ليلة القدر هى ليلة الاسراء (4 / 7 )

آحمد صبحي منصور في الأربعاء ١٢ - أغسطس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

بين نزول القرآن مكتوبا ومقروءا وبشرية النبي محمد :
بالوحي يتميز النبي ـ أي نبي ـ عن بقية البشر. بدون الوحي الإلهي هو بشر ، وبالوحي الإلهي هو أيضا بشر ولكن يوحى إليه ، أمر الله تعالى محمدا عليه السلام أن يعلن أنه بشر مثل قومه ولكن يوحى إليه: (قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ ) ( الكهف 110).وقال الله جل وعلا عن قريش ورفضها الوحي الذي نزل على رجل منهم هو محمد بن عبدا لله : (أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ ممِّنْهُمْ ) ( يونس 2 ) وقال تعالى عن كل الأنبياء أنهم كانوا رجالا بشرا ولكن يوحى إليهم :(وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ ) ( الأنبياء 7 )
هذا الوضع الاستثنائي للنبي ـ أي نبي ـ يجعل له شخصية مزدوجة ، فهو الذي يبلغ الوحي الذي يجب على البشر طاعته ، وهو في نفس الوقت يجب أن يكون أول البشر في طاعة ذلك الوحي . بمعنى آخر يكون آمرا بصفته رسولا ينطق بالوحي الإلهي ، ويكون مأمورا بطاعة نفس الأمر الذي ينطق به ،فهو الرسول الناطق بالرسالة الإلهية والأوامر الربانية وهو في نفس الوقت من ضمن البشر المطالبين بتنفيذ وطاعة تلك الأوامر البشرية.
ومن الطبيعي أن ينتج عن هذا الازدواج بعض التداخل ، وأن يثير هذا الاستثناء بعض التساؤل .
منها تساؤلات عامة عن كل نبي حول مدى تطبيقه لأوامر الله جل وعلا ، وما ينزل من وحي يعلق و يعقب على ما قد يحدث من ذلك النبي من قصور يستدعي بعض المآخذ.
هذه التساؤلات تنطبق على حالة خاتم النبيين محمد عليه وعلى الأنبياء السلام .
ولكن حالة النبي محمد فريدة هنا لأسباب شتى منها : أنه خاتم النبيين أي أن رسالته هي الرسالة النهائية للبشر إلى قيام الساعة ، وهى المحفوظة من قبل الله تعالى إلى قيام الساعة. ومنها ،أنه عليه السلام قد تلقى الوحي القرآني مرة مكتوبا دفعة واحدة ، ثم تلقاه على لسانه حسب الحوادث ، وبالتالي فلا بد من التساؤل عن ذلك الوحي الذي كان يصاحب النبي في حياته معلقا عليها ،
ألم يكن النبي محمد يعلمه مقدما قبل حدوثه ؟.
إن الأحداث التي جاء بها الوحي القرآني تنقسم إلى ثلاثة أنواع: أحداث تتعلق بالماضي عن الأنبياء السابقين والأمم السابقة وخلق العالم وخلق آدم ، وأحداث تتعلق بالمستقبل عن قيام الساعة وعلامات الساعة وما سيحدث في الآخرة ، وأحداث معاصرة كان الوحي ينزل تعليقا عليها بالتوجيه والتأنيب والتشريع .
وطبقا لنزول القرآن الكريم كتابا مكتوبا على قلبه مرة واحدة فالمنتظر أنه كان يعرف المكتوب في قلبه أي يعرف مقدما ما سيقع له من هزائم ومن أخطاء يترتب عليها تأنيب ، أو يعرف الأسئلة التي ستوجه إليه فيمكنه الإجابة عليها دون أن ينتظر الوحي المقروء ليقول له (يسألونك عن ..) ( قل ) .
القرآن الكريم ينفى هذا كله ، ولكن الأمر يحتاج توضيحا.
هذا التوضيح يقوم على حقيقتين من القرآن الكريم : الأولى هي حفظ الله تعالى للقرآن الكريم بما يتعدى إمكانات النبي محمد وضعفه البشري ، والثانية هي أن النبي محمدا لم يكن يعلم الغيب ، ومن ضمن ذلك الغيب المحجوب عنه هو ذلك الوحي المكتوب في فؤاده والذي لم يكن يعرف شيئا منه إلا حين ينزل القرآن المقروء على لسانه تعقيبا على حدث ما أو إجابة على تساؤل ما.
