التخلف بوصفه ظاهرة قياسية

عمر أبو رصاع في الإثنين ١٧ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

(1) كيف ننتج عقولاً ناهضة بدون نهضة؟


التخلف.
ليس عسيراً أن نجد في كل الخطاب الثقافي الذي يرسم ملامح الحالة الثقافية العربية، حديث موصول لا ينتهي عن التخلف وعن النهضة، فالنهضة على أي حال هي المشروع الذي تطالب به كل تيارات الفكر والسياسة في مجتمعنا العربي، والنهضة تعني أن الحال إذن غير ناهضة، حالة هابطة كضد لناهضة، الطريف في الموضوع أن أحداً لا يلحظ المضامين التي تكتنف التعبيرات الآنفة، نهوض-هبوط وكذلك تخلف- تقدم، أهم ما يميز تركيب هذه المصطلحات بعدين:
الأول: التصوير الحركي، فالمتخلف هو متخلف بالنسبة لشيء آخر متقدم عليه بالضرورة، فالجذر "خلف" لا بد له من تعيين إذا ما استعمل كمصدر نقول فلان خلف فلان، فهو خَلْفُه، وإن كان خَلَفَه فقد ناب عنه أو أخذ مكانه في شيء فلا بد من تعين الخالف والمخلوف، المهم عندنا أن التخلف يشارك معنوياً التأخر، وكلاهما ذو دلالة قياسية، فأنا متخلف بالنسبة لآخر متقدم علي، ولا يوجد متقدم ومتخلف بدون آخر يتقدم عليه أو يتخلف عنه، وكذلك "نهض" فهي أيضاً تستعمل في المقارنة فهذا أنهض من ذاك، وهذا يحتاج إلى نهضة …وهكذا دواليك.

التوظيف اللغوي بداية يؤسس لقناعة جوهرية في هذا المجال هي أن التخلف لا بد أن يكون عن شيء ما، وبالتالي فالتخلف ظاهرة قياسية، أي تخلف بالقياس إلى كذا.

وبعد

العلم عندما يدخل أي ميدان يميل إلى التقنين والتقعيد، وتحويل الصيغ الوصفية إلى صيغ مجردة، وعلى الهامش أقول كم هو غريب هذا الإنسان الذي تقوم عِلمية أفكاره على ماديتها، ولكن علومه لا يعبر عنها على نحو دقيق إلا بلغة منطقية رياضية رمزية، لغة مجردة تعبر عن قدرته على التفكير المجرد!
عموماً
العلوم كما قلنا، لا تتمكن من إحكام الظواهر ودراستها، إلا بتحويل الأفكار المصاغة لغوياً بالتعبيرات المختلفة من الصيغة الكلامية إلى الصيغة الرياضية، لتجردها وتحصرها وتتمكن من جعلها موضوعاً للدراسة.

العبد لله الفقير يزعم أنه ينشئ نظرية في دراسة التخلف، أو بالأحرى يدعو إلى تأسيس علم مستقل هو علم النهضة، كيف نجعل النهضة علم، لا كلاماً مرسلاً؟

ليس من شيء أرقني في حياتي كلها كما أرقتني إشكالية النهضة، سؤال الثقافة العربية المعلق: كيف نتخلص من التخلف؟ كيف ننهض؟

كثير هو الكلام الذي سمعته، وكثيرة هي الأفكار التي قرأتها وتداولتها، وكلها عندي تدور في رحى نفس الإشكالية؛ إشكالية التخلف التي صارت أشبه بداء عجيب ولازمة أسطورية في الثقافة العربية، كل تلك التوجهات كانت علة عللها مثاليتها المفرطة في دراسة التخلف كظاهرة، وهنا نعني بالمثالية معناها الفلسفي، أي رد الظواهر إلى المثل باعتبار هذه الأخيرة محركاً أصلياً أو قادحاً عملياً.

سنبسط الفكرة أكثر بالقول: أن التخلف في ذهن المثقف العربي هو حالة عامة لمجتمعه، حيث يشعر بتخلفه عن المجتمعات الأخرى في بعض الميادين أو جلها أو حتى جميعها، ويرد المثقف العربي أو ترد الثقافة العربية –وهذا عندي أقوم- علة التخلف هذه إلى فكرة ما مثالية، بمعنى؛ أن التخلف ناتج عن التفريط أو الإفراط في مواقف فكرية معينة، مثلاً:

- التخلف سببه البعد عن الله أو الدين أو المثل العليا الدينية…الخ أو العكس التخلف سببه الدين والله والقيم الدينية…الخ

- التخلف سببه عدم تقليد الغرب وغياب الإنتاج والعمل…الخ أو العكس التخلف سببه تقليد الغرب …الخ

- التخلف سببه غياب الحريات، أو غياب الديموقراطية، أو غياب التسامح، أو أي صفة من صفات المجتمع الأخلاقية والفكرية والقيمية والقانونية…الخ

في كل هذه الحالات، نحن أمام تحليل مثالي، ولعل أوضح ما قرأت وأكثره اغراقاً في المثالية الفلسفية ما طرحه الدكتور محمد عابد الجابري عندما قال ملخصاً الأزمة في مشروعه نقد العقل العربي:"كيف نصنع نهضة بدون عقل ناهض؟"

هنا نقف تماماً لنقول: ولكن السؤال هكذا يقف على رأسه يا سيدي، لأن المفروض أن يكون السؤال
: كيف ننتج عقولاً ناهضة بدون نهضة؟

إن الإشكالية كما يركبها المثاليون العرب، تجعلنا نقف معهم وكأنهم يقدمون لأمي كتاباً ألفوه في فنون الكتابة والتعبير، ودفعوا به لأمي لا يعرف القراءة والكتابة، طالبين منه أن يكتب وينشئ كتباً مستفيداً من فنون الكتابة التي فيه!

