كله عند العرب صابون

كمال غبريال في الأحد ٢٨ - مارس - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

العنوان مثل شعبي دارج، ولا أعلم إن كان معروفاً في مصر فقط، أم هو مستخدم أيضاً لدى باقي شعوب المنطقة.. يقال المثل لتوصيف حالة عجز أو كسل الإنسان عن فحص الشيء محل النظر لتحديد ماهيته، والركون إلى تقييمه نمطياً على أنه "قطعة صابون"، رغم أنه قد يكون حجراً، أو مادة سامة قد تسبب التهاباً في الجلد إذا ما لامسته!!
الحقيقة أن هذا المثل الشعبي لا يكاد يفارق فكري، ليس فقط لأن أغلب تصرفات ومواقف وتقييمات مواطني المصريين تستدعي باستمرار هذا المثل، ولكن أيضاً لأن كثير من ml; تقييمات ومواقف الشعوب الليبرالية، تقع في شرك مثل هذا التقييم النمطي للأمور، بدعوى أن العدالة والحياد والليبرالية تقتضي أن نزن كل شيء بذات المكيال، دون أن نتمهل ونعطي أنفسنا فرصة لنتأمل المادة التي نكيلها، فمن الناحية الفيزيقية على الأقل، سيعطينا المكيال الواحد للمواد المختلفة أوزاناً مختلفة.. الليبرالية والعدالة تقتضي منا ألا نتعامل مع الأمور المتباينة من خلال صناديق مغلقة، وفق ذات القواعد والقوانين، دون أن نتبين طبيعة وحقيقة ما نحن بصدده.
فالصندوق المكتوب عليه من الخارج "آراء حرة"، قد يحوي آراء تدفع بالبشرية إلى الأمام، وقد يحوي فكر بن لادن والظواهري، وتصور أن الحيادية والليبرالية تقتضي عدم فحص ما بداخل الصندوق، لتتعرف على مواصفات ما يحوي، تمهيداً لتحديد الأسلوب المناسب للتعامل معه، هذا التصور لا يمت لليبرالية ولا للمنهج العلمي في التناول بأي صلة.. لقد حدث هذا بالفعل في الماضي القريب بصور فجة، حين احتضنت أوروبا الإرهابيين الهاربين من السلطات المصرية، ومنحتهم المأوى والقاعدة التي يصدرون منها إرهابهم للعالم ولمصر، وكانت كل مناشدات مصر لوضع حد لعبث وتخريب هؤلاء انطلاقاً من أوروبا معقل الحضارة والليبرالية، ينظر إليها من قبل الأوروبيين على أنها مطاردة "سلطات مستبدة"، لأحرار "أصحاب رأي وموقف"!!
استمر الحال على هذا النحو من الغفلة، أو بالأصح البلاهة الليبرالية إن صح القول، حتى حدثت مذبحة السياح في الأقصر، في صباح يوم 17 نوفمبر1997، حيث بلغ مجموع القتلى 58 سائحاً أجنبياً، كانوا كالتالي : ستة وثلاثون سويسرياً وعشرة يابانيين، وستة بريطانيين وأربعة ألمان، وفرنسي وكولومبي بالإضافة إلى قتل أربعة من المواطنين ثلاثة منهم من رجال الشرطة والرابع كان مرشداً سياحياً (كان من القتلى طفلة بريطانية تبلغ 5 سنوات، وأربع أزواج يابانيون في شهر العسل، بالإضافة إلى 12 سويسرياً، تسعة مصريون، يابانيان، ألمانيان، وفرنسي أصيبوا بجروح).. عندها لم يجد الرئيس مبارك بداً من أن يواجه السادة الأوروبيين الليبراليين الكرام، بأن ما يحدث هو النتيجة الحتمية لسياساتهم بالتعامل مع صناديق مغلقة، بما يؤدي إلى معاملة الإرهابيين على أنهم "ثوار وأصحاب رأي".. نعم حدث من بعدها بعض الاستفاقة لأوروبا، لكن ليس بالقدر الذي كان كفيلاً بمنع أحداث 11 سبتمبر 2001 في نيوروك، ولا ما تلا ذلك في لندن ومدريد، بل ومازالت لندن حتى الآن مرتعاً ومأوى لهؤلاء الإرهابيين، ونرى تظاهراتهم وشعاراتهم العجيبة المفخخة، يعلنونها واضحة جلية في ميادين لندن وشوارعها، فيما الشعوب الأوروبية وساساتها مخدرون بأفيون ليبرالي بامتياز، يعمي عيونهم عن التيقن إن كان ما بداخل الصندوق صابون أو أصابع ديناميت!!
