وعظ السلطان ( 21 ) مصر: من القطط السمان الى عصر الحيتان

آحمد صبحي منصور في الإثنين ٢٦ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
إن ربك لبا لمرصاد
(1 ) في يوم الخميس 22 محرم سنة 448هـ تم عقد زواج الخليفة العباسي القائم بأمر الله علي الحسناء خديجة بنت أخي السلطان طغرلبك السلجوقى المتحكم في الخلافة العباسية ، وكان الصداق مائة ألف دينار ، وتم الزفاف في شهر شعبان ، وقد أهداها الخليفة عباءة منسوجة بالذهب وتاجا مرصعا بالجواهر ، ومائة ثوب حرير مرصعة بالذهب وطاسة كانت تحفة بديعة الصنع ، قد صنعوها من الذهب ورصعوها بالياقوت والفيروز والجواهر ، وبالإضافة إلي تلك الهدايا العينية أعطاها الخليفة ضيعة هائلة علي نهر دجلة يبلغ إيرادها السنوي اثني عشر ألف دينار .
(2 ) وفي نفس الوقت كان الفقراء يموتون من الجوع خارج قصور الخلافة ، وقد ارتفع ثمن المحاصيل إلي أرقام مفزعة ، فوصل أردب القمح إلي 90 دينارا بعد 20 فقط ، وتحول أغلب الناس لقطع الطريق بسبب الجوع فاضطر الفلاحون لبيع محاصيلهم بأبخس الأسعار لمن يستطيع حمايتها .ثم ازداد ارتفاع الأسعار حتى وصل ثمن حفنة الأرز إلي دينار، وتحول الغلاء الى مجاعة كان فى مقدمة ضحاياها الفقراء ،فانتشر الموت بين الفقراء فكان يموت منهم كل يوم ألف إنسان ، ولم يعد أحد قادرا علي دفنهم ، فاضطر الخليفة والسلطان طغرلبك إلي تكفين 18 ألف إنسان خشية أن يفسد الهواء من رائحة الجثث ، فتصل رائحتها للقصور المعطرة الفارهة .

(3 ) ومع كثرة الموتى من الفقراء وتضخم الغلاء حتى ارتفع ثمن القمح إلي 190 دينارا وانتشار المجاعة فإن أمير المؤمنين العباسي القائم بأمر الله لم يهتم بما يحدث خارج أسوار قصوره ، مع ان المحنة أصابت الأغنياء فى العام التالى 449 هـ ، فافتقروا ، واضطر الأحياء لأكل الكلاب بل وأكل الموتي ، ثم أصاب السعار الجوعى من الناس فبدأ الناس يأكلون بعضهم .
وارتبطت المجاعة بالوباء ، يقول ابن الجوزى في تاريخه " وشوهدت امرأة معها فخذ كلب ميت قد احضروها وهي تنهشه.. ورؤي رجل قد شوي صبية فأكلها ، فقتل " وكان الفقراء يشوون الكلاب وينبشون القبور فيشوون الموتى ويأكلونهم).
كان الذي يشغل بال الخليفة القائم هو حملة صديقه السلطان طغرلبك علي الموصل وتكريت وقد نهبها وسبي نساءها ، ثم عاد منتصرا للخليفة فاستقبله الخليفة استقبالا حافلا ومعه الملأ والسادة الكبار ، وقد سجل ابن الجوزى مراسيم ذلك الاستقبال في حوادث سنة 449 هـ التي شهدت أحداثا متناقضة ، مجاعة ووباء وبؤسا بين الفقراء والجماهير ، ثم أفراحا ومآدب واستقبالات في الدوائر السلطانية الحاكمة .

(4 ) وارتفع الوباء والمجاعة سنة 450 هـ ولكن ظلت الدوائر الحاكمة علي جبروتها وغرورها، فأخذ الجنود يعتدون علي الناس في الطرقات والبيوت ، وصاروا يخطفون العمائم من فوق الرءوس، وتفرغ الوزراء لاضطهاد خصومهم من الشيعة وأهل الذمة .
وكان الخليفة غارقا في شهر العسل لا يزال ، ولكنه أحس بالقلق حين ارتحل السلطان طغرلبك عن بغداد إلي الشرق ليصلح أموره مع أخيه ، فلما خلت بغداد من العساكر أصبح الخليفة وحيدا في مواجهة الجماهير الناقمة .

