رد من الرئيس مبارك على دود الأرض

محمد عبد المجيد في الإثنين ٢٢ - نوفمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

تسلمتُ رسالتَكم التي يوشي كلُّ حَرْفٍ فيها بتهديدٍ وتخويفٍ ووعيدٍ، ومع ذلك فقد قرأتها وانفَجَرْتُ ضَحِكَاً اِهْتَزَتْ له جُدرانُ قصر العُروبة، وهَرّوَل الجميعُ إلىَ مكتبي فقد ظنّوا بي مَسّاً من الجنون!

لم يَدُرْ بذهني لبُرهةٍ واحدةٍ أنكم قادرون علىَ الاقترابِ من كَفَني، فصديقُ ابني الذي وضع تحت إمْرَتِهِ مليارَ جُنيه لتلميعِه اِنتخابياً يستطيع أنْ يصنع لي مقبرةً من الكريستال البلّوري الذي يحميني منكم كما يحميني عشرات الأطباءِ بعياداتهم المُتنقلة من انتشار أيّ مرض، أو تفاقمه، أو حتى الأوجاع التي يسببها لي.

ثم ما هذا الهراء الذي تتحدثون عنه، وتخلطون ما بين كَفَنٍ مُهتريٍء مَليءٍ بالثقوب يلتف حول مواطنٍ فقير، مُعْدَم، حَرَمَه رجالي من لُقمةٍ تقيم أوده، وبين مقبرتي التي ستقف شامخة بجوار مقابر الزعماء المصريين، لكن أموالي التي جمعتُها بِعَرَقي، وتعَبي، وذكائي ستحميني تحت الأرض، ولن يخيفني ظلامٌ دامسٌ أو دُودٌ جائعٌ يحاول اختراقَ قبري فلا يفلح، ويعود أدراجَه إلىَ الفقراءِ وأكفانـِهم التي تذوب فَوْر ابتعاد حفـّار القبور.

تتحدثون عن توّبتي كما يتحدث المختَّلون عقليًا، والمعاقون ذِهنيّاً، والمتفلسفون الذين يظنون أنَّ ميزانَ العدالةِ في يدي يشبه موازينَهم المطففة رغم أنوفهم!

أعزائي دود الأرض،

تنتظرونني بصبر نافد، لكن مهارة أطبائي تمدّ في روحي تماما كما حدث في ميونيخ عندما تخيل الحاقدون أنني علىَ مرمىَ حَجَرٍ مِنْ الحَجَرِ، وأنه لن يمر زمنٌ غيرُ محسوب لسرعته حتى يتوقف البثُّ الإذاعي والتلفزيوني في مصر ليعلن نبأَ رحيلي، لكنني عُدْت إلى أبناء شعبي أقوىَ من قبل، وأكثر شراسة، وفتحت لحيتان عهدي وأصدقاء ابني مغارةَ علي بابا، وضاعفتُ في سنوات قليلة مَرْضَىَ الكبدِ الوبائي، وأصبح لدينا أكثر من 800 طبيب يقومون بنقل أعضاء من أجساد غير القادرين إلى أجساد أثريائنا لعل أعمارَهم تنافس عُمْرَ نوح، عليه السلام.

شهورٌ قليلة وأحتفلُ بعامي الثاني بعد الثمانين، وأجدّد في ولايةٍ سادسةٍ أكبرَ عمليةِ اِستغفال، واِستحمار، واِستجحاش، واِستنعاج أكثر من ثمانين مليونا من البشر.

قد يذهب بكم الظنُّ أنَّ الوليمةَ التي تنتظرونها يُعَجّل فيها غضبُ المصريين، وتُوَحّد المعارضة تحت سقف الكرامة التي لا تفرق بين مسلم وقبطي واخواني وتجمعي ووفدي وناصري ومستقل، لكنكم تستحقون فعلا الحياةَ تحت الأرض لأنكم تجهلون المشهد المصري المُذَلّ، والمـُهان، والذي صنعتُه لثلاثين عاما، فأصبح صِبْيَةُ الاستبدادِ أكثر َعَدَداً مِنكم.

