لو لم أكن الحر الفقير كمال غبريال، الذي لايمتلك فعلياً غير لابتوب تعيس بمرافقتي، فلا تشهد شاشته أفلام ثقافية، أو حتى فيديوهات جميلة أو طريفة، وإنما فقط أخبار وتحليلات ومقالات تبعث على الاكتئاب، وتفضي في الحقيقة إلى لاشيء ممتد حتى نهاية عمر قارب على النفاد.. لو لم أكن هذا الشخص التعيس بعقله الذي لا يكل ولا يمل من طحن الخواء، وكنت شخصاً آخر ولد في يوم سعد، لأصل مرحلة النضج والرجولة، فأجد أبي قد أعد لي وطناً كاملاً لأرثه، بما فيه من حجر وشجر وبشر.. ل&szte;كني وجدتني وميراثي الرائع هذا مهددين معاً، والمخاطر المهلكة تحوطنا من كل جانب، فماذا كنت سأفعل؟
هو افتراض مستحيل بالطبع، ليس من وجه واحد، وإنما من عدة وجوه، ترجع جميعها لأبي، الذي كان من المفترض أن يعد ميراثاً قيماً كهذا لابنه.. أولها أنه مصري، والسلطة في مصر غير متاحة لعامة الناس، الذين ينحصر دورهم في الكد والكدح، لكي يتحصلوا بالكاد على ما يقيم أودهم، وقد ينعمون بالكاد بما نسميه في مصر "الستر"، وهو متوفر لحسن الحظ في حالة أسرتي الكريمة.. ثانيها أن والدي كان معفياً في شبابه من التجنيد لكونه عائل أسرته، فلم يلتحق بالعسكرية من أبوابها الأمامية أو الخلفية، ولم يمسك في يده يوماً ببندقية، أو حتى بمطواة "قرن غزال"، فمن أين له القدرة على تدبير انقلاب يتيح له اختطاف وطن، يتوارثه مع زملائه الأحرار، حتى يصل في النهاية إلي وأنا مسترخي على فراشي الوثير؟!.. ثالثة الأثافي أن أبي "نصراني"، في دولة تسودها ثقافة يقولون أنها "ثقافة إسلامية"، وهي تضع أبي وكل من مثله في خانة "أهل الذمة"، الذين عليهم أن يُقَبِّلوا أياديهم ظهراً ووجهاً ليل نهار، أنهم مازالوا موجودين وأحياء يرزقون، بشرط أن يلزموا أضيق الطريق، أو بالبلدي "يتلهوا على عينهم، ويعيشوا ساكتين حامدين شاكرين"، وألا يخطر ببالهم هلاوس، تصور لهم أنهم يمكن أن يصلوا إلى مناصب الولاية العامة عموماً، ورئاسة الجمهورية الملكية المصرية خصوصاً!!
المهم، ما علينا من مدى معقولية افتراضي أو حلمي بوراثة جمهورية مصر (العربية)، ولأمارس نوعاً من الرياضة العقلية، بتصور نفسي أواجه مع ميراثي الثمين هذا عدة مخاطر، قد تجعل مستقبلي أنا وما ورثت في مهب الريح، وهي المخاطر الحالة بالفعل، وتقض مضجع والدي، قبل أن يتمكن من تسليمي مفاتيح الخزانة ووصية التوريث:
يتكاثر شعبي بمعدل يفوق تكاثر الأرانب، ويعيش في شريط ضيق يختنق به، ويكاد لا ينتج ما يكفي الأفواه الفاغرة والبطون المتسعة.. يعتنق شعبي ثقافة عتيقة أكل عليها الزمان ولم يشرب، فتوقفت في حلقه، تكاد تمنعه من التنفس إلى حد طلوع الروح، وتسود فيه السذاجة بمختلف صنوفها، فيقفز فوق ظهره النصابون والفاسدون من كل نوع: حواة ومشعوذون ودجالون، وساسة ومثقفون أفاقون، يتفننون في دغدغة مشاعره البدائية، ورجال يقنعونه بأنهم مفوضون من قبل الإله، للتحكم في عبيده على الأرض.. بالإجمال شعبي في حالة يرثى لها مادياً وثقافياً واجتماعياً.
