القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية اجتماعية

سامر إسلامبولي في السبت ٠٣ - يوليو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية اجتماعية

إن مُسلّمة صلاحية القرآن واستمراره لكل زمان ومكان عند المؤمنين به تقتضي بطبيعة الحال بشكل منطقي أن تكون بُنية القرآن بُنية مختلفة تماماً عن أية بُنى من النصوص الأخرى، ومن هذا الوجه لم يُعدّ النص القرآني نصاً تاريخياً كأي نص آخر، وهذا صواب. ولكن نفي صفة التاريخية عن النص القرآني أدى عند المسلمين خلال قرون مضت إلى أن يجمدوا دراسة هذا النص ونفي فاعليته تماماً.

وسحبوا التفاعل الأول الذي لازم النص نزولاً إلى المجتمعات اللاحقة إذ صار كل مجتمع بمثابة قناة نقلية يتم من خلالها مرور التفاعل الأول، وهكذا صارت ثقافة المسلمين ثقافة نقلية، والعلم هو حدثني فلان عن فلان ( ثرثرة تاريخية)، وكثرت المقولات التي تشيد بالتثقيف الوراثي نحو: «عليكم بالأمر العتيق» و«خذوا العلم ممن مات لأن الحي لا يُؤْمَن عليه الفتنة»... إلخ. وبهذا العمل صارت المجتمعات نسخة طبق الأصل عن المجتمع الأول الذي عاصر نزول النص الإلهي.

  فكان هذا الأمر أحد أهم أسباب تخلف المسلمين وتغيبهم عن ساحة عالم الشهادة، ودخولهم في متاهة التاريخ وتبني المواقف الأيديولوجية في ذلك الوقت وبدء الصراع من جديد من خلال سحب هذا الصراع الأيديولوجي وما نتج عنه من فقه وعقائد إلى الزمن المعاصر إذ صار المجتمع الحالي يعيش في الماضي فكراً وثقافة، أما حضوره في الزمن المعاصر فهو حضور شبحي «كأنهم خشب مسندة»!

   لذا؛ يجب أن نفرّق بين النص الإلهي وبين فهم المجتمع وتفاعله مع النص الإلهي  لأن تفاعل المجتمع مع النص وصياغة تفسير ومفهوم له يخضع لعامل التاريخ، وذلك لأن المجتمع يتعامل مع النص الإلهي حسب أدواته المعرفية فيكون فهم النص من قبل أي مجتمع خاص لهم لا يتجاوزه إلى غيره إلاّ من كونه تراثاً ثقافياً يؤخذ به بعد عملية فرزه حسب الأدوات المعرفية الجديدة، ويبقى النص الإلهي مستمراً في الوجود والعطاء الزمكاني لكل مجتمع يتفاعل معه بشكل مباشر حسب أدواته المعرفية.

ومع هذا الوجه تظهر لنا الحاجة الملحة للقراءة المعاصرة للنص الخالد حتى نحمي مجتمعنا من الاختراق الثقافي والعولمة ومن الذوبان في الثقافة الوافدة إلينا عبر وسائل التقنية التي فرضت ذاتها علينا من خلال قانون التطور والتواصل العالمي الاقتصادي والإعلامي وتابعية الضعيف للقوي.

  هذه القراءة المعاصرة للقرآن ضرورة ثقافية لتماسك المجتمع وإعادة بنائه من جديد على أسس ثقافية تسع الجميع لينهض المجتمع من سُباته الذي غرق فيه مئات السنين ليبني أساس البيت الكبير الذي هو حق للتابعين له من دون تفريق بين واحد وآخر.

   ويلزم الانتباه والحذر أن النهضة في المجتمع الحالي لا تقتضي بالضرورة قراءة التراث كله والقيام بدراسات موسوعية لمختلف العقائد والملل والنِحَل وتحليل أحداث كل مجتمع بعينه وتخضيعها إلى دراسة علمية حسب أدواتنا المعرفية. إن ذلك فخ ثقافي يجعل مفكري الأمة يغوصون في تراثهم كل حسب وجهة نظره وأدواته المعرفية فيزيدون الأمر هولاً ويسحبون إشكاليات التراث إلى الزمن المعاصر لتصير مشكلاتهم وديدنهم وينقسمون فِرَقاً متناحرة وينعكس ذلك على المجتمع، وبالتالي يعود إلى سُباته غارقاً في أحلامه التراثية ويغيب عن ساحة عالم الشهادة.