قرأتُ كلَّ التعليقات علىَ رسالتكم الأخيرة ( رسالة من دود الأرض إلى الرئيس مبارك)، ولم يكن فيها جَديد، فأنا أعرف أنَّ شعبي كُلـَّه يحمل لي كراهيةً لو وزّعها علىَ كُل طـُغاة العالم لأغرَقَتْهم حُزْناً، وكـَمَدا، وأسَفا.

أعزائي دود الأرض،

إنما يبكي علىَ الحُبِّ النساءُ، وأنا أكبر من أن أتسوّل عواطف،َ ومشاعرَ، ومحبة، ومديحاً، بل أصارحكم أنني كلما أمعنت في تعذيب المصريين، وفَتْح أبواب تسميمِهم، وتعذيبِهم، ونهبِهم، واغتصابِهم، زاد الالتفافُ حَوّْلي، وخضعتْ لأوامري كلُّ مؤسسات الدولة، وبَلـَعَ أبناءُ أبطال العبور كرامةَ آبائِهم، واختبأ تلامذةُ رأفت الهجّان في جـِلباب وزير الداخلية، وتحوّل الإعلاميون إلىَ قِرَدَةٍ تقفز، وتضحك، وتكذب، وتبرر جرائمي حتى ظننت أنَّ النهر َالخالدَ سيُغَيّر مجراه ويصبّ في قصوري فقط لأتحكم في مياه الشرب قبل أن يرتشف منها أيُّ مصري رشفةً واحدة .

التوبة كلمة يعرفها فقط الخائفون من الله، والذين يريدون أن يشرق نورُ ربهم في يوم القارعة فيبتسمون وهُم يقرأون كتابَهم الملزم في أعناقهم، أما أنا فلا أكترث لهذا الكتاب الذي يقول الله بأنه سيُخرجه لي يوم القيامة منشورا.

الحياةُ بهجةٌ، وسعادةٌ، ولذةٌ، ومُتعةٌ، وأنا عشتُها طولاً وعرضا مستمتعا بما لم يفعله طاغيةٌ من قبلي.

أتذكر يوم قرأت عن المصري الذي أ لبسه رجالُ أمني ملابسَ النساء، وجرجروه أمام جيرانِه، وأحبابه، ووالدته، فأصابها الشلل.

أتذكر يوم تبجح أحد المصريين أمام مأمور القسم الذي هدده بأن يحرقه، ونام المتهم في سلام، ثم جاء ضابطنا الملتزم بتعاليمي، وصبَّ علىَ جسد الرجل كيروسينا في منتصف الليل، وأشعل جسده النحيل، ولم يتعرض لأيّ عقوبات، فالدولة كلها تحت حذائي، والقاضي الذي تمرد ركله ضابطنا بالحذاء على وجهه، فصَمَتَ أربعون ألف قاضٍ، ونام كل منهم على صوت شخير يشهد بأنه كان نوما عميقا.

أتذكر يوم أن طلب ضابطنا من مصري أن يلعق عضوه الذكري أمام زوجته وأولاده، ولم يتعرض رجل الأمن لكلمة عتاب واحدة، فأنا وحدي صانع هؤلاء و .. هؤلاء، أصنع السوط، وأصنع الظهر الذي أعَرّيه له! أصنع الكَفَّ، وأصنع القَفَا الذي يتمدد أمامه!