وكذلك الحال مع الداعية القيمي الذي يريد من خلال الخطاب الأخلاقي أن يتغير المجتمع ليصبح أرقى قيمياً وأخلاقياً وإنسانياً، ولكنه ينسى أن البطن الجائع والرغبات المقهورة لا يمكن أن يصلحها الخطاب الأخلاقي، ولا يمكن أن يسد الخطاب الأخلاقي رغبات الإنسان مهما حاول، إنها دعوة لمخاطبة وحش هائج بدوافع رغبته أن يكون حنوناً ومثالياً من الناحية الاخلاقية!

إن حالة الأرستقراطية الفكرية هذه، التي تمارسها نخبنا المثقفة على اختلاف تلوناتها، نوع من الفنتازيا الثقافية، ليس أبلغ فيها من القول: يكاد المريب يقول خذوني.
أعتذر، ولكني لم استطع أن أجد أبلغ من ذلك الوصف وأقل حدة.

أليست تلك المحاولات في جلها من ناحية، تلقي بنفسها خارج دائرة التخلف، إنها كمن يحاول أن يتبرأ من هذا الرجس من هذه اللعنة بكل خصائصها التي شخصها لها، ومن ناحية ثانية وقاحة مع المجتمع من خلال تنصيب المثقف نفسه أستاذاً للشعوب، وتلك كارثة الكوارث، لأن مثقفنا ومن خلال مثاليته الفلسفية كما قلنا لا يدرس ما هو كائن ويحلله ويقيسه ويحاول حشد الرأي العام خلف فهم المشكلة ليندفع بالتالي إلى حلها مع الناس، بل هو يقرر للمجتمع ما يجب أن يكون، ويحاول حشد الرأي العام حول تصوره هو لما يجب أن يكون عليه المجتمع، وهناك فرق جوهري هنا بين حشد الرأي العام حول فهم المشكلة ووعيها وتعينها، وبين حشد الرأي العام حول فكرة ناجزة او نموذج يجب أن يكون بديلاً لما هو كائن.

بإختصار إنه الفرق بين تفعيل المجتمع ليحل أزماته بنفسه، تفعيل جدليته الذاتية عبر تحشيد الوعي بالمشكلة وصب الإهتمام عليها ودفع المجتمع إلى حالة الفعل، وبين تحويل المجتمع إلى قطيع يسلم قياده للنموذج الجاهز حل الحلول السحرية مفتاح الجنة وباب الخلاص، دفعه ليلغي عقله ويتحول من مفكر إلى هاتف محتقن معبء اديلوجياً.

لا يختلف في هذا اليسار العربي عن اليمين العربي، لله الحمد الكل في الهم شرق، الاخوان الشيوعيين قبل الاخوان المسلميين.

لي أن اتوقع أن محاربة الأمية ونشر التعليم الأكاديمي والمكتبات العامة وتكريس القراءة والمسرح وتوفير المراجع والانترنت وحرية الحراك الفكري والسياسي، ستنتج لأي كتباً وحراكاً فكرياً ابداعياً، وليس لي أن اتوقع أن ألف كتاب وخطاب في الدعوة إلى التأليف والشكوى من جهل الناس والتخلف وتقديم الكتب ليقرأها عشرات او مئات في جو من الكبت والقمع...الخ يمكن أن ينتج لي حركة تأليف وتفكير. لهذا يا سيدي ليس العقل الناهض من سينتج نهضة بل النهضة هي من ينتج ويلتحم بالعقل الناهض.
كيف ستنتج عقلاً ناهضاً بلا نهضة؟
أم أن العقل الناهض هنا هو الخيار النخبوي المتعالي، الذي له وعليه وحده أن يقدم النموذج الناجز، والبديل الجاهز؟
لماذا يا سادة حتى النخب المثقفة العربية ديكتاتورية وفوقية في فهم مجتمعاتها؟
 