( 5 ) وانتهز الفرصة العدو الأكبر للخليفة العباسى القائم وهو البساسيري ، فدخل بغداد يوم الأحد 8 ذي القعدة سنة 450 هـ وانضم إليه العوام وقطاع الطرق أو (العيارون) والشيعة ، وأعلن البساسيري انضمامه للفاطميين وخليفتهم المستنصر في القاهرة ، وأعلن الدعوة الفاطمية في بغداد . وانهزم الخليفة العباسي وهرب ، ودخل الجوعي قصوره ينهبونها . وأدرك الثوار الخليفة وهو يهرب ومعه الملأ وكبار قومه وحوله جواريه حاسرات شعورهن ، فأخذ يرفع المصحف يستجير بالقائد العربي قريش زعيم البدو الذي تحالف مع البساسيري. ولم ير الخليفة بأسا فى أن يركع أمام القائد البدوى قريش يسترحمه بشهامة العرب ويرجوه ألا يسلمه إلي البساسيري ، ويقول له " الله الله في نفسي ، فمتي أسلمتني أهلكتني وضيعتني وما ذلك معروف في العرب " !!

( 6) وحملوا الخليفة علي جمل إلي الأنبار ، ثم إلي بلدة اسمها الحديثة ، ثم حيث أقام مسجونا مدة عام ، وفيها عرف التضرع لله تعالي ، فأرسل استغاثة لله تعالي أوصلها بدوي إلي الكعبة ، يقول فيها :
" إلي الله العظيم من عبده المسكين ، اللهم إنك العالم بالسرائر والمحيط بمكنونات السرائر ، اللهم إنك غني بعلمك وإطلاعك علي أمور خلقك عن إعلامي بما أنا فيه ... "

( 7 ) وقبل ذلك ببضعة شهور كان السلطان طغرلبك يدخل علي الخليفة في حفل الاستقبال الرسمي الذي أعده له في عظمة متناهية ، وقد ركع طغرلبك وسجد أمام الخليفة يقبل الأرض دفعات وفقا للبروتوكول العباسي في عبادة الخليفة... وكانت المآدب حافلة بما لذ وطاب من الطعام والشراب بينما يأكل الناس بعضهم بعضا من الجوع ، ومن نجا من الموت جوعا لم ينج من الوباء أو من جائع يأكل لحم البشر . ومرت الأيام وعرف الخليفة الذل والجوع ، ورأي العوام ينهبون قصره ويأخذون منه ما يتعذر حصره من الديباج والجواهر واليواقيت .

( 8 ) وكانت أم الخليفة قد هربت وقاست الجوع والفقر فاضطرها الجوع لأن تكتب للبساسيري رسالة تشرح له فيها ما لحقها من الأذى والفقر، ووصلت الرسالة إلي البساسيري في محر م 451 هـ فاستحضرها وكانت في التسعين من عمرها وأكرمها .. وقد ماتت سنة 452هـ ..

( 9 ) إن الإنسان ضعيف ، ويزداد ضعفه أكثر عندما يغتر بالدنيا ومواكبها ، ويأخذ ما ليس حقا له ، وينسي أن الله تعالي يمهل ولا يهمل ، وأنه جل وعلا للظالمين بالمرصاد ، حتي لو كانوا يرفعون لواء الإسلام ويدعون أنهم الخلفاء وأمراء المؤمنين ..

ثانيا :
آه ..يامصر ..!!
1 ـ كتبت هذا المقال فى سلسلة (قال الراوى ) الذى ظلت جريدة الأحرار تنشرها عدة أعوام ، وكان هذا المقال قد نشر عام 1993 حسبما أذكر . كتبته بنصف لسان وبنصف قلم ، فقد كان الضغط الأمنى يلاحقنى مهددا بالاعتقال ، مع ضغط الاخوان المسلمين المتحالفين مع حزب الأحرار وقتها و الذين يريدون منعى من الكتابة فى جريدة الحزب ، لولا إصرار رئيس تحريرها الاستاذ وحيد غازى بالتمسك بى حرصا على مصلحة الجريدة نفسها ومحافظة على الخط الليبرالى للحزب والجريدة . وبعدها بعدة أشهر حدث انقلاب فى الحزب والجريدة بدخول مصطفى بكرى ، فتركت الجريدة وانتفلت كاتبا فى ( العالم اليوم ).
2 ـ كنت ألاحظ بقلق تصاعد وتيرة الفساد فى مصر وتنامى العلاقة بين أعمدة النظام ومن كان يطلق عليهم القطط السمان ، وقد تحولوا من قطط فى عصر السادات الى بقرات سمان فى أوائل التسعينيات فى حكم مبارك .
استدعى هذا ظهور مقالات للوعظ تستلهم خفايا التاريخ لتحذر وتنذر بلهجة حانية ، لعل وعسى .
ولم تفلح الكتابات الحانية او الحانقة لأن الفساد أصبح العمل اليومى و الحقيقى للنظام ، وبعد أن كانت القطط السمان ثم البقرات السمان يلعبن فى الفناء الخلفى للنظام ، تحولت البقرات الى حيتان تعمل جهارا نهارا فى واجهة النظام ، وتتولى الحكم علنا تحتكر السلطة والثروة ، وتستخدم التعذيب والقهر والارهاب لاسكات الأحرار حتى تتمتع الحيتان بنهش ما تبقى من الجسد المصرى دون ان يعكّر صفوها أحد .

