ليلة القدر هى ليلة الاسراء (7/ 7 )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٢ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

نزول الأقدار ليلة القدر
ـ قلنا: إن الله تعالى خلق الكون من أجل اختبار الإنسان , والملائكة عنصر أساسي في تجهيز ذلك الاختبار . وليلة القدر هي الموعد السنوي لنزول الملائكة بالأقدار , كما كانت موعدا لنزول القرآن .
ـ وفلسفة الاختبار تقوم على أساسين :
(1) ـ حرية الاختيار بين الطاعة والمعصية والإيمان والشرك .. ثم
(2) ـ هناك حتميات على الإنسان التعرض لها دون اختيار , أو الأقدار الحتمية التي لا يحاسب عليها الإنسان مثلما يحاسب على نتائج حريته ه في الاختيار . وهذه الأقدار الحتمية تبدأ بتحديد الميلاد ومن هم الآباء وتنتهي بتجديد موعد ومكان الموت . وبين الميلاد والممات هناك حتميات أخرى في العمر , مثل الرزق والمصائب التي لا دخل للإنسان بها . أي إنه منذ هبوط آدم للأرض ، فإن الله تعالى قد عين لكل إنسان موعد ميلاده وحدد له آباءه , وضمن له رزقه , وكتب عليه المصائب التي سيقابلها والرزق الذي سيدخل جوفه , ونهاية عمره , ومقدار عمره , وكيفية وتوقيت هذا العمر وذلك الموت . والإنسان يتقلب بين هذه الأقدار الحتمية ويمارس حريته في الإرادة والاختيار إلى أن يموت .
وهكذا إلى أن يدخل في هذه " التجربة " أو ذلك الاختبار كل إنسان ، عندها تقوم القيامة , ويأتي يوم الحساب , ويأتي لقاء الله تعالى , حيث تأتي كل نفس بشرية يصحبها اثنان من الملائكة رافقاه في رحلة عمره " سائق وشهيد "ليحاسبه ربه على الاختبار الدنيوي.
ـ إذاً فالروح جبريل نزل ليلة القدر بشيئين .. الوحي القرآني , وأقدار الناس . وبينما يتمتع الناس بالحرية في التمسك بالشرع الإلهي وتكمن مسؤوليتهم على ذلك يوم الحساب ، فإن الناس ليس لهم حرية الاختيار في تحديد الآباء والميلاد والموت والرزق والمصائب وبينما انتهى الوحي السماوي للأنبياء بنزول القرآن على خاتم النبيين فإن المهمة الباقية لجبريل هي النزول بأقدار الناس الحتمية . وتظل هذه مهمته كل ليلة قدر ، كل عام إلى انتهاء العالم .
الحتميات موجودة في علم الله تعالى الأزلي :ـ
يؤكد رب العزة على أنه تعالى يعلم ما تحمل كل أنثى وما تنقص الأرحام وما تزداد , وكل شيء عنده تعالى بمقدار (الرعد : 8) أي أن حمل الأنثى للجنين وولادتها له يكون بعلم سابق وأزلي عند الله تعالى .
وفى نفس المعنى يؤكد رب العزة أنه ما من أنثى تحمل ولا تضع حملها إلا بعلمه , كما أن العد التنازلي للمولود يبدأ من لحظة الميلاد , إذ إن عمره مقدر سلفا وموعد موته مقدر مع موعد ميلاده . وقبل أن يؤول إلى المستوى الحسي. لذلك فإن كل دقيقة يمضيها من عمره يتناقص بها عمره المحدد .لأن العمر هو الشيء الوحيد الذي إذا طال قصر المتبقي منه . وذلك معنى قوله تعالى " وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ، وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلَا يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ.. فاطر : 11 ".
