الجاذبية (تتمة)

محمود دويكات في الأربعاء ١٣ - يناير - ٢٠١٠ ١٢:٠٠ صباحاً

رغم نجاح نموذج نيلز بور (1913م)  في تفسير الاشعاعات الصادرة عن ذرة الهيدروجين إلا أنه لم يستطع حتى مجرد تفسير لماذا لا يهوي الألكترون (سالب الشحنة) نحو مركز الذرة (موجبة الشحنة). و عندما حاول العلماء وقتها الأستعانة بنظرية نيوتن في الجذب لتفسير العلاقة ما بين الالكترون و الذرة  باءوا بفشل ذريع. الفشل الذريع هو أن نواة ذرة الهيدروجين أثقل بكثير من الالكترون مما يعني أنه – حسب نيوتن – فإن الالكترون لا بد و أن يسقط في النواة. و لكن أمراً كهذا لا يحدث لأنه يعني حتما انهيار الكون الذي نعيش فيه.  بالإضافة لقوة الجاذبية كان هناك موضوع التجاذب الكهربائي ما بين الألكترون (سالب الشحنة) و النواة (موجبة الشحنة) ، مما جعل مسألة "ثبات واتزان" الذرة أمراً محيراً للعلماء.
وفي مسار مواز ٍ ، و بالأعتماد على نتائج أبحاث ماكس بلانك في التكميم ، كان أينشتاين يقدم نظريته حول طبيعة الضوء و أنه مكوّن من جسيمات صغيرة أطلق عليها إسم "الفوتونات" ، وجعل تلك الفوتونات كأنها كبسولات حاملة للطاقة الكهرومغناطيسية للضوء ، و المعلوم أن الضوء هو جزء بسيط من عائلة أضخم تسمى الموجات الكهرومغناطيسية ، و التفاوت الوحيد ما بين انواع تلك الموجات هو بمقدار ترددها . و تردد الموجة هو عبارة عن عدد المرات التي تتكرر فيها الموجة في الفراغ في الثانية الواحدة. 
في حوال 1924م ، كان الفتى الفرنسي ٌ "لويس دي بروييّ " يعدّ لمناقشة رسالته في الدكتوراة حول العلاقة ما بين نظرية أينشتاين في النسبية ومبدأ ماكس بلانك في التكميم . كان رسالته تقوم على فرض وحيد و بسيط للغاية ، هو أن المادة تمتلك خواص الموجات ، مثلها مثل الضوء ، وقاده هذا الأفتراض الى استنتاج أن كل جسم مادي متحرك لا بد و أن تصاحبه موجة في المتصل المكاني-الزماني. في ذلك الوقت لم يفهم المشرفون على رسالة الدكتوراة  تلك (من بينهم النمساوي شرويدنجر) ماذا كان يقوله دي بروييّ فكادوا أن يرفضوا منحه درجة الدكتوراة و لكن دي بروييّ استغاث بأينشتاين مما جعل المشرفين يرسلون تلك الأطروحة لإينشتاين من أجل تقييمها ، و جاء رد أينشتاين بقوله : " أعطوا الفتى درجته في الدكتوراة!!." . لم يكن أينشتاين يعلم أن أفكار ذلك الفتى ستشكل الأساس النظري لنوع آخر من العلم- هو ميكانيكا الكم الموجية.   
إذ في السنة التالية ، استخدم شرويدنجر فرضيات دي برويي في تقديم وصف موجي-احتمالي لحركة الألكترون حول النواة ، و بعده بسنتين جاء الأنجليزي بول ديراك بفكرة رياضية عبقرية لتفسير ماهية التجاذب الكهرومغناطيسي ما بين الألكترون و النواة. تقوم فكرة ديراك على أن التجاذب الكهرومغناطيسي ناتج عن تبادل "كبسولات" من الطاقة ما بين الألكترون و النواة ، و بهذا وجدت "فوتونات" أينشتاين مكاناً لها في ميكانيكا الكم فيما يخص تفسير ماهية التجاذب الكهرومغناطيسي. 
كان من أهم نتائج أعمال ديراك النظرية حول التجاذب بواسطة تبادل جسيمات هو أن الجسيمات المادية في هذا الكون لا بد و أن توجد على شكل أزواج حتى يتم تبادل القوى. و قد احتفل العلماء أيمّا احتفال عندما أثمرت تنبؤات ديراك بوجود نقيض للألكترون – تم تسميته بعدها بالبوزيترون. و قاد ذلك الأكتشاف المخبري الى العديد من الأكتشافات حول وجود "الأزواج" من الجسيمات المادية المقترنة مع بعضها في خواص محددة. و بعد أن فرحوا و أطمأنوا الى صدق فرضياتهم حول تفسير التجاذب الكهرومغناطيسي ، أراد علماء ميكانيكا الكم أن يطبّقوا نفس المباديء على نظرية النسبية التي ابتدعها أينشتاين في التجاذب المادي .  وهنا توّقع العلماء وجود جسيمات خاصة صغيرة للغاية هي التي تمنح الكتلة للجسيمات الأكبر حجما ، و أيضا توقعوا نظرياً وجود جسيم ناقل لقوة الجذب أطلقوا عليه أسم "الجرافيتون" . إلا أن البحث عن هذه الجسميات مازال جارياً منذ خمسينات القرن الماضي ، الأمر الذي جعل الكثيرين يشككون بصحة ذلك.