(2) ما النهضة؟



إن إشكالية النهضة في الذهن السلفوي، ليست إشكالية ثقافية لا من قريب ولا من بعيد، ولا توجد علاقة أصلاً بين ثقافة الإنسان ومستوى تقدمه المادي، بل أن تقدمه المادي، مرهون بتمثله للثقافة الدينية، التي يتصورها ويقدمها حلاً، والتخلف هذا إن وجد، هو تخلف مادي حصراً، والثقافة العربية الإسلامية هي أرقى ثقافة، وأعظم ثقافة، بل هي ثقافة مقدسة، وما بعد تاريخية، ولا يمكن تجاوزها. أما المشكلة المادية فسببها أصلاً، عدم الالتزام بالثقافة العربية الإسلامية، فهذه الثقافة لو ألتزم بها وطبقت نظمها المزعومة، سنتقدم جميع الأمم والثقافات، وتعود مكانة الثقافة العربية الإسلامية التابعة اللامتبوعة، والتي لا يمكن أن تكون إلا كذلك حسب مزاعمهم، والتجديد والاجتهاد كما يرى القرضاوي، ليس إلا عملية ترقيع، أو حسب مصطلحه ترميم لما بلي، لا أكثر ولا أقل.
إن القرضاوي كنموذج سلفي، يقلب كل المعادلات، ويجعل الهرم يقف على رأسه، ويحاول رد المآخذ على قاليها، بقولها لهم!
فيؤلف لنا كتاباً يجعل عنوانه :" التطرف العلماني في مواجهة الإسلام"، وهو من أواخر ما كتب، ليخلص فيه إلى تكفير العلمانية والعلمانيين، وأن العلمانية بكل أشكالها في معركة مع الإسلام اليوم، حتى وإن كانت هذه العلمانية، من ذلك النوع الذي تعلن فيه مسبقاً أن لا موقف لها من الدين؛ وهو يقر لها بذلك قائلاً: "هذه العلمانية من النوع الليبرالي المحايد مع الدين فلا يواليه ولا يعاديه لا يقبله ولا يرفضه" . حتى هذه العمانية المحايدة لا تسلم من تكفيره لها، إذ يرى أن الإسلام في معركة معها، وبالتالي فهو يؤكد عداوة الإسلام الذي يتصوره، لكل ما لا يراه فيه أصلاً، وهذا قمة الإقصاء، والإلغاء، والرفض، والانغلاق، هكذا يكون الحكم الفصل النهائي عنده أن العَلمانية :"بنت حرام....لأنها ليست بنت شرقنا المسلم بل هي بنت الغرب المسيحي" ، فعن أي انفتاح ثقافي، يحدثنا قرضاوي إذن ؟ عن أي قبول للآخر يتكلم، إذا كان القادم من هذا الآخر ابن حرام؛ لأن هذا الآخر مسيحي؟!
إذا كانت الثقافة العربية الإسلامية مقدسة عند القرضاوي، فهي العلة عند محمد عابد الجابري، إذ انطلق الأخير من فكرة مثالية فلسفية، خلاصتها ضرورة تفكيك وإعادة بناء الثقافة العربية، للتحول إلى ثقافة خلاقة ومنتجة ومعاصرة.
في مشروع الجابري الضخم "نقد العقل العربي"، يؤسس الجابري خطابه، على التميز أولاً بين نوعين من العقل، عقل عربي وعقل غربي، ورغم أنه يستبعد التصور الجيني، ويؤكد أنه إنما يعني بالعقل التركيب المفضي إلى التفكير، والحاكم له، بمعنى أن العقل عند الجابري هو الثقافة، أو هو التكوين المعرفي، الذي يتحول بدوره فضاء وحاكم لعملية التفكير، والإنتاج الفكري.
يستند الجابري إلى إشكالية أندريه لالاند "العقل المُكوَّن والعقل المُكوُّن"، ليحكم أولاً بأن هذا العقل غرباً، عقل علمي وفلسفي، أما شرقاً فهو عقل إشراقي، بعيد عن التفكير العلمي والفلسفي، ورغم كم العسف الموجود لنحت هذا الاستخلاص بإقصاء نماذج والاقتصار على أخرى، إلا أن ما يعنينا هنا، هو تأسيس الجابري لأزمة التخلف العربي على أساس ثقافي بحت، ونلمس ذلك بكل وضوح، عندما يتكلم عن كيفية التخلص من هذه الحالة: "كيف نصنع نهضة بدون عقل ناهض؟" إذن الاشتراط الذي يقدمه الجابري للنهضة هو العقل الناهض، والحقيقة أن الإشكالية بهذا الأسلوب، تقف على رأسها تماماً، إذ أن السؤال المنطقي هنا، هو كيف ننتج عقولاً ناهضة إن لم تكن هناك نهضة، إن الجابري يشترط تغيير الثقافة، وتحولها الكلي إلى ثقافة بخصائص متقدمة وعلمية ومنتجة...الخ، دون أن يخبرنا كيف سيتم ذلك؟!
والنتيجة أن مشروع الجابري نفسه، الذي يحاول أن يفكك، ويعيد بناء العقلانية العربية، ينتهي به، إلى محاولة حالية لتقديم قراءة جديدة للنص الديني، تقوم على أساس أسباب النزول!
بمعنى أن الجابري، وبعد كل ما قدمه من نقد لهذه الثقافة وبنيتها، اللاعلمية حسب تصوره بالمطلق، يتوقف بنا وبنفسه ليقدم، أكبر الأدلة على عدم إمكانية الخروج بمنهجيته من أزمة العقلانية، ذلك أنه لم يفعل شيء إطلاقاً إلا العودة وبشكل آلي لتمثل منهاج القراءة التقليدية، المنهاج الذي أنتجته العقلانية التي ينتقد تكوينها ويسمها باللاعلمية، إنه لم يفعل شيء في النهاية، إلا أن اعتمد كلياً، على منهج قرائي سلفي تقليدي بامتياز.
لا نستطيع أن نقف في مسح أولي شامل للمكتبة العربية، على كتب تعالج فعلاً مشكلة التخلف، بإعتبارها مشكلة في الواقع العربي تتمظهر في جزئيات محركة في واقعه، كإشكالية التعليم، وإشكالية الإنتاج، والدخل القومي، والعمل، والبحث العلمي، وقطاعات الطب، والمدن، وإشكالية الزراعة، والصناعة ...الخ، فهذه لا تحظى إلا بأقل القليل من الاهتمام، بينما ينصرف الاهتمام كله عند الحديث عن النهضة أو التخلف، إلى الثقافة، وكيف نتعامل مع الآخر؟ وكل إشكاليات الثقافة العربية، في مواجهة الآخر، وإشكالية التخلف، دون أن تكون إشكالية التخلف نفسها، موضوعاً للدرس وللاهتمام، وللإجابة عن التساؤلات الفاعلة وتقديم الحلول والمخارج.
إن لإشكالية النهضة حضور طاغٍ في الفضاء الثقافي العربي، مختزلة فقط في كونها إشكالية ثقافة، "موضوع النهضة والتقدم في العالم العربي الموضوع الأول والأخير. كل سؤال ينبع منه وكل جواب يطمح أن يصب فيه. أنه في أساس العقل و وعي العالم. ويكاد الرجل العامي يستخدمه أكثر من المثقف والسياسي"
يحدد برهان غليون هدف دراسته "اغتيال العقل"، التي يحاول فيها أن يقارب الإشكالية بأنه : "إنما هدفنا أن ندرس مكانة الثقافة دورها و وظيفتها في هذا الصراع، كخطوة أساسية لفهم علاقتها بمسائل المجتمع والتاريخ الأخرى كالنهضة والهوية والتحديث أو العقلانية...إن هذه الوضعية المتميزة التي أخذتها مسألة الصراع بين المعاصرة والأصالة، هي التي تدفعنا اليوم للبدء في إعادة طرح موضوع النهضة العربية على أساس أو انطلاقاً من مناقشة مسألة الثقافة والتوتر الذاتي الذي تعيشه بين قيم الحاضر المعاصر وقيم الماضي التاريخي."
رغم أن الدكتور غليون يقرر "أن ما تعانيه الثقافة العربية من تمزيق وأزمة، ليس إلا انعكاساً لأزمة المجتمع نفسه" ويؤكد مكوناتها "تشارك في تحديدها عوامل مادية وفكرية متنوعة داخلية وخارجية اقتصادية واجتماعية" وأن هذا "سيساعدنا كثيراً في تحرير مسألة النهضة التاريخية من ملابساتها الإيديولوجية وطرحها بشكلها السليم" إلا أن هذا الإستنتاج العملي، لا يجعل الدكتور غليون، ينتقل بنا إلى مناقشة عملية وعلمية، تعنى بالواقع بجوانبه المادية الاقتصادية والاجتماعية، على أساس أن الحلول الحقيقية هي هنا بالضبط.
لا يفعل ذلك، رغم تأكيده على أن طرح القضية بشكلها السليم، يتم بتحرير مسألة النهضة من ملابساتها الإيديولوجية، وردها إلى محدداتها من عوامل مادية وفكرية داخلية وخارجية اقتصادية واجتماعية.
