حكاية البحث العلمي

كمال غبريال في الجمعة ٢١ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

لا يمل الحكام والصفوة في مصر، من الحديث عن أهمية تطوير البحث العلمي ، بحيث صار الموضوع لازمة من لوازم أي خطاب وطني، أشبه بترديد ثوابت العروبة، وتحرير القدس والمسجد الأقصى، وحق العودة للاجئين الفلسطينيين في كل خطاب عروبجي حنجوري. .

 تناولنا للأمر بالفعل متطابق في الحالتين أو الخطابين. . فنحن نردد ونؤكد على ضرورة وحتمية ما نردده، دون أن نتأمل الواقع، إن كان يحتمل ما نطلب أم لا يطيقه. .
 ثم أننا بعد أن نردد هذا ننصرف إلى حال &Oacut; سبيلنا، وننسى تماماً ما قلناه، حتى تأتي مناسبة أو احتفالية أخرى، نعيد فيها ما اعتدنا ترديده، ولا يخطر ببالنا بحث معوقات ومحفزات ما نهدف إليه، ناهيك عن وضع برامج تنفيذية نحقق بها أهدافنا وثوابتنا المقدسة!!

يبدو أمر البحث العملي أيضاً، قريب الشبه بقضية الدور الريادي لـ"مصر"، ذلك الدور الذي نحلم به ونرجوه لذاته، دون أن يكون في مخيلتنا أية فوائد عملية له، اللهم إلا فائدة الإنتفاخ بالفخر، الذي هو موروث ثقافي عربي بإمتياز. .

 فبالتأكيد من يؤكدون على المنابر أهمية قيام الدولة المصرية بإختراع، أو استخراع بحوث علمية، لم يطلعوا بداية على احتياجات مختلف المجالات العملية المصرية لبحوث علمية صناعة محلية، كما لم يتفكروا إن كانت الدول في هذا العصر هي التي تقوم بالبحوث، كما تدير دولتنا جمعيات استهلاكية لبيع المواد التموينية، والملابس، والروائح العطرية، أم أن البحوث تقوم بها معاهد وشركات خاصة، مدفوعة بأهداف ومنافع إقتصادية، وأن أقصى ما تساهم به الحكومات في هذا المجال هو محفزات ضريبية بخصوص ما يُنفق على البحث العلمي من أموال. . ما لم يكن لدينا أموال ننفقها على أبحاث غزو الفضاء مثلاً مثل وكالة ناسا الأمريكية، فحتى هذه تعتمد في جزء كبير من نشاطها على الشركات الأمريكية العملاقة وباحثيها، لتزويدها بما تشاء من معدات وتجهيزات.

لم يعد البحث العلمي في عصرنا عملاً مستقلاً قائماً بذاته، يقوم به عباقرة حباً في العلم، بل هو الآن سلعة لن ينتجها أحد إلا بناء على طلب سوقي، وبالتالي إلى أن يتهيأ السوق المصري ومؤسساته لطلب البحث العلمي، بالإنتاج الكبير، والإنفتاح على السوق العالمي تصديرًا واستيراداً، لابد أن نعتمد كما هو حادث الآن على الإستيراد، فنحن نستورد التكنولوجيا بالأبحاث العلمية التي أنجبتها، لأننا غير مؤهلين بعد للتحول إلى إنتاج البحوث العلمية، فبيننا وبين ذلك عدة مراحل.

نحن لم نستوعب بعد التكنولوجيا العالمية المتقدمة، سواء من حيث التوسع الأفقي، أي الإنتشار الواسع لأحدث ما أنجبته التكنولوجيا العالمية في سائر أنشطة حياتنا، أو من حيث التوسع الرأسي، أو العميق، من حيث إجادة استخدام وتوظيف تلك التكنولوجيا، ثم الإنتقال إلى مرحلة صيانة هذه الأجهزة وإصلاحها، دون اعتماد على استقدام خبراء من الخارج، كما يحدث الآن في أغلب مصانعنا ومؤسساتنا، وهو وضع يشي بعجز مخجل بحق. . لننتقل بعد ذلك إلى مرحلة محاكاة أو تقليد التكنولوجيا الغربية، كما فعلت دول شرق آسيا، لتكوين قاعدة من المهندسين والفنيين، على مستوى خبرة ومعرفه يناظر يناظر مثيلاتها في الدول المصدرة لتلك التكنولوجيا، بعدها نكون قد أشرفنا على التقدم لما هو أبعد.