5. نظريات الأوتار الفائقة
بعد أن  طال و تأخر اكتشاف الجرافيتون ، ضاق العلماء ذرعا و راحوا يفتشون و يضعون نظريات أخرى حول تفسير التجاذب المادي (الأينشتايني) بأساس كمومي (أي باستخدام ميكانيكا الكمّ) غير نظرية تبادل جسيمات الجرافيتون.  و لكي يبقوا ضمن مسلّمات و مباديء ميكانيكا الكمّ ، ابتدعوا جسيمات ذات خصائص نظرية أسموها أوتارا في البداية و ما لبثوا أن جعلوها أوتاراً فائقة.  الوتر هو عبارة عن جسيم نظري عام له خواص ظاهرة في بــُعدٍ واحد فقط. و اما الأوتار الفائقة فهي نفس الوتر و لكنها تشتغل على أبعاد متعددة.  عندما يكون الوتر ذا بعد واحد فإنه يمكن تشبيهه بالخيط الرفيع (لكن متناهي الصغر للغاية لدرجة أن الألكترون الواحد قد يكون بحجم عدة مليارات منها) ، و لكن عندما يكون وتراً فائقا فإنه قد يكون عبارة عن مسطح (ذا بعدان) أوعدة مسطحات متشابكة (إذا كان ذا عدة أبعاد). و تكون الخصائص الفيزيائية لتلك الاوتار ناتجة عن اهتزازات تلك الاوتار وفق نغمات محددة. فمثلا عندما يهتز وترٌ ما بطريقة معينة فإنه يتصرف كجسيم مادي (أي يصبح له كتلة) و عندما يهتز بطريقة أخرى فإنه يصبح له شحنة كهربائية .. أي أن اهتزاز تلك الأوتار هو الذي يعطي الأشياء في هذا الكون خصائصها. و قد أوغل اولئك العلماء في تلك الأفتراضات النظرية الى أن أثمرت جهودهم عن وضع خمس نظريات مختلفة ترتكز على مبدأ الاوتار هذا. 

ليس لنظرية الأوتار هذه أي مزية سوى أنها تقدم أساساً و منهجاً موحداً في تفسير معظم الظواهر التي كانت معروفة و مفسّرة من قبل النظريات المختلفة الأخرى السابقة. أن مستوى التعقيد لنظريات الأوتار ومستوى الفرضيات التي تقوم عليها  كلها ترجع الى غاية في الصغر لدرجة تجعل من المستحيل أن يتم التحقق من صحة تلك النظريات إلا عن طريق إجراء تجارب على مستوى أصغر بكثير جداً جداً من مستوى الجسيمات التي تتكون منها الذرة نفسها. و قد أقام الامريكيون و حاليا الأوروبيون مسارعات نووية ضخمة من أجل إجراء تجارب من هذا النوع بغية التحقق من تلك النظريات ، إلا أنه – لحد الآن – فإن شيئاً لم يحدث.
