هل مات أبو طالب كافرا كما يزعم أرباب الدين السّنى ؟

آحمد صبحي منصور في الإثنين ١٧ - مايو - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
1 ـ من السيرة البشرية المكتوبة للنبى محمد عليه السلام نعرف أربعة من أعمامه : حمزة و العباس وأباطالب وأبالهب . نعرف بلاء حمزة وشجاعته قبل وبعد الهجرة و فى غزوة بدر ومقتله فى (أحد ). ونعرف أن العباس ظل فى مكة على دين قومه متمسكا بوظيفة بنى هاشم فى سقاية الحاج ، وأنه كان صديقا لأبى سفيان زعيم كفار قريش فى تلك الفترة ، وأنه حارب مع المشركين فى بدر ، وأنه سقط أسيرا ، وافتدى نفسه ورجع الى مكة وظل بها الى أن كان آخر من أسلم مع أبى سفيان قبيل فتح مكة. ونعرف أن أبا لهب كان أشدهم عداءا للنبى محمد الى درجة أنه مات من الحسرة بعد ان عرف هزيمة قومه فى بدر .
كل ما ذكرته السيرة عن أولئك العمام يتسق مع بعضه ، ويخلو من التناقض ، ويبعث على الارتياح (التاريخى ) لدى الباحث التاريخى .
ولكن الباحث التاريخى يشعر بالأرق حين يرى تناقضا فى السيرة فيما يخص أباطالب .
نحن نعرف أن أبا طالب هو الذى كفل ابن أخيه اليتيم محمدا بن عبد الله ، وظل يرعاه ، وأن ابن أخيه محمد وقف الى جانب عمه أبى طالب حين تكاثر أولاده و ضاق به الحال فأضاف اليه ابن عمه عليا بن أبى طالب ورباه فى بيته ليرد جميل عمه ، وأن أبا طالب وقف الى جانب ابن أخيه محمد بعد أن صار نبيا مرسلا ، ودافع عنه بكل ما يستطيع برغم شيخوخته ، ورفض كل العروض من قريش بالتخلى عن ابن أخيه ، بل وتحمل مع ابن أخيه الحصار والجوع فى شعاب مكة. وأن أبناء أبى طالب قد أسلموا و ليس فقط ابن عمه على .
قد يقال أنه وقف الى جانب ابن أخيه بسبب القرابة و التعصب الهاشمى . ولكن هذا خطأ محض .
هذه الرابطة القوية التى جمعت أبا طالب بابن أخيه والتى صمدت امام أشد المحن لا يمكن أن يكون باعثها هو مجرد القرابة فى النسب لأن الاسلام وضع الانتماء القبلى فى قريش فى وضع بالغ الصعوبة ، وأثبت أن الانتماء الدينى أقوى من العصبية للقرابة . فهناك من الأمويين من أسلم وتحمل الاضطهاد ، مثل عثمان بن عفان . أبو سفيان أسلمت ابنته ( رملة الكبرى ) أم حبيبة وهاجرت وبعد موت زوجها تزوجها النبى محمد عليه السلام ، هذا بينما نجد حنظلة بن أبى سفيان يموت قتيلا كافرا يوم بدر ، ثم يكون يزيد ومعاوية من مسلمة الفتح .وهناك من الهاشميين من أصبح رأسا فى الكفر ضد ابن أخيه النبى محمد مثل ابى لهب ، بينما نجد الشاب حمزة يهب نفسه للاسلام فى تناقض تام مع أخيه الأكبر أبى لهب ، ثم نجد العباس يتوسط باحثا عن مصلحته بين هذا وذاك . ويستقيم مواقف أولئك جميعا مع اختياراتهم الدينية ، ولكن يثور القلق العلمى فى موقف ابى طالب .