ـ وفى نفس الكتاب المكتوب عند الله تعالى نجد الرزق الذي ضمنه الله تعالى لكل دابة على الأرض , ويقع هذا الرزق المضمون مع أشياء أخرى مسجلة منذ الأزل في علمه تعالى , يقول رب العزة " وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ، وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ، كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ .. هود : 6 " أي أن مستقر الدابة على الأرض ومستودعها النهائي فيها مسجل سلفا مع الرزق في علم الله تعالى , وكل المستقبل الموعود من رزق وغيره نجده في علم الله تعالى " وَفِي السَّمَاء رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ، فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ : الذاريات 22 , 23 ".
ـ والإنسان العادي يخشى الموت , ولكن القرآن يقول " قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ .. الجمعة :8 ".
لأنه لابد أن يلاقيك في لحظة مقدرة سلفا لا تستأخر عنها أو تستقدم ساعة . لذا : حين قال بعض المنافقين بعد غزوة أحد متحسرا على القتلى " لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا " كان الرد من الله تعالى " قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ : آل عمران : 154 ". أي أن الذي جاء أجله سيذهب إلى المكان المحدد له الموت فيه في اللحظة المحددة لموته سلفا . ويلقى أجله بالموت أو بالقتل .وهذا معنى تسمية الموت " بالأجل ". أي أنه بالوقت المحدد الذي ستسير إليه حتما .
ـ والإنسان العادي يتحاشى المصائب , ولكن المؤمن يعلم أن المصائب مقررة سلفا على كل إنسان . طبقا لقوله تعالى " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ : الأنبياء : 35 " . ولذلك فإن المؤمن يقول " قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا : التوبة : 51 " . أي من بين كل احتمالات الخير والسوء مما لا دخل لك به فلن يصيبك إلا ما كتبه الله سلفا لك أو عليك من ابتلاء بالخير أو بالشر . والتزاوج مستمر بين الشر والخير , والأمر فيها نسبي , لذا فالمؤمن يعلم أن كل ما يقع في الأرض من حتميات لا يستطيع التحكم بها إنما هو مقدر سلفا في كتاب الله تعالى قبل خلق الأرض والبشر . يقول تعالى " مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِير . لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ الحديد 22, 23" .
ـ إذاً هو تسجيل سابق في علم الله يحتوى على حتميات يتعين على كل إنسان أن يواجهها في ميلاده وفى حياته وفي موته . ولكن هذا التسجيل السابق الغيبي يلحق به في مسيرة كل إنسان تسجيل لاحق يحصي عليه كل أعماله وخواطره وأقواله , ويأتي الحساب على حريته في الإرادة , وليس على الخطأ والنسيان والإكراه والإجبار والنوم والجنون فيما قال وفعل . وفى هذا التسجيل للكتاب اللاحق يقول تعالى " وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ، وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا .اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ، مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ ، وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا : الإسراء : 13: 15" . أي أن ما يطير عنك إلى عالم البرزخ من أعمال وأقوال يتم تسجيلها وحفظها , وتتجمع في كتاب يحوي تاريخك يتم قفله عند الموت وتراه عند البعث والحساب منشورا يوم القيامة .
إذاً هناك تسجيلان لك . تسجيل بالحتميات التي ستقابلها في حياتك الدنيوية ولن تحاسب عليها . وتسجيل بأعمالك , وهو محل الاختيار والاختبار والمساءلة يوم الحساب .
والتسجيل السابق في علم الله تعالى الأزلي يظل علما مكتوبا , ولكنه يتحول إلى دائرة الفعل والتطبيق عن طريق الملائكة . تتلقاه الملائكة وتنزل به إلى الأرض والبشر في موعد محدد كل عام , هو ليلة القدر .

الملائكة وانتقال الحتميات من دائرة العلم إلى دائرة الفعل :ـ
الزمن هو الحاضر الغائب هنا .