6. الجاذبية في القرءان:
لم يرد ذكر مفردة الجاذبية و لا أيّا من مشتقاتها في القرءان الكريم. و يصعب القول بأن الله سبحانه قد أعطى تلميحات واضحة بخصوص الجاذبية.  إلا أن أبرز أيتين يمكن ربطهما بموضوع تماسك و تجاذب أجرام هذا الكون هما قوله تعالى (ان الله يمسك السماوات والارض ان تزولا ولئن زالتا ان امسكهما من احد من بعده انه كان حليما غفورا) من سورة فاطر و قوله (و يمسك السماء ان تقع على الأرض إلا بإذنه)   من سورة الحج.  الفهم العام للأيات يشير الى أن السماء قد تقع على الأرض إن توقف الله سبحانه عن إمساكهما. و لكن ، كيف تقع السماء على الأرض؟
لا بد من الأشارة هنا الى أن هناك نقطتان تسهمان في إرساء تصوّر و فهم مغلوط لتلك الأيات ، وهذا ناشيءُ بطبيعة الحال عن عمق الفجوة ما بين اللغة العربية الحالية و لسان القرءان . النقطة  الأولى هي إن معنى السماء في القرءان هو ليس ذلك المعنى الشائع في أذهاننا بأنها ذلك الفراغ الذي تسبح فيه النجوم و الكواكب. و لكن ، القرءان يقرّ صراحة بأن السماء عبارة عن بناء (الذي جعل لكم الأرض فراشا و السماء بناء)  و يقرّ أيضا أن إسم السماء قد يشمل جميع السماوات ، أي أن السماوات كلها هي بمجملها تشكل "السماء" ( بألف لام التعريف) ( ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سموات)  أي إن الحديث عن السماء بهذا الشكل يفيد بان السماء عبارة عن شيء متماسك له بنية محددة و له نظام تركيبي. و النقطة الثانية أن كلمة "وقع" في القرءان لا تفيد معنى سقوط شيء على شيء آخر.  و لكن تفيد كلمة "وقع" في القرءان حدوث أو حصول الشيء بشكل متزامن أو مرتبط مع شيء آخر. لاحظ قوله تعالى (وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) فمعنى وقع هنا لا يفيد "سقط أجره على الله" وإنما قد تعنى أصبح أو تحّول أجره و حسابه على الله.  و لاحظ أيضا (وأوحينا إلى موسى أن ألق عصاك فإذا هي تلقف ما يأفكون ، فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون ) فوقع هنا تفيد – حصل أو حدث و بشكل متزامن و مترابط مع إلقاء موسى للعصا. و قس على ذلك بقية مواطن الكلمات في القرءان.  و بناء على هذا يصبح فهمنا للأية (و يمسك السماء ان تقع على الأرض إلا بإذنه) – يمسك السماء أن تحدث / تحصل / تصير على/مع الأرض ، وهذا التفسير حول شيئين يحدثان معاً يذكرنا بظاهرة فيزيائية هي "الرنين" ، و الرنين هو ان "تقع" أو تحصل الترددات الأهتزازية للجسمين في نفس اللحظة بنفس المقدار ، الأمر الذي يؤدي الى مضاعفة الأثر الحركي بشكل قد يدّمر إحدى الجسمين. و لذات السبب ، نعلم لماذا يتوقف الجنود عن السير بحركة عسكرية منتظمة  (مارشات عسكرية) عند المسير فوق جسر معين! السبب هو حتى لا تتناغم اهتزازات أرجلهم مع الأهتزاز الطبيعي للجسر فيؤدي الى انهياره.  أي بلغة القرءان – حتى لا تقع اهتزازت أرجلهم مع اهتزازات الجسر فيزول الجسر و الجنود معه.
و نرجع للأية . إذن (يمسك السماء أن تقع على الأرض) قد تفيد معنى: أي أن الله سبحانه يحفظ كلا ً من السماء و الأرض من الأنهيار عن طريق إمساك أحدهما على الأقل(و هنا السماء)  من أن تتزامن حركتها الاهتزازية مع حركة الجزء الآخر. و معنى الأمساك هنا ليس بالضرورة التثبيت و السكون. فلو تتبعنا جذر "مسك" في القرءان لوجدنا أن الأمساك قد يحدث و تكون الحركة موجودة أيضا ، لاحظ قوله تعالى (ألم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله )  و أيضا قوله تعالى (أولم يروا إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن ) فالأمساك هنا يحدث بالرغم من وجود حركة الطير. و هذا يعني أن الأمساك قد يحدث في بُعدٍ واحد فقط ( وهنا تسير الطير أفقيا في حين تبقى مستوية في الأتجاه العمودي).  و بالعودة الى الأية الأساسية (يمسك السماء أن تقع على الأرض) قد نفهم أيضا أن الأمساك هنا هو وقف الأهتزاز في بعد معين أو اتجاه معين حتى لا يحدث تطابق تام ما بين اهتزاز السماء و الأرض.
على كل حال ، و رغم أن نظرية الاوتار الفائقة تعتمد أعتماداً كليّا على مبدأ الأهتزاز و الرنين (في أبعاد مختلفة)  في وصف كيف تتمخض الخصائض الفيزيائية للأجسام ما دون الذرية  (و من بينها خصائص التجاذب) - إلا أننا لا نستطيع أن نلصق تلك النظريات بآيات القرءان. فنظريات الأوتار جميعها هي مجرد نظريات بحتة  و حبر على ورق ولم يتم إثبات أيّا منها حتى الآن ، و مازال العلماء يعملون جاهدين في تصميم التجارب الباهظة الثمن من أجل التأكد من صحة نظرياتهم . و لكن ، إن كنا سنستفيد من هذا المقال فهناك فائدتان عظيمتان يمكن الخروج بهما: الأولى أن العلم البشري كله مبني على وضع الأفتراضات و من ثم محاولة برهنتها بالتجارب، هكذا تتقدّم تلك الدول التي تسير في الكون كما أمر الله ، و اما الفائدة الثانية فهي أن علينا دوما الرجوع الى القرءان من أجل فهم معاني آياته ، وإننا مهما فهمنا من معاني تلك الآيات فإنه لا بد و أن هناك معنىً آخر لربما لم نحط به علماً .

اجمالي القراءات 15129