تتناقض الروايات عن أبى طالب . تجعله الى جانب النبى محمدا هو وأولاده طيلة حياته ، ثم ينتهى بها الحال لتؤكد على موته كافرا رافضا أن يشهد بلا اله إلا الله وهو على فراش الاحتضار .رفضه الايمان بلا اله إلا الله برغم الحاح ابن أخيه يجعله كافرا عريقا وخصما عنيدا لابن أخيه ، وهذا يتناقض مع كل تضحيات أبى طالب السابقة . هناك خطأ ما فى تلك الروايات . ونحن هنا لنتعامل مع هذا الخطأ .
2 ـ يتحول الخطأ الى خطيئة ويتحول الكذب الى جريمة حين يصل الاجرام الى التعامل مع القرآن الكريم ، اى حين تتدخل الروايات التاريخية فى تحريف معانى الآيات لكى تؤكد على أن أبا طالب صمم على الموت كافرا برغم توسلات ابن اخيه محمد عليه السلام .
ثم تتحول الخطيئة والجريمة الى فضيحة مرفوعة الرأس والذيل عندما تظل تلك الأكاذيب جزءا من الدين السّنى تتمتع باعتقاد الناس ، فكل السنيين السلفيين يؤمنون بأن أبا طالب مات كافرا مصمما على الكفر رافضا أن ( يشفع له النبى محمد ).!
تعالوا بنا نستعرض هذا الافك السّنى ونناقشه .

ثانيا :
1 ـ جاء فى سيرة ابن هشام : ( 2 : 417 ): ( رجاء الرسول إسلام أبي طالب ، و حديث ذلك :
فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ والله يا ابن أخي ، ما رأيتك سألتهم شططا ؛ قال ‏‏:‏‏ فلما قالها أبو طالب طمع رسول الله صلى الله عليه وسلم في إسلامه ، فجعل يقول له ‏‏:‏‏ أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ‏‏.‏‏ قال ‏‏:‏‏ فلما رأى حرص رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه ، قال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي ، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ، لا أقولها إلا لأسرك بها ‏‏.‏‏
قال ‏‏:‏‏ فلما تقارب من أبي طالب الموت قال ‏‏:‏‏ نظر العباس إليه يحرك شفتيه ، قال ‏‏:‏‏ فأصغى إليه بأذنه ، قال ‏‏:‏‏ فقال ‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، والله لقد قال أخي الكلمة التي أمرته أن يقولها ، قال ‏‏:‏‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏‏:‏‏ لم أسمع ‏‏.‏‏ )
الرواية هنا على قسمين بينهما فاصل زمنى ، الأول فى وقت النزاع بين النبى محمد وكفار قريش وفى حضور ابى طالب وزعامته،والثانى حين كان أبو طالب على فراش الموت . ومع وجود الفاصل الزمنى إلا أن الراوى الكاذب يزعم أن أباطالب رفض فى القسم الأول ان يشهد بالاسلام قائلا (‏‏:‏‏ يا ابن أخي ، والله لولا مخافة السبة عليك وعلي بني أبيك من بعدي، وأن تظن قريش أني إنما قلتها جزعا من الموت لقلتها ). هذا مع أنه فى وقتها كان فى كامل صحته وحيويته وليس عند الاحتضار .
ثم أين هو العار الذى يمكن أن يلحق أبا طالب وبنيه من بعده حين يجزع من الموت ؟ ليس فى أدبيات العرب الجاهليين الشعور بالخجل والعار عند الاحتضار ، ربما يكون العار عند الفرار فى الحرب أو خوف القتل ، ولكن ليس مطلقا عند الاحتضار .
ثم كيف يشعر أبناء أبى طالب بالعار لأن أباهم نطق بالاسلام عند موته ـ وهم مسلمون وقفوا مع ابن عمهم ومع أبيهم يدافعون عنه وعن دينه الاسلام ؟
ثم من هى قريش التى يتحسب لها أبو طالب أن تقول عنه هذا وذاك ؟ ربما يتحسب لرأى قريش شخص آخر يعبد ما توارثته قريش مثل العباس أو أبى لهب ، ولكنه لا يمكن أن يكون أبو طالب الذى وقف صامدا ضد قريش مؤيدا لابن أخيه وهو يدمر بالحجة و المنطق تراث قريش وأحلامها . ثم تلك الأكذوبة الكبرى : ( الشفاعة ).!