إن من يقرأ هذا التقييم للدكتور برهان، لا بد وأن يتوقع منه، أن يشرع في قراءة وتحليل المشهد الإجتماعي الإقتصادي، وتحديد مشكلاته القياسية، التي يعول على دراستها في زحزحت هذا الواقع العربي عن مكانته المتخلفة، ودفع عجلة النهضة، لكن ما حدث أن مشروع القراءة الذي قدمه غليون، ما لبث أن ارتد على هذه المنطلقات المؤسسة لخطابه، فأعاد تلخيص الأزمة بأنها أزمة عقل-ثقافة، وأن هدف دراسته هو :"وعي الذات أي فهم القاعدة الروحية والعقلية التي ينطلق منها الوعي العربي الراهن ويتأسس عليه ... إذ ليس للانسان الفرد أو المجتمع أن يحدد أهدافه ويبادر إلى العمل وبذل الجهد ما لم يفهم نفسه ويدرك المشكلات التي تواجهه، ويتعرف على ذاته ويحل أولاً تناقضات وعيه وتمزقاته الذاتية" .
هكذا، ينقلب المشروع النقدي على أسسه عند برهان غليون، فيعود لجعل وعي الذات شرطاً موضوعياً لازماً لإحداث النهضة، تماماً كما اشترط الجابري العقل الناهض لإنتاج النهضة، ولكن السؤال المعلق يظل: من أين ستأتي بهذا العقل الناهض، وكيف؟
أليس علينا أن نبدأ بتحديد آليات خلق أو بعث عقلانية وثقافة منتجة بأن نثورها أولاً في واقعها وليس العكس، بأن نضعها على خارطة التغيير، وفي بيئته، وليس أن نشترط عليها خلق هذه البيئة، فنحن هنا نطالب بالإيجاد من عدم، وإذا كان الجابري من البداية قد أسس قراءته على أساس بنيوي مثالي، فإن غليون رد الإشكالية لأسباب التخلف الاقتصادي والاجتماعي كما ينبغي، ومع ذلك فقد انصب اشتغاله على نقد الثقافة، معتبراً أن وعي الذات هو الخطوة الأولى، والشرط الموضوعي اللازم لحدوث النهضة.
ما فعله الجابري، وغليون كذلك، هو تماماً كمطالبة أمِّي لا يعرف القراءة والكتابة، أن يقرأ، ثم يتمثل، كتاباً في فن الإنشاء والتعبير كي يتعلم هذا الفن!
إن التأسيس السليم لفهم إشكالية التخلف، وتحديد المنطلقات الضرورية في النهضة، يبدأ أساساً من تحديد مفهوم النهضة نفسه، النهضة التي نتطلع إلى حدوثها، فما هي النهضة ابتداء؟
"النهضة هي نقلة نوعية تحوي تغيراً جذرياً في الواقع الاقتصادي الاجتماعي، بحيث تتغير أساليب الإنتاج الاقتصادي، بما تتضمنه من طرائق ومواد وتقنيات وعلاقات إنتاج وأشكال ملكية ……الخ، وكذلك بالضرورة، تغير عالم الأفكار والقيم والعادات والقوانين والأنظمة السياسية……الخ."
كل مجتمع يحكمه شكل عام، هذا الشكل يتضمن جانب مادي وجانب قيمي متداخلين، وفي حالة تفاعل وكل منهما شرط للآخر، وحركة هذا الشكل العام مرهونة بالضرورة بالتحولات التي تطرأ على الجانب المادي المعياري القابل للقياس والدافع للتغيير، وذلك عبر جدلية بين البنيتين المادية والقيمية لهذا المجتمع.
إن هذه الحركة في الشكل العام، تأتي نتيجة التناقضات التي يفرزها تغيير الواقع المادي وحراكه المستمر، وطبيعة الحال، أن الجانب القيمي السائد في مجتمع ما، هو بالضرورة أقل تطوراً دائماً من النموذج المتغيير الإيجابي في واقعه المادي - الجانب الثوري التجديدي أو الأرقى والأطور والتجاوزي إن جاز التعبير في هذا الواقع المادي - وهو يستجيب له بتعديل نفسه خلال تجادله معه، ولا تكون حركة الجانب المادي منه مشروطة بحركة الفكر، بل بالحاجة والدوافع المادية المصلحية البحتة؛ بمعنى أن التغير الذي يطرأ على جانب الحياة المادية لا يأتي نتيجة تغيير البنية القيمية، ولا يدفعه تطور المثل والقيم والعادات والأعراف...الخ، بل العكس تماماً هو الصحيح في هذه العلاقة الجدلية داخل بنية المجتمع الكلية، حيث يمارس الجانب القيمي دائماً بنزوعه للتقنين، نوعاً من القيد على اندفاعات التغيير في الواقع المادي، وكلما اكتملت بنية معينة للمجتمع، استقرت وهيمنت على غيرها، وتشكلت لدى هذا المجتمع ثقافة تحافظ على هذه البنية، وتقنن لهذا الشكل، بحيث تتحول هذه الثقافة بكل مسلماتها إلى قيد على التغيير، وشرط من شروط ديمومة الشكل العام القائم للمجتمع .
بالتالي فإن الغاية الرئيسة لمشروع النهضة هي التثوير، أو إطلاق التغيير في الجوانب المادية القياسية من ناحية، وتحرير الجدلية بينها وبين الجوانب القيمية المعيارية من الناحية أخرى، تحريرٌ يتيح للجوانب القيمية القدرة على الاستجابة للتغير، وبالتالي تجاوز نفسها بحرية وفعالية.
نحن أمام بنية كاملة متماسكة ومتداخلة معاً، وتبدو أجزاءها شروط لازمة لبعضها البعض، لذا فإنه من غير الممكن مقاربة الإشكالية على نحو مجزأ، بحيث يعالج أحد جوانب التخلف دون أخرى. وإذا كان بالإمكان توصيف المجتمع الذي يحتاج لعملية نهضة، فإن الوصف الأمثل هو أن هذا المجتمع يعاني حالة من التخلف، والتخلف بدوره ظاهرة قياسية؛ لأن المتخلف هو متخلف بالنسبة لآخر متقدم عليه، وهذا الهامش قابل للقياس من خلال مظاهر المجتمع المختلفة، سواء كانت اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، أو في قطاعات كالتعليم والأمن والبنية التحتية...الخ .
إذا كانت الجوانب المادية والقياسية هي المحرك، أو القادح في عملية النهضة، فإنها توجد في حالة تفاعل جدلي بالضرورة مع الثقافة بكل تشكيلاتها وتجلياتها، والفصل الإجرائي بين الاثنين، قد يكون ضرورياً في بعض مستويات التحفيز والتخطيط، إلا أنه يبدو عبثاً في التصور الشامل والنهائي لما هو نهضة فعلاً.
المحرك الحقيقي دائماً في حيوات الشعوب، هو جانب الحياة المادي القابل للقياس المقارن، وما يستطيع فعلاً أن يفسر لنا كيفية توزيع القوى داخل النسيج الاجتماعي، وبالتالي المصالح وارتباطاتها الحقيقية، فضلاً عن قابليته ليكون موضوعاً للقبول العام، ذلك أن النتائج القياسية دائماً ما تمتلك قوة وسطوة الدلالة الدامغة، على عكس المقارنات القيمية التي يصعب ضحدها، خاصة عندما تكون مدعومة بقوة التراث واستقرار العادة، يقول تعالى في التنزيل الحكيم:{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (170) }(البقرة).
إن كل الظواهر القيمية ترتهن في واقع الأمر للمحركات المصلحية التي توظفها، والقيم والأفكار والقوانين وما تعارف عليه المجتمع، كل هذا ليس كائناً حياً مستقلاً قائماً بذاته ولذاته، بل له ارتباطات حقيقية بالواقع الذي يعيشه المجتمع، وهذا الواقع هو تماماً الذي يتحكم بجدلية هذا الكائن القيمي، ويحدد اتجاه تغيره ونموه وتطوره. فيما تشير الدلائل دائماً إلى ميل القوى المهيمنة والمسيطرة على المنظومة القائمة، إلى الاستفادة من قوة ما استقر وثبت وصارت له سمة القانون العرفي الثقافي، فتعمد إلى توظيفها وجعلها خادمة لمصالحها منسجمة معها، على العكس تماماً من القوى التي تدفع بالاتجاه المغايير، القوى النامية، والتي تعيق القوى المهيمنة تقدمها، بسطوة سيطرتها على المنظومة، وبما توظفه من حشد للقوة الثقافية خلف مصالحها سواء بشكل مباشر أم غير مباشر.
بناء على ذلك فإن المدخل الصحيح لتحديد أين وكيف تبدأ النهضة؟ ينطلق من دراسة هذا الواقع وتحديد قواه الفاعلة سلباً وإيجاباً، داخل نسيجه الاجتماعي الاقتصادي، ومصالحها، وما هو إيجابي منها وما هو سلبي، وما يدفع منها نحو التغيير النهضوي، وما يدفع للمحافظة على التخلف بإدامة سيطرة شروطه؛ أي شروط التخلف.
ليس هذا بحال رفضاً لتطوير الرؤى الاعتقادية والفكرية، بل إننا نعتبرها نتاج طبيعي تطوري لحركة واقع الشعوب، يتفاعل معها ويتبعها ويستجيب لها، ينفعل بها ويفعل على السواء.