3 ـ الآن وبعد هذا المقال بسبعة عشر عاما أقرأ هذا المقال فى المنفى فأتحسر على زمن البؤس فى التسعينيات حين كان الموظف الشريف يستطيع تذوق اللحم مرة كل شهر ، أما الآن فعلى فرض وجود هذا الموظف الشريف على قيد الحياة دون ان ينتحر أو أن يندثر فكيف يشترى كيلو اللحم وقد تجاوز الخمسين جنيها ؟
أقرأ عن البلايين التى تنفقها القلة المترفة على استيراد المخدرات والفياجرا ولحم الطاووس و ورق العنب والآيس كريم ، كما أقرأ عن تزايد معدلات الانتحار بين الجوعى من الناس المستورة الذين هتك الجوع والحاجة و الفقر أعزّ ما كانوا يمتلكون وهو الستر والقناعة والرضا بالقليل ،فاصبح القليل صفرا معدوما ،فلم يبق لهم رصيد من الأمل يحيون به ففروا من هذه الدنيا بكرامة تاركين اياها للمتخمين المترفين .
الآن ، وقد هوت مصر الى الحضيض فى ظل هذا الرجل العجوز المريض فما الذى ينتظرها بعده ؟

4 ـ أعيد بالتذكير بما قاله الكاتب الراحل خالد محمد خالد فى جريدة الوفد من ربع قرن ،وفى أوائل حكم مبارك .
خالد محمد خالد ـ لمن لا يعرف ـ هو داعية الديمقراطية المشهور من قبل الثورة ، وهو الذى هجر الاخوان تمسكا بالديمقراطية ، وهو الذى جرؤ على مناقشة عبد الناصر علنيا فى لقاء على الهواء مناديا بالديمقراطية ، فأحرجه ، وتسبب هذا فى قطع الصلة بينهما ، وتعرض بعدها للاضطهاد فاعتزل يكتب فى صمت ، ثم عاد يكتب فى الصحف مبشرا بالديمقراطية فى عصر السادات ، ثم ظنّ الخير فى مبارك حين تولى فأخذ يكتب يدعوه للتحول الديمقراطى ليكتسب ميزة تاريخية يتفوق بها على سابقيه عبد الناصر والسادات . لم يلق إلا الاعراض. ولا نعرف أكثر من ذلك ، ولكن الذى نعرفه ولا زلت أتذكره أنه كتب مقالا أخيرا فى هذا الموضوع ينهى به حملته فى الدعوة للديمقراطية تحت عنوان:( استمتعوا بالسىء فإن الأسوا قادم ). قالها نبوءة فى أواخر الثمانينيات وتحققت بعد أن مضى الى رحمة الله جل وعلا. وعشنا الأسوأ فى التسعينيات بعد رحيله .

5 ـ ماذا يقال اليوم بعد أن تحققت نبوءة الاستاذ خالد محمد خالد بدرجة ربما لم يتوقعها خالد نفسه ؟ وماذا يخبئه الغد لو انتفضت الجثة بالثورة ثم الى حرب اهلية تصعد بالاخوان للحكم فتهبط مصر من الحضيض الى أسفل سافلين ؟
لم يعد سوى الاستعانة برب العزة جل وعلا، فهو خير حافظا وهو أرحم الراحمين ..

أخيرا
خير الكلام :
(هَذَا نَذِيرٌ مِّنَ النُّذُرِ الأُولَى أَزِفَتِ الآزِفَةُ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ)(النجم 56 ـ ).
ودائما : صدق الله العظيم.

اجمالي القراءات 14435