هناك أكثر من 150 أية قرآنية تنفى شفاعة البشر ومنها ما يؤكد للنبى محمد عليه السلام أنه ليس له من الأمر شىء وأن من حكم الله جل وعلا عليه يوم القيامة بالدخول فى النار فلن يستطيع محمد أو غيره إخراجه منها ..ومعظم هذه الايات مكية أى نزلت فى حياة أبى طالب ، ومنها آيات تجعل التشفع بالبشر من سمات الشرك الذى كان ( ولا يزال ) ساريا . هل بعد هذا نصدق أن خاتم المرسلين قال لعمه ‏‏:‏‏ ( أي عم ، فأنت فقلها أستحل لك بها الشفاعة يوم القيامة ‏‏).
ونكتفى بهذا ولا نريد التوسع فى نقد الاسناد فى تلك الرواية الساقطة لأن ابن هشام صاحب السيرة قد أوجزها من سيرة ابن اسحاق ، وابن اسحاق كتب السيرة من ( دماغه ) زاعما أنه سمع من فلان وفلان كذبا وبهتانا .. وموعدنا معه فى بحث مستقل .

2 ـ وبعد السيرة نأتى للحديث و ( السّنة ) .
ويقوم الدين السّنى على دعامتين :
الأولى إفتراء حديث ونسبته للنبى على زعم أنه وحى ، وجزء من الاسلام .
الثانية : التلاعب بالآيات القرآنية الخاصة بالموضوع ، بتأليف روايات تؤول وتحرف معانى الايات أو تبطل المعنى بزعم النسخ التراثى . وهذا يتجلى فيما يعرف بأسباب النزول و التفسير .
ونبدأ بافتراء الأحاديث فيما يخص موضوعنا عن تكفيرهم لأبى طالب :
2 / 1 : جاء فى (صحيح ) مسلم حديثان رواهما الاستاذ أبو هريرة . أحدهما ، قال رسول الله لعمه أبوطالب : قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامه . قال : لولا أن تعيرنى قريش . يقولون : إنما حمله على ذلك . لأقررت بها عينك .فأنزل الله تعالى ( إنك لا تهدى من أحببت ولكن الله يهدى من يشاء ). والآخر قال رسول الله لعمه عند الموت : قل لا إله إلا الله أشهد لك بها يوم القيامة ، فأبى ، قال فأنزل تعالى الأية ..
معلوم أن الاستاذ أبا هريرة وقت موت أبى طالب كان كافرا يعيش مع قومه من قبيلة دوس ، وظل هكذا الى أن أسلم بعد موقعة خيبر التى كانت فى سنة 7 من الهجرة ، اى هناك فارق زمنى قدره عشر سنوات بين موت أبى طالب واسلام أبى هريرة .
أى هى رواية ساقطة بكل المقاييس ، ولكن يؤمن بها السنيون السلفيون دون عقل أو علم أو هدى أو كتاب منير . إن العادة أن الاستاذ أبا هريرة كان يحشر أنفه فى كل شىء ويروى عن كل شىء ، فطبقا لأكاذيبه فإن خليله ( خاتم النبيين ) قد استودعه جرابين مملوئين أحاديث ، أفشى وأذاع ما فى الجراب الأول ، أما ما فى الجراب الثانى فلو أذاعه لقطع منه البلعوم .. وفيما بين جراب أبى هريرة و بلعوم أبى هريرة يرتكس السنيون السلفيون .. ولا يزالون ..

2 / 2 : عن تلاعبهم بآيات القرآن الكريم وتحريفهم معانيه ، فقد إنصبّ جهدهم على قوله جل وعلا (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )( التوبة 113 )، فألّفوا الحكايات وصنعوا الروايات وتناقلوها صاغرا عن صاغر عبر عنعنات مزورة وإسناد باطل لكى يؤكدوا أن أبا طالب مات كافرا .