السؤال المنطقي إذن: كيف تكون هناك قوة متنامية اجتماعية صاحبة مصلحة حقيقية في التطور والتغيير، ومن هي القوى التي تتصدى لإعاقة التطور؟ تلك هي القضية.
على سبيل المثال لا الحصر نعرف ان المذهب البروتستنتي الذي مثل إصلاحاً دينياً جاء به مارتن لوثر، والذي تبنته ألمانيا مثلاً وشاع في شمال غرب أوربا ، جاء انسجاماً مع الرغبة المتنامية للدولة القومية الأوربية في الفكاك من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية، السؤال هنا لو لم تتوفر الظروف الموضوعية التاريخية الحاضنة لهذا المذهب، هل كان من الممكن أن يكتب له النجاح والانتشار؟!
بطريقة أخرى، لو أن المذهب البروتستنتي ظهر في مرحلة تاريخية سابقة، وخرج مارتن لوثر على الناس بأفكاره تلك قبل قرنين من زمن ظهوره، هل كان ليحفى به ويتحول مذهبه إلى مذهب ديني هو الأوسع انتشاراً مسيحياً، كما هو الحال فعلاً؟
المسألة أن الطرح الفكري والديني الجديد، يأتي استجابة لاحتياجات الجماعات البشرية، يحاكي واقعها هي الاقتصادي الاجتماعي، وكذا القانوني وكل مكونات البنية القيمية للمجتمعات .