ـ كما تعلم فإن الزمن هو الضلع الرابع للمادة . وحيث توجد المادة يوجد الزمن , والإنسان بجسده ونفسه ، يعيش في إطار الزمن , فإذا نام وتحررت نفسه من أسر الجسد تحرر أيضا من أسر الزمن . فإذا استيقظ عاد للجسد والزمن معا . ونفس الإنسان في النوم وفى الموت تعود إلى عالم البرزخ الذي أتت منه . إلا أنها فى حالة النوم تعود بالاستيقاظ , وفى حالة الموت لا تعود إلا عند البعث . وفى الحالتين معا فإن الإنسان حين يعود لليقظة أو عند البعث فلا يحس بالزمن الذي انقضى وهو البرزخ . يعتقد في كل الأحوال أنه نام أو مات يوما أو بعض يوم . قالها الرجل الذي أماته الله مئة عام ثم بعثه ( البقرة 259 ) وقالها أصحاب الكهف (الكهف 19) وسيقولها المجرمون عند البعث (الروم 55 ـ) أي أن البرزخ ليس فيه زمن . أو أن زمنه معكوس أو مختلف .. علم ذلك في غيب الله تعالى .
ـ ولكن الله تعالى يخبرنا في كتابه باختلاف الأزمنة فيما يتعلق باختلاف المستويات والأوامر .
فالله تعالى يقول " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . النحل : 1". أي أن أمر الله تعالى بقيام الساعة قد صدر فعلا طبقا للمستوى الإلهي في الأمر . لكن تطبيق هذا الأمر بقيام الساعة يستلزم أن نصل نحن إلى الزمن المناسب المقدر سلفا , لذلك يقول الله تعالى " أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ . " .
وهناك مثل آخر على تفاوت الزمن ، فالله تعالى يقول في سورة الأحزاب بعد موقعة الأحزاب عن اليهود " وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَّمْ تَطَؤُوهَا: الأحزاب 27" . وحين نزلت الآية كانوا قد ورثوا فعلا بني قريظة بعد خيانتهم العهد . ولكن الأرض الأخرى التي لم يطؤوها بعد لم يكونوا قد ورثوها بعد . وهذا ما حدث في الفتوحات . ونزل القرآن يخبر به من علم الله تعالى الغيبي . والمعنى أن الأمر الإلهي قد صدر ولكن التنفيذ يأتي في أوانه .
ـ واختلاف الزمن بين عالمنا الأرضي وبين العوالم الأخرى يقول عنه رب العزة " وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَن يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ ، وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ . الحج 47 " . ويقول تعالى في سرعة تردد الأمر بين السماء والأرض " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ: السجدة 5 " . وهذا الاختلاف الزمني يستلزم نقطة زمنية للالتقاء , هي ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر . وحيث يتكرر شهر رمضان ألف مرة كل عام فإن ذلك اليوم الإلهي الذي تتلقى فيه الملائكة أوامر الله تعالى وأقداره وتنزل به للبشر يساوى هو الآخر ألف سنة في حساب الزمن الأرضي .
ـ وحتى نزيد الأمر وضوحا فإننا نعطى مثلا بحياة نفس بشرية هي فلان .
فلان هذا خلق الله تعالى نفسه البشرية في نفس الوقت الذي خلق فيه كل الأنفس البشرية معا . لأن الله تعالى خلق الأنفس البشرية كلها معا . وذلك في عالم البرزخ , ويقول تعالى " يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ : النساء : 1" , " وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ " الأنعام : 98 ". أي من نفس واحدة خرجت كل الأنفس البشرية , في كل منها مستقر الأنفس السابقة التي تسلسلت عنها , وفيها مستودع الأنفس اللاحقة التي سـتـتـسـلـسل عنها . وعند البعث يحدث الأمر ولكن بصورة عكسية , حيث ترجع الأنفس إلى الأصل الواحد الذي صدرت عنه , يقول تعالى " مَّا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لقمان : 28 " .
والمهم ونحن نرجع الآن إلى نفس فلان التي خلقت مع جميع الأنفس البشرية في وقت واحد . تظل في البرزخ ميتة إلى أن يأتي دورها المقدر لتدخل اختبار الحياة ، وفى الموعد المحدد يتم نفخها في الجنين وقد تم الاختيار الإلهي لموقعها في التسلسل بين آبائها وذريتها . وحين ترتدي النفس زى الجسد تخضع للزمن الأرضي وتخرج للحياة لتواجه اختبار الدنيا بحريتها في الإرادة ولتواجه الحتميات الأخرى ومنها الرزق والمصائب وتحديد موعد ومكان الموت . ثم يأتيها الموت وترى عنده ملائكة الموت وتعلم مصيرها وتعود إلى البرزخ .
