هو العلاج الذي يمكن أن يخفف كثيراً من ضرر هذا العطب والفشل العام.

ولكن أي تعليم نريد؟

هل نريد تعليماً لما أطلق عليه مراد وهبة وبدرية البشر "ثقافة الذاكرة" المكرورة؟

أم نريد تعليماً ينتج لنا إبداعات ومبدعين في كافة الحقول؟
الوزير السابق إدمون رزق، يشدد على أهمية "ثقافة الإبداع"، والتعليم الذي يقود إلى هذه الثقافة. ويقول في "ورقته" تلك ما معناه، إن المجتمع العربي مجتمع ثابت غير متحرك. بليد غير ديناميكي. يكره التغيير، ويُفضل الثبات. أناسه من حجارة، وليسوا من عجين. ومن هنا كان من الصعب على هذا المجتمع أن يتغير، أو أن يخضع لمتطلبات السوق المتغيرة يوماً بعد يوم. وبالتالي فسياسة التعليم لا تخضع للتغيير، بقدر ما هي ثابتة ثبوتاً أزلياً. بل إن هذا الثبات يعتبر من ضمن ثوابت الأمة. والعرب منذ زمن طويل، يرفضون التغيير والعبور من "القدامة إلى الحداثة"، ومن القديم إلى الجديد، ومن الإتباع إلى الابتداع، ومن الثابت إلى المتغير.

وهذا ينطبق على التعليم كذلك، الذي ما زال جزءاً لا يتجزأ من طبيعة الحياة العربية، ورتابتها، وجمودها المعهود، رغم عصر السرعة الإلكترونية الفائقة الذي يعيش فيه العرب الآن.

 

 

اجمالي القراءات 11790