المسألة أن الطرح الفكري والديني الجديد، يأتي استجابة لاحتياجات الجماعات البشرية، يحاكي واقعها هي الاقتصادي الاجتماعي، وكذا القانوني وكل مكونات البنية القيمية للمجتمعات .
لعلنا نجد هذا واضحاً جلياً، إذا ما تتبعنا مسيرة القصص في التنزيل الحكيم، فنحن نراه خاصة في مجال الشرائع يتطور وفق تطور البنيات الاقتصادية الإجتماعية، وطبائع العلاقات التي تنتج عنها، ولهذا فإن النسخ الذي كان بين الشرائع يأتي طبيعي ومنسجم مع حقيقة واقع تطور المجتمع الإنساني، ومن العبث إذ الأمر كذلك أن تكون شريعة واحدة منذ البداية لا تبديل فيها وإلا أهدر دور القانون الجوهري فالأصل أن الشرائع تخدم المجتمعات وتنظمها وفق احتياجاتها هي، وليس العكس أي أن المجتمع لم يوجد لخدمة القانون، بل القانون هو الذي وجد لخدمة المجتمع.
أبرز مقاربات إشكالية النهضة العربية المعاصرة، أن المسألة ظلت معلقة بحضور الآخر في الثقافة، وبأزمة الهوية وحماية الأنا، إنها إشكالية أضحت عملية النهضة في ظلها نفسها أسيرة عدم دخول النموذج بكليته في مستويات الحضور الثقافي العربي، وبالتالي فإن المحاولة الإسقاطية التي تمت و تتم، ضرب من الإقحام والتحطيم والتهشيم للثقافة جزئياً وكلياً.
تبقى المشكلة الأخطر أيضاً، وهي ارتباطات مشروع النهضة الحقيقية داخل المجتمع العربي، أي تلك الأقسام الموجودة داخل النسيج العربي ذات المصلحة الحقيقية في تحقيق النهضة، فمشروع بسمارك الألماني مثلاً، كان يستند إلى البرجوازية الألمانية صاحبة المصلحة العضوية في تأسيس الدولة القومية الألمانية الاتحادية، التي من شانها أن تخلق سوقاً موحداً كبيراً، يناسب احتياجات المنتج البرجوازي الألماني، وكذلك دولة توفر الحراك والأمن والانسياب الطبيعي لعناصر الإنتاج .
في الحالة العربية للأسف البالغ أُفقِدَ المشروع النهضوي حملة لوائه الطبيعيين، ذلك أن البرجوازية الوطنية الناشئة في المدن العربية، وحتى الأرستقراطيات الكلاسيكية المؤهلة لقيادة التطور والتحول في البنيات الاقتصادية الإجتماعية، بحكم مركزها القيادي الطليعي في هذه البنية، تم استئصال شأفتها كلياً، لتحل محلها بشكل أساسي طبقة طفيلية أصبحت هي المعضلة الأساسية في بنية المجتمع العربي.
طبقة طفيلية متداخلة في كل بنيات نسيجه الاجتماعي متنفّذة بسلطته، طبقة تهيمن على الجزء الأكبر من دخل هذا الاقتصاد الريعي الذي أساسه النفط وريع الأرض بشكل عام والعلامات والوكالات التجارية، بالتالي فقد تميزت هذه الطبقة الطفيلية بخصائص نجملها بالتالي :