إن لبحوث العلمية لن يقوم بها موظفون حكوميون معينون بدرجة باحث أو عالم، فهؤلاء بإمكانياتهم الشخصية والعلمية، وبأوضاعهم الإقتصادية، لن ينتجوا لنا إلا ما نشهد منهم الآن، ولا نحب توصيفه لدواعي التزام الإحترام!!. 
المهم هو أن الباحثين والعلماء المؤهلين بحق للبحث العلمي، لا يمكن الحصول عليهم من بين قاعدة جماهيرية مستواها التعليمي بالحالة التي هي عليها الأمر في مصر الآن، وعبر نظام تعليم مثل نظامنا الحالي، والذي فشلنا خلال العقود الأخيرة في تطويره، والتقدم به ولو خطوات قليلة. .
إنه لمن العبث - دون إصلاح نظام التعليم بداية من التعليم الإبتدائي- أن نأمل في أن يكون لدينا في النهاية من هو قادر على البحث العلمي. .

فهل يخرج علماء حقيقيون من نظام تعليمي يقوم على التلقين، وعلى حفظ الأسئلة النموذجية وأجوبتها، لكي يتم في الإمتحان طبعها نسخة طبق الأصل على ورق الإجابة، حتى تأتي النتيجة 100%؟!!

حين نتحدث عن البحث العلمي ومؤهلاته، فلابد وأننا نعني القدرة على الإبتكار، والإبتكار يلزمه عقل حر، فهل لدينا في مصر عقول حرة؟. .

والحرية لا تتجزأ، فلا يمكن إباحة الحرية في البحث العلمي، مع بقاء القيود والسدود في وجه الحرية السياسية والدينية، بل وحتى الحرية الإجتماعية والإنسانية بكل فروعها وتفرعاتها. . الحرية الجزئية هي عبودية كاملة، والفرد الذي لم يتعلم التفكير العلمي في حياته الخاصة، لا يمكن أن يتقن التفكير العلمي في المعمل. . والعقلية الغيبية التي تعتقد في الخرافات والخزعبلات، والتي لم تتعود وتتمرس على النقد في كل ما تسمع وتقرأ، لا يمكن بأي حال أن تكون عقلية قادرة على إنتاج العلم.

كما أن المجتمع المحكوم بقبضة بوليسية، لا يمكن أن يخرج منه أدباء أو فنانون أو علماء، وهذا ما حدث بالفعل في الإتحاد السوفيتي السابق، وأوروبا الشرقية، حيث أجدبت العقول والأرواح، وأجدبت معها الحياة، إلى أن سقطت قلاع العبودية والطغيان.

المجتمعات التي تسير صاغرة خلف ما يقوله رجال الدين، فيرجعونها إلى تعاطي بول البعير، والتداوي بزيوت الأيقونات، لا يمكن بأي حال أن تنجب من هم قادرون على البحث العلمي، وعبثًا حث الدولة على رصد ميزانيات للبحث العلمي، فكل هذا سيذهب هباء، على شكل مرتبات لموظفين غير منتجين، وعلى شكل بدلات سفر، وإنفاق على أجهزة تستورد ثم تترك في صناديقها، أو تتعطل بعد حين فتلقى في سراديب المخازن، أو يقتصر إنتاجها على الفساد الإداري والمالي، كما رأينا من "مدينة مبارك للأبحاث العلمية"، التي لم تقدم طوال أربع سنوات هو عمرها براءة اختراع واحدة، واقتصر إنتاجها على اتهامات الفساد المخجلة لرئيسها، الذي لم يجد دفاعاً عن نفسه غير اتهامات للوزير بالعمالة لإسرائيل، ذلك الجني الذي يؤرقنا أينما نذهب!!

ليس المقصود بهذه السطور التعجيز والتثبيط عن التقدم، للحاق بالعالم الذي سبقنا بفراسخ، لكنها دعوة للتدبر، لندرك الخطوات التي علينا أن نخطوها، فلا نتعثر ونحن نحاول عبثاً القفز فوق ما نجهل!!

اجمالي القراءات 9172