وفى هذا البرزخ توجد الأنفس الأخرى التي أخذت تجربتها في الحياة , والأنفس الأخرى التي لم تأخذ تجربتها بعد . ولكن الأنفس التي أخذت تجربتها في الحياة تصطحب معها نتيجة التجربة . حدث هذا مع الآباء وسيحدث مع الأحفاد الذين لا تزال نفوسهم ميتة في عالم البرزخ لم تدخل تجربة الحياة بعد .
وما حدث مع نفس فلان . سيحدث مع كل فلان إلى أن تأخذ كل نفس تجربتها واختبارها وبعدها تقوم الساعة .
ـ ولكن ما دور الملائكة هنا ؟ وما موقع ليلة القدر في قصة نفس فلان هذا ؟.
إن نفس فلان في موتتها الأول قبل أن تدخل تجربة أو اختبار الحياة لا تعلم عنها الملائكة شيئا . إنها رقم مستقر في علم الله تعالى لم يدخل بعد في دائرة الفعل والتنفيذ . وحين يأتي الأمر الإلهي بتوقيته وتحقيقه وإدخاله الاختبار تتلقى الملائكة والروح رقمه ضمن أرقام المواليد المقرر ولادتهم في العام القادم . ويحدث ذلك ليلة القدر , ويشمل الأمر كل ما تحمله الملائكة في هذه الليلة من علم الله تعالى الذي سيتحقق في العام القادم من مصائب وأرزاق ومواليد ووفيات.إذاً في ليلة القدر يأتي الأمر الإلهي بولادة فلان في الوقت المحدد لولادته , وفى ليلة القدر في العالم التالي يأتي ما يتعرض له من أقدار،وهكذا كل عام مقدر له أن يعيشه في هذه الدنيا،إلى أن تأتى ليلة القدر الأخيرة في عمره برقمه بين وفيات العام القادم.
هذا ما يحدث لفلان الذي هو أنا وأنت وهو و هي .. فأنا مثلا قبل موعد ميلادي بخمس سنوات كنت مجرد رقم ثم تحول هذا الرقم إلى حادث يوم أن تم نفخ نفسي في قطعة لحم حية في رحم والدتي .
ثم خرجت إلى الحياة بالميلاد . وفى كل ليلة قدر تنزل فيها أقداري للعام المقبل .والله تعالى هو الأعلم متى ستأتي ليلة القدر التي تحمل فيها الملائكة موعد موتي في العام التالي .
ـ وبالتأكيد فإن هناك ملائكة الموت الذين يتسلمون الأوامر الإلهية من الروح والملائكة أصحاب " الملأ الأعلى " الذين يتنزلون بالأوامر الإلهية وأقدار البشر ليلة القدر .
أي أنه إلى جانب الروح والملائكة هناك ملائكة أخرى تقوم بتحويل الأوامر إلى أعمال . وأبرزهم ملائكة الموت الذين يقبضون النفس عند انتهاء أجلها . وملائكة الموت يتبعون ملك الموت . ولهذا فإن حديث القرآن عن الموت له مستويات ثلاثة : المستوى الإلهي بالأمر الذي تنزل به الملائكة والروح "اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنفُسَ حِينَ مَوْتِهَا الزمر : 42 " , ومستوى التنفيذ العلوي لملك الموت " قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ السجدة : 11 ". ثم أتباع ملك الموت من رسل الموت " حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ : الأنعام 61 ", وما ينطبق على الموت ينطبق على غيره من الحتميات ..