ونأخذ بعض الأمثلة :
• جاء فى (أسباب النزول للنيسابورى ) : ( قوله تعالى : ( ‏ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آَمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ‏ ) : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الشيرازي أخبرنا محمد بن عبد الرحمن بن حميرويه الهروي أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الخزاعي حدثنا أبو اليمان قال‏:‏ أخبرني شعيب عن الزهري عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال‏:‏ لما حضر أبا طالب الوفاة دخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية فقال‏:‏ أي عم قل معي لا إله إلا الله أحاج لك بها عند الله فقال أبو جهل وابن أبي أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب فلم يزالا يكلمانه حتى قال آخر شيء كلمهم به على ملة عبد المطلب فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لأستغفرن لك ما لم أنه عنه . فنزلت ‏: ( ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذينَ آَمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولِى قُربى مِن بَعدِ ما تَبَيَّنَ لَهُم أَنَّهُم أَصحابُ الجَحيمِ‏}‏ رواه البخاري عن إسحاق بن إبراهيم عن عبد الرزاق عن معمر عن الزهري‏.‏ورواه مسلم عن حرملة عن ابن وهب عن يونس كلاهما عن الزهري‏.‏
• أخبرنا أبو سعيد بن أبي عمرو النيسابوري أخبرنا الحسن بن علي بن مؤمل أخبرنا عمرو بن عبد الله البصري أخبرنا موسى بن عبيدة قال‏:‏ أخبرنا محمد بن كعب القرظي حدثنا محمد بن عبد الوهاب أخبرنا جعفر بن عون قال‏:‏ بلغني أنه لما اشتكى أبو طالب شكواه التي قبض فيها قالت له قريش‏:‏ يا أبا طالب أرسل إلى ابن أخيك فيرسل إليك من هذه الجنة التي ذكرها تكون لك شفاء فخرج الرسول حتى وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر جالساً معه فقال‏:‏ يا محمد إن عمك يقول إني كبير ضعيف سقيم فأرسل إلي من جنتك هذه التي تذكر من طعامها وشرابها شيئاً يكون لي فيه شفاء فقال أبو بكر إن الله حرمها على الكافرين فرجع إليهم الرسول فقال‏:‏ بلغت محمداً الذي أرسلتموني به فلم يحر إلى شيئاً‏.‏
• وقال أبو بكر‏:‏ إن الله حرمها على الكافرين فحملوا أنفسهم عليه حتى أرسل رسولاً من عنده فوجد الرسول في مجلسه فقال له مثل ذلك فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ إن الله حرم على الكافرين طعامها وشرابها ثم قام في إثر الرسول حتى دخل معه بيت أبي طالب فوجده مملوءاً رجالاً فقال‏:‏ خلوا بيني وبين عمي فقالوا‏:‏ ما نحن بفاعلين ما أنت أحق به منا إن كانت لك قرابة فلنا قرابة مثل قرابتك فجلس إليه فقال‏:‏ يا عم جزيت عني خيراً يا عم أعني على نفسك بكلمة واحدة أشفع لك بها عند الله يوم القيامة قال‏:‏ وما هي يا ابن أخي قال‏:‏ قل لا إله إلا الله وحده لا شريك له فقال‏:‏ إنك لي ناصح والله لولا أن تعير بها فيقال‏:‏ جزع عمك من الموت لأقررت بها عينك قال‏:‏ فصاح القوم‏:‏ يا أبا طالب أنت رأس الحنيفية ملة الأشياخ فقال‏:‏ لا تحدث نساء قريش أن عمك جزع عند الموت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا أزال أستغفر لك ربي حتى يردني فاستغفر له بعد ما مات ، فقال المسلمون ما يمنعنا أن نستغفر لآبائنا ولذوي قراباتنا قد استغفر إبراهيم لأبيه وهذا محمد صلى الله عليه وسلم يستغفر لعمه فاستغفروا للمشركين حتى نزل ‏{‏ما كانَ لِلنَّبيِّ وَالَّذينَ آَمَنوا أَن يَستَغفِروا لِلمُشرِكينَ وَلَو كانوا أُولِى قُربى‏}‏‏.‏ ا ه )