والنص القرآني نص ارتبط بالواقع من كونه محلاً لخطابه، وبالتالي أخذ صفة الواقع ذاته من حيث الثبات والتغيير، فما هو ثابت في الواقع يكون كذلك في النص، وما يكون متغيراً في الواقع يكون كذلك في النص على صعيد الآفاق والأنفس، والعلاقة بينهما علاقة اللازم بالملزوم لا ينفكان عن بعضهما بعضاً أبداً «أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا» النساء 82.فوحدة المصدر - الواقع/النص - تقتضي تطابق القول مع الفعل ضرورة(كلام الله وكلماته). ومن هذا الوجه ظهرت مقولة: ثبات المبنى والمفهوم وحركة المعنى. لأن الإنسان ليس مَلِكاً في الأرض، وليس عبداً مملوكاً. وإنما هو في مقام الخلافة، «إني جاعل في الأرض خليفة» البقرة 30،الذي يقتضي الالتزام بالحدود التي أَمرَ بها المستَخْلِف «تلك حدود الله فلا تعتدوها» البقرة 229. هذه الحدود تمثل الجانب الثابت من التشريع، وقد أعطى المُستَخْلِف للخليفة حرية التحرك ضمن هذه الحدود، ليحقق مصلحته ويواكب التطور والمستجدات ليحصل عنده التوازن النفسي والاستقرار الاجتماعي، ويعيش في سعادة نسبية على جنة الأرض من خلال عمارتها وتسخير ما فيها لنشر العدل والمحبة والسلام والأمان بين المجتمعات الإنسانية، وهذا هو الجانب المتغير من النص الإلهي.

نظرة على منهج

القراءة المعاصرة للقرآن

قد يظن بعض الباحثين أن القراءة المعاصرة للقرآن مُتسيبة لا ضوابط لها، وبالتالي فممكن أن تظهر قراءة وجودية للقرآن تنفي مصدريته الإلهية، بل تنفي الإله نفسه، وتُعَدُّ هذه القراءة رأياً لصاحبها يجب أن يُصان حسب الذين يدعون للقراءة المعاصرة! من هذا المنطلق رفضوا القراءة المعاصرة من أساسها، ومنهم من قبلها بشرط أن تُعيد تأسيس التراث وتعطيه الحياة مرة ثانية، ولست في صدد نقاش الرأيين وإنما سأكتفي بالإشارة إلى أهم الأسس التي يجب أن تقوم عليها القراءة المعاصرة للقرآن، ومن خلالها وما سبق ذكره يظهر تهافت الرأيين السابقين.

  أولا: أساس القراءة المعاصرة للقرآن ومنطلقها هو الإيمان بمصدريته الإلهية، لأن انتفاء هذه المصدرية ينفي عنه القراءة المعاصرة ويصير نصاً تاريخياً وتراثاً لمن سبق من المجتمعات غير مُلزم بقراءته.

   ثانيا: النص القرآني نزل باللسان العربي وهذا يقتضي أن نتعامل معه حسب بنية اللسان العربي وقواعده الموجودة في الخطاب ذاته.

                              أهم مفاهيم اللسان العربي

1- نشأة اللسان نشأة علمية وليست اعتباطية أو توقيفية.

2- إذا اختلف المبنى اختلف المعنى.

3- أسلوب الرمز استخدمه القرءان بشكل عربي.

4- نفي المجاز وما سُمِّي خطأً بالترادف عن اللسان العربي.

5- نظام استخدام الضمائر في القرءان يختلف عن الاستخدام الشائع بين الناس.

6- أي تغيير في بنية الجملة من زيادة أو نقصان أو تقديم أو تأخير يؤثر بالمعنى والمفهوم.

7- العطف يقتضي التغاير.

8- العلاقة بين اللسان العربي والواقع جدلية.

9- الألفاظ العربية أجسام تقوم بها المفاهيم.

10- الألفاظ العربية حقل وميدان للتفكير.

إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة باللسان العربي.

وسأضرب مثلاً على أهمية معرفة استخدام الضمائر وعدم شرطية رجوعه لأقرب مذكور قبله.

قال تعالى: {وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ }الأنفال61 -62 فالضمير في جملة (فاجنح لها) يعود لكلمة (قوة) في النص الذي سبق، لأن الضمير أتى بصيغة المؤنث،وكلمة (السَّلم) مذكر بينما كلمة (قوة) مؤنث، والمقصد هو أن أعداء الله إن ارتهبوا من قوتكم وجنحوا للسَّلم، ويكون ذلك عادة  اضطراراً، فحافظوا على قوتكم الرادعة، ولا تجنحوا للدعة والراحة فتعطوا بذلك للعدو مبرر الرجوع إلى العدوان والإرهاب، لأن اتخاذ موقف السّلم من قبل العدو مناورة وليس ثقافة.