أعزائي دود الأرض،

كانت رسالة سخيفة منكم، فأنا باقٍ بذكريات عن فاقة، وآلام، وعذابات، وخوف شعبي، ومرت أمامي في ثلاثة عقود عشرات الآلاف من الكوارث التي لم أكلف نفسي القاء نظرة ثانية عليها، فأنْ يغرق آلافٌ، وأنْ يحترق مثلُهم، وأنْ تطحن المباني الساقطةُ أجسادَ المصريين، وأنْ تصرخ كل ربة أسرة من الغلاء، وأن يبكي كل عسكري شريف وهو يرى حدود فلسطين من غزة مُغلقة لنتيح الفرصةَ لتكسير عظامهم، وأن أبدد ثروة المصريين الغازية والنفطية لتتحرك عجلة الحرب العبرية فيتأدب الفلسطينيون وغيرهم، وأنْ يصاب بأمراض وبائية ثلثُ سكان مصر، وأنْ ينام عشرة ملايين طفل مصري ببطون خاوية بجوار أمهات تتساقط الدموع من مآقيهن التي كادت تجف، وأن تضربنا دول الجوار النيلي على أقفيتنا، وأن تسبق 98بلدا مصر في الشفافية، وأن تتجه الدولة حثيثا لتصبح مثل كاراكاس وريو دي جانيرو وجوهانسبرج في انعدام الأمن، وأن يتحول مجلس الشعب إلى خدم وعبيد يعملون لحسابي، وأن تتراجع السلطة القضائية فترتعش أيدي ممثلي العدالة السماوية على الأرض، وأن أشعل في كل قرية فتيلا للفتنة الطائفية حتى إذا غادرت مصر أسقطتْ ما بقي فيها حربٌ أهلية لا تـُبقي ولا تـَذَر وأن ...

فكل هذا يؤكد لكم، أعزائي دود الأرض، أن التوبة بالنسبة لي عمل لا يليق بتاريخي الذي لو قمت بوزنه مقارنا بما فعله إبليس المغرور الذي ظن نفسه أفضل مني، فإنني سوبر ستار ستقضون زمنا لا نهائيا وأنتم تنتظرونني.

الموت لا يزيد نبضات قلبي نبضة واحدة، وحساب الآخرة لا يحرك شعرة واحدة في جسدي، والخوف من الله وأنا أطحن عظام المصريين لم يمر بخلدي قط، وأنا لن أغادر هذه الدنيا قبل أن أجعل المصريين يزحفون كالسَحَالي فوق بطونهم، ويتمنون تسول طعامهم من أوغندا وتشاد وهاييتي ونيبال و .. الصومال!

أعزائي دود الأرض،

سينفد صبركم سريعا فأنا أحكم المصريين، وهم يتصارعون كالديكة، وكل فرقة تأتيني من خلف ظهر أختها لتؤكد وقوفها معي، واللاهثون لعضوية مجلس الشعب يعلمون أنها مسرحية قميئة عفنة، ففي النهاية يظل القرارُ بيدي، وهم ( سنـّيدة ) وكومبارس لا يختلف أحدهم عن الآخر.

سينفد صبركم لأن الغضب المصري يحتاج إلى قيادة، وإلى معارضة شريفة، لكن مُعارضي نظام حكمي يضعون رئيس الحزب فوق رؤوسهم، ومباديء الجماعة قبل حب الوطن، والمزايدة الدينية والطائفية على رأس أولويات مطالبها.

سينفد صبركم، أعزائي دود الأرض،فروحي بين أيدي أطبا ئي من أركان الأرض الأربعة، وأنا لست مصريا مثل هؤلاء الذين يموتون بالمئات قبل أن يتحرك عقرب الثواني حركة واحدة، ودرجة الغليان موحدة لدى شعوب العالم التي يحكمها جبابرة مثلي، لكنها سبعون ضعفاً أو يزيد لدى المصريين.

هل هناك مصري في طول البلاد وعرضها لا يعرف أنني المتسبب الأول عن كل أوجاع الوطن، وآلام الشعب؟

وبالرغم من ذلك فكلهم يدخلون معارك دون كيشوت ضد الوزراء والمحافظين ورجال الأعمال، لكن المعركة ضدي مؤجلة إلى درجة الغليان التي قد لا تأتي حتى يلج الجمل في سم الخياط.

أعزائي دود الأرض،

تريدونني ضيفا على أمعائكم في باطن الأرض، إذن عليكم اقناع المصريين أن لا يـُمدّوا في عمري، وأن لا يتواطئوا معي ويحسبون أنهم يُحسنون صُنـْعا!

اِئتوني بعشرة آلاف مصري يعشقون بلدَهم، ويخافون علىَ مِصْرِهِمْ، وأنا سأهرب من الباب الخلفي لقصر العروبة في حماية أمريكية إسرائيلية!