• القرطبى :
• الآية رقم ‏(‏ 113 ‏)‏ : ‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏. روى مسلم عن سعيد بن المسيب عن أبيه قال‏:‏ لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد عنده أبا جهل وعبدالله بن أبي أمية بن المغيرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أشهد لك بها عند الله‏)‏ فقال أبو جهل وعبدالله بن أمية‏:‏ يا أبا طالب أترغب عن ملة عبدالمطلب‏.‏ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعيد له تلك المقالة حتى قال أبو طالب آخر ما كلمهم‏:‏ هو على ملة عبدالمطلب وأبى أن يقول لا إله إلا الله‏.‏ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أما والله لأستغفرن لك ما لم أُنْهَ عنك‏)‏ فأنزل الله عز وجل‏{‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم‏}‏ وأنزل الله في أبي طالب فقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم‏{‏إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء وهو أعلم بالمهتدين‏}‏القصص‏:‏ 56‏]‏‏.‏ فالآية على هذا ناسخة لاستغفار النبي صلى الله عليه سلم لعمه فإنه استغفر له بعد موته على ما روي في غير الصحيح‏.‏ وقال الحسين بن الفضل‏:‏ وهذا بعيد لأن السورة من آخر ما نزل من القرآن ومات أبو طالب في عنفوان الإسلام والنبي صلى الله عليه وسلم بمكة‏.‏
• تفسير الكشاف للزمخشرى : ( ‏ما كان للنبي والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ولو كانوا أولي قربى من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم ‏{‏‏.‏ قيل‏:‏ قال صلى الله عليه وسلم لعمه أبي طالب‏:‏ ‏{‏أنت أعظم الناس علي حقاً وأحسنهم عندي يداً فقل كلمة تجب لك بها شفاعتي ‏{‏فأبى فقال‏:‏ لا أزال أستغفر لك ما لم أنه عنه ‏{‏فنزلت‏.‏ ).

ثالثا :
1 ـ ومن السهل الرد على فحوى تلك الروايات بالنسق العام للأحداث نفسها طبقا لما جاء بالسيرة . لقد ظل أبو طالب يتحدى قريش للنهاية رافضا الترغيب والترهيب ، وفى أواخر حياته تحمل أبو طالب مع ابن أخيه عليه السلام قسوة الحصار و الجوع ، وانتهى الحصار ومات أبو طالب بعده مباشرة متأثرا به . هذا التدفق للأحداث وتتابعها وترتب بعضها على بعض يأتى منطقيا فى أن يظل أبو طالب الى آخر لحظة فى حياته مؤمنا بما كان يؤمن به محمد متمسكا بما كان يتمسك به محمد وكارها لما كان يكرهه محمد ، ومواليا لما كان يواليه محمد ومعاديا لما كان يعاديه محمد . ليس منطقيا أن يعانى أبو طالب فى شيخوخته الجوع و ويأكل أوراق الشجر بسبب تعنت قريش وفجورها ثم يحابى دين قريش رافضا رجاء ابن أخيه حسبما يقولون .

2 ـ ثم ..من هو قريب النبى الذى قيل عنه (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ )؟
المعنى العام للآية الكريمة أنه لا يجوز ولا ينبغى للنبى و للمؤمنين أن يستغفروا ويطلبوا الرحمة و الغفران للمشركين الذين يعرفونهم حتى لو كانوا أقارب لهم ن من بعد ما تبين لهم أنهم أصحاب الجحيم . الشرح للآية هو ترديد لها تقريبا . وهذا هو القدر الميسّر للذكر و المتاح لكل من اراد فهم الاية ببساطة .