ونعطي توضيحا أكثر:
النبي محمد كان لا يعلم الغيب :
لقد نزل القرآن مرة واحدة كتابا مكتوبا في ليلة القدر من شهر رمضان ، وهو مرتبط بمغزى ومعنى تلك الليلة (ليلة القدر ) أي وثيق الصلة بما نشير إليه الآن عن الغيب المقدر للعباد من أمر الله تعالى . ومن الغيب ذلك القرآن المكتوب كتابا حكيما في قلب النبي محمد عندما التقى جبريل وكان قاب قوسين أو أدنى .
النبي محمد لم يكن يعلم الغيب ، ومن الغيب ذلك الوحي القرآني المكتوب في فؤاده . هذا المكتوب في فؤاد النبي محمد كان ضمن الغيب الذي لا يعلمه إلا الله جل وعلا. ولكن بمجرد أن يأتي الوحي القرآني على لسانه تبعا للأحداث كان الغيب المكنون في فؤاده عليه السلام يصبح معلوما ، و يصعد معنى الآية إلى وعيه ويؤثر على لسانه .. ومن هنا نفهم قوله تعالى يربط بين الكتاب الحكيم والغيب (ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ) ( البقرة 2: 3 ) ، ونفهم أيضا قوله تعالى للنبي محمد ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ ) ( يوسف 102) (تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ )( هود 49 ) (ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ )(آل عمران 44 ) فلم يكن عليه السلام يعلم كل تلك الأمور الغيبية الماضية عن تفصيلات قصص الأنبياء السابقين كما لم يكن يعلم الأمور الغيبية المستقبلية التي كانت ستحدث له ، والوحي المكتوب في قلبه والذي سيتنزل على لسانه مقروءا معلقا على تلك الأحداث المستقبلية. ظل وحيا مكتوبا داخل فؤاده إلى أن نزل الوحي المقروء على لسانه فتذكر وعلم ما لم يكن يعلم.
وهكذا لم يكن عليه السلام يعلم في كل حياته ما سيجد من أحداث وما ستأتيه من أسئلة وما سيقع منه من هفوات و أخطاء يتعرض بسببها للتذكير و التأنيب ، وما كان سيحدث له من أحزان وآلام وهزائم ومكائد نزل القرآن الكريم يعلق عليها. كل ذلك كان غيبا قبل وقوعه بالنسبة للنبي محمد عليه السلام ،ثم أصبح في علم الشهادة و التحقق حين جاء وقته. وأزعم أنه كان لا بد من ألا يعلم النبى محمد الغيب، وأن يأتي التأكيد على ذلك في القرآن الكريم ليس حفظا للقرآن الكريم فحسب لكنه حجة على من أسند للنبي محمد عليه السلام زورا أنه كان يعلم الغيب أيضا.

حفظ الله تعالى التنزيل القرآني بما يتجاوز إمكانات النبي محمد البشرية:
هناك ثلاثة مراحل لحفظ الله جل وعلا للتنزيل القرآني :
الأولى : حفظه للوحي القرآني لحظة انتقاله من العالم العلوي إلى قلب النبي محمد في عالمنا المادي ، والقلب في مصطلحات القرآن هي النفس أو الفؤاد . هنا يقع المستوى اللامادي ، الذي لا نعرف عنه شيئا والذي يكتنف عالمنا المادي ويتخلله ويتجاوزه، وحيث ينعدم الزمن الذي نعرفه وتتجاوز السرعة حدود معرفتنا البشرية طبقا لإشارات القرآن الكريم.
يتضمن هذا المجال الملأ الأعلى من الملائكة ثم عالم البرزخ الذي توجد فيه النفس البشرية وعوالم الغيب الأخرى من الجن و الشياطين والقرين والملائكة خارج الملأ الأعلى. أقل المستويات في هذا العالم العلوي هو البرزخ الذي تدلف إليه النفس البشرية عندما تتحرر من روابط الجسد المادي مؤقتا عند النوم ، ومطلقا عند الموت .