اِئتوني بخمسة آلاف مصري قلوبهم معجونة بلـُعاب مَلـِك الغابة، وأنا أقسم لكم أن رجالي، وكلابَ قَصْري، وحيتان عهدي، ولصوص زمن العبودية سيبللون سراويلَهم من الخوف!

أنا حيٌّ لا أموت، طالما كان المصريون أمواتا في صورة أحياء، وعندما تدُبّ الروح فيهم، تهرب مني، وأنزل ضيفا عليكم بعد سحلي في شوارع القاهرة!

تريدونني وليمة في باطن الأرض، إذن فعليكم باقناع المصريين أن الإنسان فيه من نفخة الروح العلوية، وحينئذ لن تكون هناك مقبرة فاخرة ، وأكاليل من الزهور يضعها ابني ومعه رجال عهده في مستقبل جحيمي يجعل المصريين يتحسرون على جهنم زمني.

أعزائي دود الأرض،

إن مهمتي في خراب مصري لم تنته بعد، فانتظروني ست سنوات أخريات، وسيساعدني المصريون، معارضون وغيرُ معارضين، عسكر وأمن ومدنيون ومثقفون وإعلاميون ومفكرون وأكاديميون وحزبيون، فهم ينظرون في كل الاتجاهات، وإذا صوّبوا أعينَهم إليَّ، غضّوا الطـَرْفَ فورا.

في ولايتي السادسة سيكون انتقامي من المصريين أشدّ هَوّلا من كل صور العذاب التي مرَّت عليهم في تاريخهم القديم والحديث!

رسالتُكم وصَلَتْ، لكنكم ظننتم أن أجلي مثل آجال الآخرين، وأنَّ ضميري قد يستيقظ ذات صباح طاهر جميل يبسط جناحيه على سكان وادي، لكنني باقٍ ولو زارني مَلَكُ الموت مرتين في كل يوم.

إن أحلامي في جعل الكوابيس تهيمن على يقظة ومنام كل مصري تمُدّ في روحي، وربما تجعلكم تنتظرون إلى ما لانهاية.

أوهام دود الأرض في استقبالي كتمنيات البلهاء في رحيلي، وأحلام الساذجين في توبتي مثل كوابيس المصريين في عجرفتي، واستجداءات الطيبين في عدالتي كثقة رجالي في قسوتي.

لو انتحيتم جانبا بشيخ الأزهر أو بابا الأقباط أو المرشد العام للإخوان المسلمين أو رئيس حزب التجمع أو رئيس حزب الوفد أو أي شخصية معارضة أو غير معارضة، واستحلفتموهم بكل الكتب السماوية وقيم الخير وحبهم لمصر أن يشهدوا أمام الله وضمائرهم، وأن يستحضروا ثلاثين عاما من حُكمي، وقبضتي الحديدية، وظلمي إياهم، وغيابات السجن التي يختفي فيها حواريوهم ومريدوهم، فإنهم في النهاية سيقفون معي، وسيؤيدون ابني حتى لو بعث اللهُ أنبياءَه يوم الانتخابات الرئاسية، فالنتيجة لن تخرج عن رغبتي، أما الدكتور البرادعي فسيطلب من الشعب الوقوف معه، وليس العكس، ثم يغادر القاهرة لحضور حفل أو اجتماع.

بحثت كثيرا عن معنى الموت، لكن لم يتجرأ أحد ممن حولي حتى الآن أن يحدثني عنه!

ولايزال المصريون بعيدين بُعْد المشرقيّن عن درجة الغليان، فالصدور والقلوب والعقول والضمائر لم تحسم أمرها بعد.

أعزائي دود الأرض،

أستطيع أن أراهن على أن أبعث إليكم في باطن الأرض بنصف سكان مصر قبل أن أنصت لأنفاس مَلـَك الموت وهو يخطو نحوي خطوةً إلى الأمام، وخطوتين إلى الخلف.


 

محمد عبد المجيد

أوسلو في 22 نوفمبر 2010


 


 


 


 

اجمالي القراءات 13248