وهناك درجات أعلى فى التدبر يكون فيها التعمق فى الفهم بالتعامل مع السياق القرآنى المباشر هنا بالتعامل مع الآيات كلها ، وهى تقول :(مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ) ( التوبة 113 : 115). ثم بالتعامل مع السياق العام وغير المباشر ، كقوله جل وعلا : ( قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ) ( الممتحنة 4 :6 )
هذا بالاضافة الى التعامل مع السياق المباشر والعام غير المباشر فى مصطلحات ( المشركين ) ( ذوى القربى ) ( تبين ) ( أصحاب الجحيم ).
منهجنا فى هذا المقال البحثى القصير أن ننفذ سريعا للاجابة على السؤال العنوان (هل مات أبو طالب كافرا كما يزعم أرباب الدين السّنى ؟) .
وبنقد الروايات فى المتن وبعض السند تبين لنا أنها كاذبة حين تزعم أن أبا طالب صمم على الكفر ورفض الاعتراف بالاسلام عند الاحتضار .
ويتبقى لنا أن نتعرف ـ باختصار ـ على من هو قريب النبى المنهى عن الاستغفار له .
فى سلسلة لنا لم تنته ناقشنا فيها مفهوم الكفر والشرك السلوكى والعقيدى ، و المشرك والكافر هنا هو بالسلوك العدوانى والعقيدى أيضا ، بحيث يظل معاديا للنبى محاربا له دون هوادة الى أن يموت دون توبة . أى إن الفيصل فى الاية هى قوله جل وعلا (مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) ، أى من بعد ما تبين ووضح من سلوكه الظاهر العلنى عداءه للاسلام وللنبى محمد عليه السلام ، وأنهم شهود على هذا العداء ، وأنهم شهود على استمراره دون توبة من الكافر المعتدى الظالم الفاجر ، أى ظل بهذا حتى مات . وبعد أن تبين لهم حاله وبعد أن عانوا من إعتداءاته وفجوره واسرافه و بغيه وظلمه لا يصح لهم الاستغفار له . بهذا المقياس يكون لدى المؤمنين فى عهد النبوة صنفان فقط ممن يتبين لهم أنهم أصحاب الجحيم :
1 ـ الصنف الأول : هو وصف عام ينطبق على أناس كثيرين ممن عاش محاربا للاسلام ومات على ذلك ، وهم كانوا يعرفون أولئك الناس بالتعامل المباشر ، وبالتالى ممنوع الاستغفار لهم مهما بلغت قرابتهم .
2 ـ الصنف الثانى : وهو يتركز فى شخص وحيد مذكور بالاسم ، ومعه زوجته ، وهو أبو لهب عم النبى : ( تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ ).
أبو لهب هو عم النبى الذى تأكد وتبين أنه عدو لله جل وعلا ، وأنه من أصحاب الجحيم وفقا لما جاء فى سورة تذكر اسمه .
وبالتالى فأبو لهب وزوجه هم من أوائل المقصودين بقوله جل وعلا : ( مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ ) .
وبالتالى أيضا فإن الاية الكريمة لا علاقة لها بأبى طالب حسبما نعرفه من السيرة النبوية البشرية .

أخر السطر :
السيرة البشرية المكتوبة منها الصحيح ومنها الزائف شأن أى كتابة تاريخية . ووظيفة الباحث أن يجلى الحقائق ما استطاع الى ذلك سبيلا.
والذى نراه أن الصراع بين السّنة و الشيعة ألقى بظلاله على شخصية أبى طالب فحاول السنيون تشويه سيرته ظلما وعدوانا بأن جعلوه يموت كافرا ..
والمضحك أن المقابل لأبى طالب وهو أبو سفيان جعلوه يموت مؤمنا ومجاهدا قد حضر موقعة اليرموك بزعمهم .
فهل يمكن لشيخ فى أرذل العمر يقترب من التسعين أن يشارك فى حرب طاحنة مثل اليرموك ؟ .

اجمالي القراءات 73490