حدود معرفة البشر بهذا العالم تقترب من الصفر ، ولكن العلم البشري الآن وصل إلى حواف هذا العالم عندما تعرف على الطاقة و الأشعة والموجات ، وكلها تنتمي إلى عالمنا المادي ، وتعتبر جزءا منه، ولكنها تعتبر دليلا على وجود عوالم أخرى بذبذبات أسرع وموجات أقصر وأعمق لا نستطيع الوصول إليها بحكم طبيعتنا المادية ، وإن كانت متداخلة فينا وتكتنفنا في نفس الحيّز المكاني كما يحدث في اكتنافنا بملائكة كتابة العمل حيث يتداخل في كل امرئ زوجان من الملائكة، ولن يراهما إلا عند البعث حين يتخلص الإنسان من ذلك الجسد المادي ،أو الغطاء الثقيل الذي كان يحجب عنه رؤية تلك العوالم ، يقول تعالى (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) ( ق 17 : 22 ) وحيث يقوم القرين الشيطاني بتزيين العصيان لكل مجرم ابتعد عن نور القرآن ، ويظل العاصي من البشر يتبع وسوسته إلى أن يأتي يوم القيامة فيراه معه في الجحيم فيتبرأ منه بعد فوات الأوان ، يقول تعالى (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ ) ( الزخرف 36 ـ ).
ومعرفتنا المحدودة بعوالم الطاقة و الموجات مكنتنا من اختراعات اللاسلكي ثم تطورت إلى ثورة الاتصالات الحالية . وربما يقربنا هذا من فهم ما جاء في القرآن الكريم وهو يتحدث منذ 14 قرنا عن حفظ الوحي الإلهي حين كان يخترق تلك العوالم العليا من الملأ الأعلى إلى المستوى البرزخي حيث توجد نفس النبي محمد وسائر أنفس البشر ، وحيث توجد أيضا عوالم الجن والملائكة الآخرين والشياطين، وتلك الشياطين قد تخصصت في إضلال بني آدم بنفس ما يتخصص الوحي الإلهي في الدعوة لهدايتهم .
من الممكن أن نفهم وفق لغتنا البشرية أن حفظ الوحي هنا كان بمنع تداخل البث الموجي من كائنات ذلك العالم غير المادي من الجن والشياطين مع الوحي الإلهي حتى يصل الوحي نقيا إلى نفس أو قلب أو فؤاد خاتم النبيين محمد عليه وعليهم السلام، وأن ذلك المنع ترتب عليه طرد الجن والشياطين الذين اعتادوا التنصت على الملأ الأعلى الذي لا يقدرون على الدخول إليه .يقول تعالى : (إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاء الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ وَحِفْظًا مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلإِ الأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِن كُلِّ جَانِبٍ ) ( الصافات 6 إلى 8). وحين جدّ هذا المنع تساءلوا عما يحدث لأهل الأرض، فيذكر رب العزة جل وعلا ما قالته الجن الذين آمنوا بالقرآن الكريم :(وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا وَأَنَّا لا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا ) (الجن 8 إلى 10).
الثانية : بعد وصول الوحي الإلهي نقيا إلى قلب ونفس النبي محمد ـ وكل نفس بشرية في داخل جسدها هي أيضا غيب ـ فإن الحفظ الإلهي يكون بالتحكم في نفس محمد خارج قدرة محمد كبشر وإنسان . هنا تأتى المرحلة الثانية من حفظ الوحي الإلهي داخل نفس محمد وفوق إمكاناته كبشر وإنسان . تأتى بعد نقل الوحي القرآني على يد جبريل مكتوبا مطبوعا في قلب النبي . وفيها لم يكن في وسع النبي وهواه البشري وضعفه الإنساني أن يؤثر في حفظ هذا الوحي أو في تبليغه.
1 ـ فالرسول مأمور بتبليغ الوحي ، وتلك هي وظيفته فما عليه سوى البلاغ ، والله تعالى قد تكفل ليس بحفظ الوحي فقط ولكن أيضا بحفظ النبي من أي تصرف بشري يمنع الرسول أو يعيقه في عملية تبليغ الوحي ، يقول تعالى : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ) (المائدة 67 )، فقوله تعالى ( ) أي يحفظك من الناس فلا يستطيع مخلوق من البشر أن يمنعك من التبليغ .