في صندوق "الحرية" المغلق نجد أيضاً "ارتداء الحجاب والنقاب"، ونجد تيارات الهيمنة والتسلط والقهر والتكفير لكل مخالف، تتحدث للمرة الأولى والأخيرة، رافعة شعار "حرية الرأي" و"حرية ارتداء الزي" و"الحرية الدينية"، وهي بالطبع شعارات مقدسة، وتطبيقها على هذه الحالة وارد، إذا كان "كله عند العرب والغربيين صابون".. لكن إذا فتحنا الصندوق المغلق والمكتوب عليه "حرية شخصية" أو "حرية دينية"، وأجهدنا أنفسنا قليلاً لنتأمل حقيقة ما بداخل الصندوق، فقد نكتشف أن الأمر ليس بأي حال "حرية"، ففي كثير من الحالات (ولا نقول بالطبع جميعها) نجد أن النساء مجبرات على ارتداء تلك الأزياء، حيث سيف التكفير وما يتبعه مسلط على رقابهن، وغسيل المخ مسلط على عقولهن، لإقناعهن بأن الدين يتركز في مثل تلك الأزياء، رغم الخلاف الفقهي الأكيد حولها، وحول مدى أهميتها في تراتب التعليمات والفروض الدينية.. وقد نكتشف أيضاً أن الأمر ليس "تقوى دينية"، وإنما أن هذه الأزياء تعبر عن انتماء سياسي وفكري، يعادي حرية الرأي والعقيدة، بل ويعادي الحضارة الإنسانية بمجملها، حتى وإن لم تنتبه اللاتي ترتدين هذه الأزياء لمثل تلك الأبعاد، وتناولن الأمر ببساطة وتقوى طبيعية.. بالتأكيد لو لم تحمل هذه الأزياء دلالة أيديولوجية خطيرة، لكان من قبيل العدوان أن يتدخل أحد، ولو بمجرد إبداء رأي يمس حرية العقيدة لدى أي إنسان، فالالتزام الديني المحض والنقي، جدير بلاشك بكل احترام وحماية!!
من صناديق الصابون المغلقة الكثيرة، والتي يحلو لنا التعامل معها، سواء بحسن نية، توسلاً لحيادية علمية أو ليبرالية، أو بسوء نية تسللاً عبر المنافذ الشرعية والحضارية، لتمرير أشد الفيروسات فتكاً بمنجزات الإنسانية الحضارية، نجد صندوق "الديموقراطية" أو "رأي الأغلبية".. رأي أغلبية فاشية الفكر، يمكن أن يكون إبادة الأقلية مثلاً، أو وضعها في موقف الموت يعد فيه لأفرادها أمنية.. وقد يكون "رأي أغلبية" جاهلة، وبالاً على تلك الأغلبية نفسها، كما رأينا ونرى الآن مصير أهالي غزة، تحت حكم حماس، الذي جاء بناء على رأي تلك الأغلبية ذاتها.. وعلى ذات نهج "كله عند العرب صابون"، يمكن أن نقيم موقف السلطات الجزائرية بعد انتخابات اختيار مجلس الشعب في الجزائر في 26/12/1991م، والتي حصلت فيها جبهة الإنقاذ على 188 مقعداً من أصل 228 في المرحلة الأولى، بينما لم يحصل الحزب الحاكم إلا على 16 مقعداً فقط، وقيام الجيش بعد ذلك بمنع وصول زعماء هذه الجبهة إلى الحكم، يمكن أن نقيم هذا بأنه قهر للحرية والديموقراطية، من قبل ديكتاتورية عسكرية بغيضة.. هذا ما يردده بالفعل أنصار هذا التيار، والذين كانوا قد أعلنوا قبلها صراحة أن هذه الانتخابات هي الأولى والأخيرة، بعدها سيتم إحكام إغلاق الأبواب والعقول، وفتح المعتقلات والسجون بل وإقامة المذابح، لكل صاحب رأي حقيقي، وليس "صاحب ما نظنه صابون"!!
علينا الحذر أن نتجمد ولا نتحرر ونتحلى بالتسامح، لكن علينا أيضاً أن لا نصل في ذلك إلى حد البلاهة، فنسمح تحت راية الحرية والسماحية، أن تدخل الفيروسات إلى جسدنا وحضارتنا فتدمرها.. لنكون أشبه بكائن فقد الجلد الذي يحمي جسده.. علينا التأكد من أن ما نغتسل به صابون، وليس مادة ناسفة، أو بودرة انثراكس (الجمرة الخبيثة)!!

اجمالي القراءات 27578