يساندني ما يعرف بحزب حاكم، هو خليط عجيب من الشرفاء والفاسدين، العلماء والنصابين وتجار المخدرات والمرتزقة، بجانب كفاءات بيروقراطية وتكنوقراطية، منخرطون طبيعياً في جسد الدولة المصرية العريقة.. الحزب هكذا غير قادر على الذهاب ببلادي إلى أي مكان تحت الشمس أو فوقها.. وأنا شاب أو رجل مصري وطني، لا أقل حرصاً على وطني ومستقبله، عن أي إنسان مصري مخلص ومستنير، بل وربما تفوق حرصي على وطني على حرص الجميع، لأنه ميراثي الذي ورثته عن أبي، وأريد أن أنمي هذا الميراث، لا أن أذهب به إلى الجحيم!!
تتربص بوطني وشعبي وبوراثتي لعرشي جماعة محظورة، تدربت على العمل والمؤامرات السرية، وتخلب لب الناس في العلن، بشعاراتها الدينية، التي لا تخدع البسطاء فقط وهم كُثَر، بل وينساق خلفها كثيرون ممن يحملون شهادات ليس لهم منها غير الورقة الصفراء المسماة "شهادة بكالوريوس أو دكتوراه".. هؤلاء تسللوا بليل أو بنهار إلى جميع مفاصل دولتي، فصرت لا أتبين حقيقة من هم معي ومن هم علي.. هم أقوى من أن أستطيع القضاء عليهم، وأخطر على مستقبلي ومستقبل بلادي، من أن أتيح لهم المجال، فيستخدوا آليات الديموقراطية التي يجبرنا العصر عليها، ليذهبوا ببلادي إلى نفق مظلم ومسدود.
من يسمون أنفسهم معارضة، هذه الحناجر النابحة المستمتعة بنباحها، ولا يلتفت الشعب إليها، ولا ينظر لها بجدية.. كنا قد تأقلمنا معها، أو بالأحرى اتفقنا دون تعهد مسبق، على تقاسم اللعبة سوياً.. نحن نحكم، وهم يشجبون وينددون.. هكذا يكون لدينا ديموقراطية أمام من يلحون علينا لاتباعها، وهكذا أيضاً يمتص صياح هؤلاء وجرائدهم غضب الجماهير من تقصيرنا، وبدلاً من أن ينفجر غضب الجماهير في ثورة لا تبقي ولا تذر، يُمتص غضبها في صيحات وتنديدات تفرج الكبت والغم، ريثما يتراكم لديها مكبوتات أخرى جديدة.. كل هذا كان ظريفاً ولطيفاً وتحت السيطرة، إلى أن جاء شباب الفيسبوك بالدكتور البرادعي، لينازعني ميراثي المستحق.. وقد تصدقونني أو لا تصدقون، ولكم الحق بالطبع في عدم تصديقي، لأن حكامكم لم يتحدثوا معكم يوماً بصدق أو شفافية.. نعم قد احترفوا الكذب عليكم والتلاعب بكم، كما احترفتم أنتم أيضاً السخرية منهم، والتحايل للتهرب من قوانينهم وسطوتهم، سواء تلك الشرعية أم الغاشمة الظالمة.. لكنني أتعشم أن تصدقوني ولو للمرة الأولى والأخيرة.. أنا أخشى من "هوجة البرادعي" هذه، ليس فقط تبدد حلمي في وراثة مصر، لكنني أخشى عليها أكثر وأنا أرى حرافيش المعارضة الحنجورية وقد التفوا حول الرجل الطيب والمستنير، ضاربين حوله حصاراً ليس أمامه إلا أن يستسلم له.. فهم في النهاية تيارات الساحة السياسية، وتلزمه ليبراليته أن يصغي إليهم، وبئس ما سيسمع منهم حين يصغي السمع، وتنتهي مرحلة المجاملات والحماس، ويبدأون في الحديث معه، عن الطريق الذي يريدون أن يسيروا بمصر فيه!!
الآن كوريث ماذا علي أن أفعل من أجل نفسي؟
وماذا علي كمصري مخلص أيضاً أن أفعل من أجل بلادي؟
هذا ما سوف نحاول أن نجد له إجابة في مقال قادم.