1- ميلها الأساسي للتربح من النشاطات غير الإنتاجية. هي بشكل رئيس تقوم بدور الوسيط المستغل للشركات العالمية الكبرى (شركة نفط، شركات سلاح، علامات تجارية دولية...الخ).

2- تُكرس النمط الاستهلاكي في المجتمعات العربية للمُنتَج الأجنبي.( السيارات والملابس والمطاعم الأجنبية والكهربائيات .....الخ)، لأنها تتربح من تسويقه كطريق أسهل وأسرع للربح وأسرع لحركة السيولة النقدية، وتُحول الفوائض المالية باتجاه المضاربات على الأصول، بعيداً عن التكوين الرأسمالي المنتج.

3- مُلتحمة بالأنظمة السياسية، إذ يصعب تماماً الفصل بينها وبين النظام السياسي القائم، فهي متداخلة فيه عضوياً بل أن معظم نسيج السلطة القائم هو جزء من هذه الطبقة في أغلب الحالات.

4- بحكم سيطرتها على الجزء الأكبر من الدخل فهي صاحبة مصلحة عضوية في استمرار المنظومة القائمة بكل ملامحها سياسياً وقانونياً ودينياً......الخ، لأن أي تغيير في هذه المنظومات القيمية للبنية القيمية للمجتمعات العربية، معناه المساس بمصالحها الحيوية، وبالتالي يمثل الحفاظ على ما هو قائم هدف أساسي واستراتيجي لها، وهي مستعدة – بل هي تقوم بذلك فعلاً - لإنفاق أموال طائلة للترويج لمنظومة القيم المهيمنة، وتكريسها أكثر فأكثر.

من نتائج هذا الوضع :

1- الحيلولة دون نمو قطاعات الإنتاج الحقيقية المادية والخدمية، بصورة تتسق ومستويات الدخل القومي، وهذا ما يفسر نمو الثروات النقدية بمعدلات تفوق بمرحل نمو رأس المال المنتج، وتَكَرُّس الثروة في يد نسبة بسيطة، ونمو الفارق بين الطبقات الاجتماعية المكونة للنسيج الاجتماعي.

2- فساد مالي هائل في القطاع العام، وتوجيه الإنفاق العام بأحجام لا تتناسب مع الدخل إلى إبرام صفقات أهمها صفقات السلاح، دون أي معنى أو مبرر، إلا تحقيق مصالح الشركات المنتجة، وحائزي العمولات من أبناء هذه الطبقات الطفيلية، والأمر ينسحب على أنوع مختلفة من الصفقات التي تبرمها الحكومات .

3- حماية النظام السياسي القائم بقوة هذه الطبقة المالية داخل المجتمعات، والعكس بالعكس، وإعاقة أي تكريس للديمقراطية والحرية وقيم الحضارة المعاصرة، التي تعطي الفرد والفردية في السواد الأعظم من أبناء الشعب هامشاً أكبر، لذا فإن المتوقع في ظل الضغوط الدافعة نحو التحول والتغيير، خاصة تلك القادمة من الخارج، هو تطويرها لنظام ديمقراطي تحت سيطرة هذه النخبة الطفيلية، يستعص على دخول نخب أخرى برؤى مختلفة، بجعله خاضعاً ومعبر عن توزيع الثروة القائم حالياً، وليس المصالح الاجتماعية والوطنية لطبقات أخرى أقدر على قيادة مشروع النهضة، بل قد تتعارض معها بشكل كلي.

4- تدمير أي طليعة طبقية من شأنها أن تنافس الطبقة الطفيلية، أو ابتلاعها داخل نسيجها، وتهميش أي خطاب مغاير ولو بالقوة والقانون (نصر حامد أبو زيد نموذجاً ). هذا التهميش أحد أهم عناصره تغوّل القوة الإعلامية للطبقة الطفيلية، وتمويلها أيضاً للمؤسسة الدينية الرسمية وغير الرسمية في آن معاً.

5- تكريسها لنموذج التدين وفق حاجة ومصالح هذه الطبقة والجهات التي تعمل بخدمتها مصلحياً، مثلاً عندما كان هناك مد يساري وقومي، عملت على تغذية وتمويل منظومة دينية ذات عقيدة قتالية عنفية للتصدي لهذا المد، كانت أبرز تجلياته الجماعات الدينية في مصر، والقتال في أفغانستان، ثم انقلبت عليه بعد أن استنفذ أغراضه، فصارت الآلة الإعلامية الدينية تكفر هذا النموذج الذي أنتجته وتسمه بالتعصب، والآن تعمل على ترويج تدين ذو نزعة صوفية تسليمية منعزلة عن الواقع، توظف الإعلام بشكل متنامي وفعال لعل أبرز ملامحه الداعية عمرو خالد، وبالتهميش والتكفير وأحيانا القانون، تواجه بكل قوة نماذج تحاول أن تقدم تصورات أخرى للدين، وتعمل على تهميشها واستبعادها من الساحات الإعلامية (محمد شحرور نموذجاً) التي تنفتح للون بعينه من الفكر الذي يخدم تلك التوجهات.