نبذة عن ليلة القدر في ضوء العلم الحديث
ـ كاتب هذه السطور ليس متخصصا إلا فى القرآن والتراث . وبالتأكيد فان المتخصص في العلم الحديث يستطيع أن يعيد كتابة الصفحات السابقة بصورة علمية تربط بين الآيات القرآنية وما وصل إليه العلم الحديث . مع الأخذ في الاعتبار أن الإعجاز القرآني متجدد , وأن هناك مناطق في القرآن لم يصل إليها العلم الحديث بعد ..
لكن كاتب هذه السطور في محاولته المتواضعة إنما يقدم دعوة للمتخصصين في العلم ليقدموا اجتهاداتهم حول ليلة القدر ، وبنفس الإخلاص يقدم دعوة أخرى لكل مسلم لكي يعطى القرآن العظيم بعض حقوقه علينا في التدبر والتقدير والتقديس والاهتمام ..
ـ ومما لا شك فيه أن ثورة المعلومات وثورة الاتصالات قد أشعرت الإنسان بقدرة الله تعالى أكثر , بحيث تضاءل عدد الذين انبهروا قديما بمنجزات الثورة الصناعية , فقد اتضح أن الجزء الخفي الغيبي في مجال إدراكنا البشري يمكن استخدامه . ونرى تكنولوجيا هذا الاستخدام في التليفون المحمول والتليفزيون والأقمار الصناعية والانترنت , وكلها تؤكد أن مجال التقدم العلمي القادم سيكون أكثره في العالم الخفي عنا الذي يقع في مجال إدراكنا البشري . وذلك يؤكد أيضا أن عالم الغيب الذي يقع خارج إدراكنا البشري مثل عوالم البرزخ والملائكة والجن والشياطين سيكون من السهل الإيمان بها علميا , بعد أن اتضح أن عالمنا المادي الظاهر ليس إلا قمة جبل الثلج الطافي .
على أن بعض الحقائق العلمية التي اكتشفها الإنسان واستخدمها من تكنولوجيا قد جعلته يلامس بعض مظاهر عوالم البرزخ . ونعطى لذلك بعض الأمثلة المتصلة بموضوعنا عن ليلة القدر وملامحها من الملائكة ونزول الوحي ونزول الأقدار ..
ـ أعلن اينشتاين نظريته النسبية الخاصة سنة 1905 م أكد أن الكون المادي رباعي الأبعاد . ( المادة + الزمن ) وأن سرعة الضوء في الفراغ هي الثابت المطلق والحد الأقصى للسرعة الكونية في هذا العالم المادي , وكل المقادير الفيزيائية تنسب لهذه السرعة (186 ألف ميل/ ثانية ) أو (299792.5كم / ثانية ) ..
وفى مقال للدكتور منصور حسب النبي في الأهرام ( 11/5/1995 ) قام بتفسير علمي لقوله تعالى " يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاء إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : السجدة : 5" , " وَإِنَّ يَوْمًا عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ : الحج : 47 " فقال إن العبارة القرآنية " مما تعدون " أي بالحساب البشرى , أي بالزمن الأرضي وعليه فإن المسافة التي يقطعها الأمر الكوني في زمن يوم أرضي تساوي في الحد والمقدار المسافة التي يقطعها القمر في مداره حول الأرض في زمن ألف سنة قمرية بحساب أهل الأرض . وبحل هذه المعادلة القرآنية ينتج لنا أن سرعة هذا الأمر بالحساب الأرضي يساوى بالضبط سرعة الضوء فى الفراغ أي186 ألف ميل في الثانية أو 299792.5كم /الثانية وفي نفس المقال يقول د. منصور حسب النبي أن معادلات اينشتاين تنبأت قبل نظرية الأوتار الفائقة باحتمال تجاوز سرعة الضوء لجسيمات افتراضية غيبية ذات كتلة تخيلية تسمى التاكيون .
كما تنبأت نظرية الأوتار الفائقة بوجود كون آخر سداسي الأبعاد متداخل مع كوننا الرباعي الأبعاد والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء ولكنها لا تخضع لقياسنا . أي أنه عالم الغيب الذي تحدثت عنه الرسالات السماوية والذي تشكل ليلة القدر نقطة اتصال بينه وبين عالم الشهادة ..
