إقام الصلاة

محمود دويكات في الأحد ٢٧ - ديسمبر - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

يتحدث القرءان في مطلع سورة البقرة عن  صنفين من الناس من غير أن يذكر أسماءً لهم ، بل يسرد لنا بعضاً من صفاتهم. الصنف الاول هم من يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة و مما رزقهم الله ينفقون ، و أما الصنف الثاني فهو عكس الاول ، و يسرد لنا القرءان الكثير من صفات الإثنين.

ليس الهدف من هذا المقال إجراء مقارنة ما بين الصنفين. و لكن هذا المقال همّه التركيز على نقطة حساسة جداً ، و هي أن الأتيان بحركات الصلاة و غيرها من شعائر هذا الدين لن يضمن لفاعلها رضا الرحمن و لا جنته ، بل بالعكس ، لربما تجعل الفاعل في زمرة المغضوب عليهم.

من صفات أهل الصنف الأول انهم يؤمنون بالغيب. و هذا ضروري ، لأن ذات الله سبحانه هي من أمور الغيب ، و تحته (أي الغيب) يندرج الكثير من الأمور – كاليوم الآخر والحساب و البعث .. الخ.   

و من صفاتهم أيضا أنهم "يقيمون الصلاة" ، و هنا يجب لنا التوقف عند هذه الصفة. فعندما يتكلم الله (في القرءان) عن الصلاة فهو يقرنها دوماً مع "الأقامة" ، و الإقامة هي نوع من عمليات البناء و الأنشاء و تتصف بالاستمرارية ، و منها اشتق معنى "أقام في المكان" إذا مكث فيه راسخاً و ثابتاً لبرهة غير قصيرة.

 لم يرد في القرءان مطلقاً أن الله طلب من المؤمنين أن "يؤدوا" الصلاة ، و إنما دوماً أن "يقيموا" الصلاة ، و هذا يرشدنا الى أن الصلاة ليست مجرد تلك الحركات التي يقوم بها المسلم ، و إنما يقوم مفهوم الصلاة على معنى "بناء الصلة" . و بالتالي فإن إقام الصلاة هي بمعنى إنشاء و الحفاظ على الصلة ما بين العبد و الله سبحانه و تعالى ،  و بهذا فإن أي آية تطلب منا إقام الصلاة فإنها تطلب منا العمل على تحقيق الصلة و التواصل مع الله سبحانه . و بما أن البشر من صفاتهم الأنغماس في أمور الدنيا ، فإن الله وضع لنا ما يمكن تسميته بـ "مراسم و مشاعر" للتذكير بضرورة إقامة الصلة مع الله و ضرورة المحافظة على استمرار تلك الصلة. و ما هذه المراسم و المشاعر سوى تلك الركعات و الحركات التي نؤديها كمسلمين لله.

و هدف تلك الحركات و الركعات هو أن تخلق في أنفسنا إحساساً ماديّاً ملموساً بفكرة التواصل و الصلة مع الله. و لكن يجب دوما التنبّه الى أن الهدف الأساسي من الصلاة ليست تلك المراسم و الحركات ، و إنما هو المحافظة على الصلة دائماً مع الله سبحانه ، و لهذا السبب لا يوجد في القرءان تفاصيل دقيقة لتلك الحركات و الركعات و المراسم، لأنها ليست هي الهدف الرئيسي ، بل هي مجرد أداة لتهيئتك نفسياً و جعلك تشعر بالمعنى الحسي للصلة مع الله سبحانه. و هذه الأداة و الحركات قد تؤديها على أي شكل آخر تبعا للظروف ، فلاحظ مثلا في حالة الحرب كيف وصف الله لنا سريعا "أداء الصلاة كحركات" و لكن في نهاية الوصف أكد لنا على ضرورة الأطمئنان في الصلاة و إقامتها (فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاةَ ) مما يعنى ان الهدف الأساسي من الصلاة هو إقامة الصلة ما بين القلب المؤمن المطمئن والله سبحانه و تعالى.

و عندما يقول الله (اقم الصلاة ان الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر) 29:45 فليس المقصود هو تلك الحركات و الركعات ، و إنما هي الصلة التي من المفروض ان تشعرها في قلبك تجاه الله سبحانه ، تلك الصلة و الإحساس بوجود الله في قلبك هو الذي من المفروض أن ينهاك عن فعل الفحشاء و المنكر.

و بالتالي فإن كل شخص لم ينتهِ عن فعل الفحشاء و المنكر ، فإن ذلك الشخص قد فشل فشلاً ذريعاً في إقام الصلة مع الله. وهذا هو الصنف الثاني من الناس.

إن الصنف الثاني من الناس – بحسب بداية القرءان – هم نوعان أيضا. أولهما الكافرون بالله صراحة ً ، و ثانيهما هم من يظنون أنهم مؤمنين و لكنهم ليسوا كذلك ، و في كلتيْ الحالتين  فإن حسابهم و عذابهم على الله و لا شأن لنا بهم طالما احترموا عهد الأمان بيننا و بينهم.

هؤلاء الناس يقومون بأعمال ظاهرها تدل على الإيمان ، و لكنهم في الحقيقة ليسوا بمؤمنين. يقول الله (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ ، يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ ) .. إن من الامور المثيرة للأنتباه هنا هو نهاية تلك الأيات ، و خاصة قوله تعالى "و مايخدعون إلا أنفسهم و ما يشعرون" . فهؤلاء الناس يعتقدون أنفسهم أنهم على صواب فيما يفعلون. فهم بلا شك يظنون أنفسهم مقيمي الصلاة ، و يظنون أنفسهم مؤمنين.  لاحظ الأيات اللاحقة تتشابه مع تلك الأية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ، أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ )... أنظر مرة أخرى لقوله " و لكن لا يشعرون"... كيف يشعرون و قد أضاعوا المعنى الحقيقي للصلاة؟  هؤلاء القوم يظنون أنهم بأدائهم لحركات الصلاة فإنهم من زمرة المؤمنين! يظنون أنهم يستطيعون التمّلق الى الله بتلك الشعائر و الحركات. فهم لن يشعروا بضلالهم ماداموا يظنون أن حركات الصلاة وحدها تكفي ، فيجب دوماً تذكرّ الله و إقامة الصلة حيّة في القلب. و يجب أن تكون تلك الصلة هي القوة المحرّكة لفعل الخير و مساعدة الفقراء و عدم استغلال الضعفاء من الناس.

إن الإيمان الحقيقي بالله ليس مجرد ترديد ذكر الله على اللسان ، و ليس فقط الأتيان بحركات الصلاة. و إنما أن ينعكس إيمان الشخص على أفعاله ـ و بهذا يتحقق معنى "إقامة الصلة مع الله".  فكم من رجل – وهم كثر – يظن أنه إذا أدى ركعتين لله فإن الله سيمحو ما اقترفه من السيئات. كلاّ و ألف كلاّ. فإن ذلك الرجل عليه أن يقيم العلاقة و الصلة المتينة مع الله لدرجة تدفعه تلك الصلة الى ان يحترم الناس الآخرين ، و يعاملهم بالحسنى ، و لا يغشهم أو يغتابهم و لا يظلم البسطاء من الناس بسبب جهلهم  ، أي أن تنهاه صلاته عن الفحشاء و المنكر . و إن لم يفعل ذلك ، فسيكون عندها ممن (أضاعوا الصلاة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا).

 

اجمالي القراءات 45709