  ثالثا: إن كتاب الله عز وجل لم تنزل مواضيعه بشكل مرتب ومتسلسل، وإنما توزعت وتداخلت ببعضها بعضاً لحكمة أرادها الله عز وجل، مما اقتضى ضرورة أن أية دراسة للقرآن لا يمكن أن تتم على شكله الحالي كما هو معهود بطريقة المفسرين التقليدين، بل لا بد من عملية ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد وإخراجها من القرآن لتشكل مع بعضها منظومة واحدة وتُرتَّب أولوياً حسب منظور علمي ومن ثم تتم دراستها.

   رابعا: استحضار الكُلِّيات في القرآن على صعيد الآفاق والأنفس ليتم فهم الأمر الجزئي ضمن منظومته من خلال الكليات والمقاصد.

   خامسا: كون النص القرآني إلهي المصدر يعني ضرورة نفي صفة الحشو واللغو والخطأ والتناقض والكذب وأية نقيصة عنه لأن ذلك يؤثر على فهمه ودراسته.

   سادسا: استبعاد الفهم السطحي السريع للنص القرآني الذي يأتي من عامة الناس وما تعارفوا عليه من دلالات لاستخدام الكلام. وإنما يجب الغوص في أعماق النص لاكتشاف أغواره ومقاصده للوصول إلى الجديد والبديع في فهم النص.

    سابعا: الآفاق والأنفس هما السكة التي يمشي عليها العقل لمعرفة ودراسة عمق النص القرآني من خلال إسقاط الدال (النص) على المدلول عليه (محل الخطاب من الواقع).

  ثامنا: إن فهم النص القرآني يتطور مع تطور الأدوات المعرفية وبالتالي يؤدي إلى اتساع أفق وأبعاد النص ضمن الجانب الثابت فيه كآفاق وأنفس.

  تاسعا: يجب الانتباه إلى مفهوم الرمزية في الاستخدام القرآني للكلمات لأن إغفال ذلك يجعل مفهوم النص باهتاً هزيلاً و مُغيّباً عن الواقع.

   وهذا مثال لتوضيح كيف يتم استخدام المفهوم الرمزي من خلال ترتيل الآيات ذات الموضوع الواحد والآيات التي استخدمت الكلمة ذاتها بعدة دلالات بجانب معرفة الوظيفة التي يمكن أن تنتقل من الشيء المذكور صراحة في النص إلى المغَيَّب ما وراء الألفاظ من مقاصد.

قال تعالى: «والشجرة الملعونة في القرآن» الإسراء 60.

النظرة السطحية للنص واستدعاء دلالة كلمة «شجرة» من عوام الناس والتأثر بالتراث نقول: إن الشجرة من النبات! ولكن إذا تعمقنا قليلاً في النص نلاحظ أن النص يذكر شجرة ملعونة في القرآن مما يعني وجود اسم هذه الشجرة وصفتها في القرآن ذاته! وإذا بحثنا في القرآن ولم نجد شجرة نباتية قد نص الخالق على لعنها نعلم عندئذ أن ليس المقصود بكلمة شجرة هو المعنى المستخدم بين عامة الناس وإنما المقصد معنى آخر لكلمة شجرة تدل عليه بدلالتها اللسانية.

   إذا لابد من استخدام الفهم العميق واستحضار النصوص الكلية من القرآن المتعلقة بالموضوع ذاته فنلاحظ أن فعل اللعن لا يمكن في الواقع أن يكون إلا لعاقل، وكون الأمر كذلك مما يؤكد ضرورة أن كلمة شجرة ليس المقصود بها في النص النبات، وإنما المقصد هو دلالتها اللسانية التي تدل على تداخل الشيء ببعضه بعضاً أو مع غيره، ومن ذلك نقول: الشجار الذي هو تخاصم الناس فيما بينهم، وسُميت الشجرة كذلك لأن أغصانها تتداخل مع بعضها بعضاً، و أطلقت كلمة شجرة على تداخلات وعلاقات العائلة أصولاً وفروعاً (شجرة العائلة).

وإذا تابعنا البحث عن الشجرة الملعونة في القرءان نجد أنها شجرة اليهود، بمعنى العلاقات الاجتماعية اليهودية، وبالتالي أي مجتمع يتشاجر مع اليهود تصيبه اللعنة ضرورة، لأن الفساد الاجتماعي عدوى.

عاشراً: ينبغي على المجتمع الإسلامي أن يُعيد تنزيل القرءان في زمنه وفق اتباع الأحسن والمناسب لمعطيات زمكانيته ويصلح به حاله.{وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ }الزمر55{الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ }الزمر18

 

 

اجمالي القراءات 27835