ـ ولنفترض أن فلانا يعيش في القاهرة وله أخ يعيش في الإسكندرية وكان قدر أخيه في الإسكندرية أن يموت في الساعة العاشرة من صباح أول مايو في حادثة في المكان الفلاني . ولنفرض أن فلانا هذا يريد السفر إلى أخيه في الإسكندرية في توقيت مقارب للحادث الذي سيحدث لأخيه وهو لا يعلم بالضبط , وان كان ذلك الحادث قد تم تضمينه ضمن الأقدار وذلك ليلة القدر في شهر رمضان الحالي والتي ستحدث في العام التالي .
والمهم أن صاحبنا يسافر إلى أخيه في الإسكندرية والمسافة بين القاهرة والإسكندرية ( 250كم ) ونريد أن نجعله يصل إلى أخيه في نفس اللحظة التي ستحدث له فيها حادثة موته . فإذا ركب قطارا سيصل إلى أخيه بعد الحادثة بعدة ساعات . فإذا ركب طائرة وصل بعد الحادثة بأقل من ساعة ولكنه إذا سافر بسرعة الضوء فقد يصل عند الحادثة بالضبط , أي أن الزمن يتضاءل حسب السرعة , فإذا سافر الإنسان بسرعة الضوء انمحى الزمن . ولكن يبقى أن الضوء في حد ذاته مادة . فإذا سافر الإنسان فرضا بسرعة تفوق سرعة الضوء فإنه حينئذ يرى الحادثة قبل وقوعها . أي يراها في عالم الغيب.. وهذا يحدث .. في الأحلام التي تنبئ عن المستقبل ..
ففي المنام تتحرر النفس البشرية من الجسد وتظل على صلة خفية به . ولأنها تنتمي إلى عالم البرزخ حيث السرعة فيه تفوق سرعة الضوء في عالمنا المادي فإن النفس في تجوالها بهذه السرعة قد تصطدم ببعض الأحداث وهى في صورة معنوية لم تتجسد واقعا ماديا في دنيانا . ولهذا ترى هذه المعاني في صورة تحتاج في اليقظة إلى تأويل وتفسير وتحقيق وقصة يوسف خير مثال على ذلك , إذ إنها قامت على أربع رؤى صادقة رؤيا يوسف ورؤيا صاحبي يوسف في السجن , ورؤيا الملك . والأنفس الأربعة لهم جالت في البرزخ ورأت أحداثا مستقبلية . ودارت الأيام وتحققت هذه المنامات . وهذا يعنى أن هناك مستويات مختلفة للملائكة وسرعاتها وتعاملها مع الأوامر الإلهية . وفى سورة المعارج يقول تعالى عن الروح والملائكة العلويين " تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ : المعا رج : 4"
أي أن الأمر الإلهي يأخذه جبريل والملائكة العُلْويون في زمن مختلف عند العروج لله تعالى , ثم يأخذ هذا الأمر مقياسا آخر في مستوى أقل في التعامل بين الملائكة حيث يساوى ألف سنة بحسابنا الأرضي . والنفس البشرية في المنام قد تتجول فتصطدم بنبأ في مستوى الألف عام , وقد تصطدم بنبأ في مستوى أعلى . ولكن ليلة القدر تتنزل فيه الأوامر والأقدار التي للعام التالي .. والله تعالى أعلم.
ـ والدكتور حسب النبي تحدث عما أشارت إليه النظرية النسبية ونظرية الأوتار الفائقة من وجود عالم سداسي الأبعاد متداخل مع عالمنا الأرضي الرباعي الأبعاد , والسرعة فيه تفوق سرعة الضوء . وهو هنا يشير إلى اكتشاف آخر أكثر غرابة .
فقد اتضح أن ذرات المادة الأرضية تدور بسرعة تتراوح بين 400 مليار دورة إلى 750 مليار دورة في الثانية الواحدة , وإذا استطاعت ذرة مادية أن تدور فوق 750 ألف مليون دورة في الثانية فإننا لا نستطيع أن نراها . وهذا يفسر لنا السبب في أن مروحة الطائرة إذا اشتد دورانها فإننا لا نراها مع أنها موجودة .. وهكذا بالنسبة لذرات الهواء والذرات المتطايرة من المواد الأخرى والتي نحس بها عن طريق الرائحة دون الرؤية ..
