البحث عن الحل السياسي للقضايا الثقافية

د. شاكر النابلسي في الأربعاء ٢٢ - ديسمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

-1-

بعد النصف الثاني من القرن العشرين، ونيل معظم البلدان العربية الاستقلال، ظهرت موجة من الانقلابات العسكرية. كان المبدأ العام السائد، أن الدبابة وفوهة البندقية هي الطريق إلى السلطة. وبذا، بدأ ترسيخ العنف في العالم العربي، على ما تقوله الفيلسوفة الألمانية "حنة آرندت" في كتابها (في العنف). ونتج عن ذلك، وخاصة بعد هزيمة 1967 العسكرية، بدء ظهور الجماعات الدينية المسلحة، انطلاقاً من رحم "التنظيم السري" لـ "جماعة &Cce;ة الإخوان المسلمين"، الذي بدأ نشاطه الإجرامي عام 1948 الذي اغتال رئيس وزراء مصر النقراشي باشا 1948 ، والقاضي أحمد الخزندار، ومدير أمن القاهرة (الحكمدار) اللواء سليم زكي وغيرهم. وتفجير أشهر محلات بيع التجزئة في قلب العاصمة المصرية. ثم انتشار العنف والإرهاب بعد العام 1991، وهو عام عدوان صدام الغاشم على شرق السعودية والكويت. وبلغت ذروة الإجرام الإرهابي في كارثة 11 سبتمبر 2001.

-2-

 

ولكن، يبدو أن هناك قناعة عربية علمية وتاريخية، توصَّل إليها حكماء العرب القلائل هذه الأيام، تضع الإصبع على الجرح، وذلك بتبنيها الحل الثقافي للمشكل السياسي. ويحضرني في هذا المقام ما قاله أستاذنا الفيلسوف المصري المعاصر مراد وهبة من أن "السلطة الثقافية" في العالم العربي، أصبحت ضرورة وحيوية مثلها مثل السلطات التنفيذية، والقضائية، والتشريعية، والصحافية. ولكن الأهم من ذلك – في رأينا – ليس "السلطة الثقافية" لحل مشاكل العالم العربي المعقدة، ولكن وجود (السيو- ثقافي)؛ أي وجود السياسي المثقف، القادر على تبني ورعاية ونشر التنوير الثقافي.

 فنحن لسنا بحاجة إلى أن يكون المثقف سياسياً، ولكننا بحاجة إلى أن يكون السياسي مثقفاً.

فالسلطة الثقافية التي اقترحها مراد وهبة، يمكن أن تكون حلاً لبلد كمصر، قطع شوطاً كبيراً منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الآن في النهوض الثقافي، وتكونت لديه حصيلة ثقافية متراكمة، يمكن أن تتحول إلى "سلطة ثقافية"، ولكن مصر في ذات الوقت بحاجة لحل (السيو – ثقافي) أي إلى السياسي المثقف، أو السياسي الواعي لدور الثقافة في بناء المجتمع المدني في الدولة. ومثاله القريب فاروق حسني وزير الثقافة المصري، لأكثر من عشرين عاماً، ومثاله الكبير أيضاً محمد علي باشا (1769-1849) الذي استطاع بناء نهضة مصر الحديثة، بانفتاحه الثقافي المدهش، وتبنيه للبعثات التعليمية إلى الغرب.

-3-

لقد تهيّأ في العالم العربي مراكز أبحاث ومؤسسات فكرية متعددة في مجالات مختلفة. ولكن معظم هذه المراكز ظلت بعيدة عن مراكز صُنع القرار العربي. وبعبارة أخرى، فقد بقيت "الهوة" التي تحدث عنها عالم الاجتماع المصري سعد الدين إبراهيم في كتابه (المثقف والأمير : تجسير الفجوة بين أصحاب الأفكار وأصحاب القرار، 1985) قائمة إلى الآن. والحل لهذه الإشكالية هو إشراك السياسيين من أصحاب القرار وصُنّاعه في نشاطات مراكز الأبحاث هذه، لكي يحملوا نتاج هذه الأبحاث إلى المجتمع المفتوح، ويطبقوها على أرض الواقع. كما هو الحال الآن في أمريكا فيما يتعلق بمراكز الأبحاث، التي يطلق عليها Think Tanks. وبدون هذه الخطوة المهمة سوف تظل أبحاث مراكزنا الثقافة طي الأدراج، يتهامس بها المثقفون والنخبة همساً، في مجالسهم المختلفة، والضيقة جداً.

-4-

 

الثقافة ليست حكراً على المثقفين النخبة فقط. ولا يجب أن تكون كذلك، كما اشترط أفلاطون في "الأكاديمية". وكان سقراط قد عارض ذلك منذ آلاف السنين، ودفع حياته ثمناً لذلك، عندما نزل بالفلسفة إلى الشارع، ليحاور العامة، وينشر أفكاره بينهم. فالثقافة يجب أن تكون للجميع، وخاصة سواد الناس وعاميتهم، إذا أردنا الانتشار الواسع والسريع لها. ولو كان فولتير وروسو ومونتسكيو وكانط وهيجل وغيرهم يعيشون بيننا الآن، لما اكتفوا بنشر أفكارهم في كتبهم، وعلى منابر خاصة، ولقاموا بنشرها بين العامة في الصحافة اليومية، وعلى شبكات الانترنت. كما نفعل نحن اليوم. أما عن عائق الأميّة المنتشرة في العالم العربي بنسب كبيرة، فلن تكون الأميّة عائقاً في وجه نشر الثقافة بين العامة، مع وجود وانتشار الفضائيات والسمعيات والثورة المعلوماتية الآن، التي نشهدها، والتي ألغت دور الكتاب في أن يكون مصدر المعرفة الأول والأخير. فهناك الآن مصادر مختلفة للمعرفة، تناسب المتعلم والأُمي في الوقت نفسه. ووصول الثقافة لهؤلاء لن يتأتى إلا بسلطان يؤمن بالحل الثقافي، لكي ينشر بسلطته الثقافة التنويرية.

-5-

تقرير "التنمية الثقافية الثالث" لعام 2009 الصادر عن "مؤسسة الفكر العربي" 2010،  كان علامة مهمة وبارزة في ضرورة إشراك السياسيين، وصُنّاع القرار في العالم العربي بقضايا الثقافة العربية، ومحاولة ردم الهوة بين "أصحاب الأفكار وأصحاب القرار"، التي انطلقت منذ العام ،1985 ووجدت اليوم في "مؤسسة الفكر العربي" التجاوب، من خلال مشاركة بعض السياسيين في هموم الثقافة العربية كحمد بن عبد العزيز الكواري وزير الثقافة القطري ورئيس مجلس وزراء الثقافة العرب، ووزير الإعلام اللبناني طارق متري. وبهذا، لن يكون تقرير التنمية الثقافية الثالث في العالم العربي مجرد حبر على ورق، وموجهاً للخاصة من المثقفين فقط. ويبقى دور الإعلام مهماً جداً في هذه المسألة. فمن الملاحظ، أن حجم التغطية الإعلامية لكافة نشاطات "مؤسسة الفكر العربي"، وغيرها من المؤسسات الثقافية الأخرى، صغير جداً ومخجل، قياساً لحجم نشاطات هذه المؤسسات.

 

اجمالي القراءات 7829