الحديث عن النهضة يتطلب وعياً تاماً لخطورة هذه القسمة، ولهيمنة هذه الطبقة بمختلف تجلياتها واستطالتها، ويتطلب رؤية عملية برنامجية، تنطلق من واقع مجتمعاتنا كما سبق وطرحنا.
شعوبنا بحاجة لإستراتيجية تنموية، تقودها طليعة على رأسها برجوازية رأسمالية حقيقية، لها مصلحة عضوية في تحقيق النهضة، تركز على بناء قطاعات الإنتاج، وتوسيع أطر السوق العربية بفاعلية، ونمو التجارة البينية، ومنظومة أفضل لتوزيع الدخل والثروة بين مختلف الطبقات الاجتماعية، وتطوير منظومة التعليم، وربطها بالمؤسسات العالمية الرائدة لضمان كفاءتها وفعاليتها، وتدعيم الحرية في مختلف المجالات، وتكريسها قانونياً وعملياً، ودعم الفئات التنويرية التي تقدم خطاباً حداثياً يخدم قضية التنمية والتطور والحرية ومفاهيم العدل الجديدة.
في هذا الإطار يحتل العلم موقع الصدارة في تصور أو مشروع النهضة؛ فالعلم هو العنصر الأساس في بناء أي نهضة، والقدرة على إنتاج أجيال متعلمة تعليماً منتجاً، يعني بالضرورة إنتاج جيل مبدع، وقادر على حمل أعباء النهضة، وإطلاق الحريات العامة في مختلف المستويات، وحماية المبدعين، وبرامج فعالة لتطوير، وتكريس الممارسات الديمقراطية في مختلف المستويات، أي خلق المجتمع الديمقراطي عبر التربية الحرة الديمقراطية، التي تنطلق من الإنسان بصفته هدفاً نهائياً لها، وتكريس العدل بضمان سيادة القانون قبل كل شيء.
لا بد في إطار هذا المشروع أيضاً من العمل على ردم الهوة المتنامية بين الطبقات، أو تحقيق الشرط الموضوعي للأمن الاجتماعي، وذلك بالعمل الدءوب على ضمان هذا الأمن الاجتماعي من خلال منظومة أفضل للتأهيل ولتوزيع الدخل وحزمة أوسع للأمان الاجتماعي، بما يعنيه هذا الأمن من تأمين للفرد داخل المجتمع، وكفالة لنيله حقوقه الإنسانية التي قررتها له الشرائع الدولية، وميثاق حقوق الإنسان .
إن ما تحتاجه مجتمعاتنا هو برامج عملية، تنطلق من واقعنا، وتجعل الأساس في بنيتها التنمية المجتمعية في مختلف الميادين والمجالات، وتجعل من العلم أداتها التي تعول عليها في تحقيق ذلك، لحل المشكلة من جذورها التي ترتبط بها، ونظام مصرفي موجه لتمويل رأس المال المنتج أساساً، وليس لتمويل ناهبي المال الخاص والعام، والذين يسيئون توظيف الثروة والاستهلاك التخريبي.
إن الرؤية التي قدمنا بها هنا تتخذ من تغيير واقع المجتمع مدخلاً لتغيير الثقافة والقيم، فليس من المعقول أن أطالب الأمي بتأليف كتاب، لكن من المعقول جداً أن أتوقع أن محو الأمية وارتفاع معدلات القراءة، وانتشار المكتبات، وتوفر وشيوع المعرفة والشبكة العنكبوتية، واعتماد تعليم أكاديمي حركي يثير التساؤلات ويفتح العقول على المجاهيل والتناقضات، والتكريس القانوني لحرية التعبير، بالضرورة سينتج لي كتاباً ومفكرين.
بعيداً عن إشكالية النهضة الحقيقية كما طرحناها آنفاً على نحو مختصر، فإن اشتغالات المثقفين العرب دارت عموماً حول أزمة الثقافة والهوية والأنا والآخر، ذلك أن إنتاج الثقافة نفسه أصبح مصاباً بهذا الهاجس، كما سبق وأشرنا بات الشعور بالتحدي الحضاري والتخلف، هو المحرك الذي يحدد الموقف من الأنا و الآخر، وعموماً فإن حمى الخطاب الديني على نحو محدد، كخطاب هوية يستحضر كل ما يمكن استحضاره من التراث، لينتج اقتصاد إسلامي وطب إسلامي ونظام سياسي إسلامي وعلوم إسلامية...الخ، هي التي تجعلنا هنا في دراستنا هذه نستحضر إشكاليات الثقافة والهوية والأنا والآخر والنهضة، في محاولة للتأسيس لمنبع هذا التوجه في الخطاب الثقافي عامة في عالمنا العربي والإسلامي من ناحية، وتصحيح تصور الإشكالية الحقيقية للنهضة من ناحية أخرى.
انتهى
اجمالي القراءات 15028