2 ـ فكيف إذا سولت للنبي نفسه أن يفتري على الله تعالى كذبا ؟ لا يستطيع ولا يملك هذا لو حتى فرضنا فرضا إنه حاول ذلك ، لأن قدرة الله تعالى ستتدخل وهى التي تتحكم في قلب النبي وتملكه ، ستتدخل لتمحو الباطل ولتحق الحق ، وسيحدث ذلك لأن القادر على ذلك هو الذي يعلم ما في الصدور ، يقول تعالى : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ) ( الشورى 24).
3 ـ فكيف إذا تقوّل بلسانه قولا ونسبه للوحي ، هنا يكون العقاب شديدا وعلنيا أمام الناس جميعا ، يقول تعالى (تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ) (الحاقة 43 الى 47 ).
4 ـ فماذا إذا تعرض النبي لخديعة من المشركين ،بأن تسللوا إليه بالمعسول من القول كي يقول قولا ينسبه للوحي مقابل أن يتنازلوا عن شيء ، أي الوصول إلى حل وسط يرضي الطرفين ، وهو شأن مشروع في السياسة و لكن ممنوع في حقائق الإسلام وأوامره ونواهيه وشرعه ووحيه جل وعلا. ولقد تعرض النبي محمد لهذه المساومة وكاد أن يقع فيها وأن تنطلي عليه لولا تدخل الواحد القهار ، يقول تعالى:(وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلاً إِذَاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا)(الإسراء 73 إلى 75). وهنا درس قرآني لمن يقول بعصمة النبي البشرية عن الخطأ ، فالعصمة من الله تعالى للرسول في أمور الوحي حتى يصل سليما نقيا للناس متخطيا ضعف النبي محمد كانسان وبشر. وهنا أيضا درس قرآني لكل داعية متمسك بحقائق القرآن؛ ألا يجعل منها مادة للمساومة بأن يخفي أو يتعلل ، بل عليه أن يقول الحق كاملا مع الإعراض عن الجاهلين واحتمال الأذى وانتظار الحكم عليه وعليهم إلى الله تعالى يوم الدين .
5 ـ يبقى التقرير بأن الله تعالى هو صاحب الوحي الذي إذا شاء محا الوحي تماما من قلب النبي بحيث لا يستطيع النبي نفسه تذكر أو استرجاع ذلك الوحي الذي كان في داخله ، يقول تعالى:( وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا ) (الإسراء 86 إلى 89 ).
المستفاد مما سبق عن حفظ الله تعالى للوحي أن الوحي الإلهي قد تحكم فيه رب العزة متخطيا كل إمكانات النبي محمد البشرية ، حتى يصل نقيا للناس في نزوله وفى تدوينه ، فالمرحلة الثالثة
هي في تدوين القرآن الكريم بيد النبي محمد عليه السلام وفق رسم مخصوص وكتابة مخصوصة ، تعرضنا لها في بحث يؤكد أن النبي محمدا عليه السلام هو الذي كتب القرآن الكريم بيده.
وهنا نتذكر قوله جل وعلا (لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) ( القيامة 16 : 19 ) فالله تعالى هو الذي تكفل بجمع القرآن الكريم وتعليم النبي قراءته ، ومسيرة تلك القراءة للقرآن بعد النبي ـ وهى قراءة واحدة وليست (قراءات ) كما يقول فقهاء التراث :(إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ) ، ثم إن على الله تعالى بيان القرآن ، ليس فقط في داخل القرآن حيث يفسر القرآن بعضه بعضا ويفصّل بعضه بعضا ويشرح بعضه بعضا ، لكن ما جاء في القرآن من أنباء سيأتي تحقيقها، يقول تعالى ينبئ مقدما عما سيصير إليه حال ( الصحابة ) بعد موت النبي محمد:(وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ)( الأنعام 66 ـ) سيأتي بيان القرآن بقدرة الله تعالى خارج القرآن بيانا عمليا متجسدا في الدنيا ثم في الآخرة . وكل منا سيشهد في حياته طرفا من ذلك ، سواء في أحداث العالم التي نبّأ بها الله تعالى ، أو حين يلقى ملائكة الموت وهو على فراش الاحتضار ، حيث يرى الملائكة قبيل ترك الدنيا ولحظة دخوله البرزخ ، أو في المستقبل عند البعث والنشور و الحساب و الثواب و العقاب.
 
اجمالي القراءات 18094