وذرات العالم السداسي الأبعاد أسرع دورانا وبهذا تخرج عن المستوى الاهتزازي لعالمنا المادي فلا نستطيع أن نراها . ومن العالم الذي لا نراه الجن والملائكة والشياطين , وحتى النفس البشرية خارجا عن الجسد . وقد دل علم الميكانيكا الموجية على أن الأساس في تداخل الأجسام أو عدم تداخلها يرجع إلى اختلاف المستوى الاهتزازي لهذه الأجسام أو تطابقه . فإذا كان المستوى الاهتزازي لهما واحدا لانتمائهما إلى نفس العالم فإن تداخلهما يكون مستحيلا , فلا يستطيع الإنسان أن يخترق بجسده الحائط لأن المجال الاهتزازي بينهما واحد . أما إذا اختلف المجال الاهتزازي فيستطيع الكائن الأكثر اهتزازا أن يخترق الكائن الأقل اهتزازا . فالجن والملائكة تستطيع اختراق الجسد الإنساني والعالم المادي . ويكون التداخل بينهما طبيعيا . وعلى ذلك فان وجود جسمين أحدهما أرضى والأخر برزخي متداخلين ويشغلان مكانا واحدا في وقت واحد يعتبر ظاهرة طبيعية يؤيدها العلم . وجهاز الراديو أبرز مثال على ذلك فالكون ممتلئ بموجات لاسلكية تخترق الجدران لأن ذبذباتها أعلى من نظيرتها في العالم المادي وهي في نفس الوقت مختلفة الذبذبات لذلك تتداخل في جهاز الراديو ولا يحس بعضها ببعض ولا يؤثر بعضها على بعض , وكلها في نفس جهاز الراديو , فإذا استقر مفتاح الراديو على موجة معينة التقطها دون أن يعوقه وجود موجة أخرى في نفس المكان أو نفس المحطة لأنها ذات ذبذبة أخرى . فإذا أردنا التشويش على محطة بعينها استخدمنا نفس الذبذبة ..
إذاً فالإنسان يعيش في عالمين متداخلين ولكل منهما مستوى اهتزازي يغاير الآخر . ويتداخل الجسمان : الجسد الأرضي والنفس البرزخية في كائن واحد ومكان واحد .
والإنسان أيضا لا يرى الملائكة بعين جسده , ومن الملائكة رقيب وعتيد , وهما مقترنان بكل إنسان يحفظان أعماله , ومع اقترانهما به ومعرفتهما به فإنه لا يدرى عنهما شيئا . ولا يكشف ذلك إلا عندما يموت لحظة الاحتضار وعند البعث عندما ينكشف عنه الغطاء ..
والنبي محمد في ليلة القدر انكشف عنه الغطاء فرأى جبريل والعالم البرزخي ورأى من آيات ربه الكبرى . ومنها سدرة المنتهى وجنة المأوى التي يعيش فيها من يقتلون في سبيل الله ويعيشون فيها متنعمين حيث لا نشعر بهم نحن في عالمنا المادي , وان كانوا يحسون بنا ( البقرة : 154 , آل عمران ـ 169 ـ ) ..
أي أن العالم البرزخي يحيط بنا بكل من فيه من ملائكة وشياطين وجان . وبكل ما فيه من أخبار وأنباء , كلها مستقرة فيه إما أنها وجدت وسجلت من خلال أولئك الذين عاشوا وماتوا أو أنها لم تحدث بعد وظلت مجرد أنباء وأخبار والله تعالى يقول " لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ، وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ : الأنعام : 67"
وسيأتي الوقت الذي سنعلم فيه .
ونرجو ألا نندم عندما نعلم .. حيث لا ينفع الندم ..
 
 
 
اجمالي القراءات 23316