ولا يزال قاسم جغيته وزيرا..!!

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٩ - سبتمبر - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :

هى ملاحظة أكّدتها الأحداث الجارية ، أن الوزراء فى نظم الحكم الثورية العسكرية الاستبدادية أسوأ حالا من نظرائهم الوزراء فى نظم الحكم الملكية الاستبدادية . ربما لوجود تقاليد لدى النظم الملكية ، وربما لأنها تسند مناصب الوزارة لأعيان الطبقة العليا ( الأرستقراطية ) الذين يدورون فى فلك الأسرة الملكية الحاكمة ، لذا يتمتع الوزير باحترام ما من الملك مقابل ما يبديه الوزير للملك من خنوع وخضوع .

ويختلف الأمر فى النظم العسكرية ، فالحاكم الم&Oacutستبد هو بطبيعته فظ غليظ القلب يتعامل مع من هو أدنى منه بلغة الأمر و الاستكبار ، كما لو كانا فى معسكر حربى ، بل ربما ينهال عليه ضربا أو سبّا ووشتما وتوبيخا ، وربما يبعث به الى السجن لتأديبه ، وليس هذا ضربا من الخيال ، بل هى وقائع جرت وتجرى أضعفت مكانة  الوزير فى النظم العسكرية العربية حتى لدى الرأى العام ، وجعل بعض القلة من الشخصيات المحترمة تنأى بنفسها عن هذا المنصب ، تاركة التنافس عليه لمن لا كرامة له ، ممن يبذلون ماء الوجه مدحا وتملقا ونفاقا أملا فى الوصول لمنصب الوزارة ثم يفقدون ما تيقى من عقولهم بعد طردهم منها .

وبالتالى فإذا كان من مسوغات تعيين الوزير فى النظم الملكية الحالية هى عراقة أسرته وجاهها ووجاهتها ومستوى تعليمه وتمرسه بالسياسة وعلاقاته الداخلية و الخارجية ، فإن المسوغ الأهم لاختيار الوزير فى نظم الحكم العسكرية البوليسية هى مدى وضاعته وطاعته و عبوديته للحاكم المطلق ، ويستحسن أن يكون من أرباب السوابق ـ المسكوت عنها والمحفوظة فى ملفات ـ حتى يمكن السيطرة عليه.

ومطلوب من المرشح وزيرا ألاّ يكون سياسيا لأن العارف الوحيد فى السياسة هو سيده الحاكم المستبد ، وألا يكون محبوبا من الناس أو صاحب جاذبية وكاريزما لأنه تم حجز هذه المواهب بالأمر المباشر للسيد الرئيس الزعيم المفدى ، بل يستحسن أن يكون مكروها من الناس تنهال عليه الدعوات ويكتب فى الهجوم عليه عشرات المقالات ، فيزداد خضوعا للسلطان الحاكم ويلوذ به خوفا من الشعب .

ليس هذا فحسب هو نموذج الوزير فى الحكم العسكرى فى مصر بعد يولية 52 ، بل هو تكرار لما ساد فى العصر المملوكى ، حيث كان العسكر المملوكى النموذج لعسكر اليوم .

ثانيا :

وأعطى مثالا لوزير فى العصر المملوكى أرى ملامحه فى وزراء نظام الحكم العسكرى القائم فى مصر الآن .

* منذ خمسمائة عام تقريباً وأثناء حكم السلطان المملوكي قايتباي كان قاسم جغيته أبرز هذه النوعية من الوزراء ..

* في يوم الثلاثاء 9 ربيع الأول سنة 873 هـ غضب السلطان على الوزير ابن الأهناسي وصادر أمواله تحت التعذيب واضطره إلى أن ينجو بنفسه بعد أن دفع ألفي دينار, ومع ذلك كان يتمنى العودة للوزارة , ولكن السلطان أعاد قاسم جغيته للوزارة , لأنه تعهد للسلطان أن يوفر من مرتبات العساكر و الموظفين والأيتام و أصحاب العمائم الشيء الكثير , و ما أن تولى قاسم جغيته الوزارة حتى شمر عن ساعده في قطع أرزاق الناس  بل وطالبهم بما حصلوا عليه من علاوات بأثر رجعي, و من عجز عن الدفع سجنه مما أدى إلى هرب كثير من الموظفين و المستحقين .

* واستمر قاسم في امتصاص دماء الشعب لأسياده ولم ينس بالطبع أن يستحوذ لنفسه على جزء من الغنيمة. واكتشفوا أمر سرقاته وسرعان ما قبضوا عليه وضربوه بالمقارع والعصي وفرضوا عليه أن يدفع هو و أعوانه مائة ألف دينار وانتهى الأمر بغرامة عشرة آلاف دينار, ولكنه صمم على ألا يدفع شيئاً وقال "ما معي إلا روحي "!!

* وازداد غضب السلطان عليه وأمر بايداعه  في الحديد وقرر عليه غرامة  قدرها ثمانية عشر ألف دينار,وتوسط سكرتير السلطان أو كاتب السر فضمن قاسم جغيته وحبسه في داره  ولكن السلطان قرر أن يقوم موسى بن غريب – وهو خصم لدود لقاسم جغيته – بمحاسبة  قاسم فأثبت أنه اختلس خمسين ألف دينار .. وصار موسى بن غريب يتولى الوزارة بدلاً من قاسم ..

* وفي يوم الثلاء 18 جمادى الأول سنة 875 هـ رضىّ السلطان عن قاسم جغيته بعد أن دفع للسلطان عشرين ألف دينار نقداً وتولى الوزارة على أن يدفع لخزانة السلطان أربعة آلاف دينار أخرى .

* وتنافس قاسم جغيته وموسى بن غريب في الإيقاع ببعضهما البعض عند السلطان, واتهم كل منهما الآخر بأنه يختلس الأموال , ونجح ابن غريب في وشايته فقبض السلطان على قاسم جغيته وقبل أن يفرض عليه السلطان غرامة مالية  أظهر قاسم الفقر وأرسل يتسول الأموال من الأعيان وكبار الموظفين فأمر السلطان بإيداعه في سجن الديلم. و ظل فيه إلى أن أطلقه السلطان في 7 ربيع الآخر سنة 876 هـ وكان مع ذلك يتحين الفرصة للعودة للوزارة مهما حدث له !! ..

 

أخيرا :

الأخبار السابقة منقولة تاريخ ابن الصيرفى المؤرخ والقاضى الذى عايش عصر السلطان قايتباى ، وأرّخ له باليوم والشهر فى كتابه ( إنباء الهصر بأبناء العصر ).

ونموذج قاسم جغيته دليل على أنه كلما إشتد عسف الحاكم المستبد وفساده إنحدر مستوى وزرائه . إنها حكمة التاريخ . وتأمل حال مصر اليوم وحال وزرائها .

اجمالي القراءات 11412