مصر تكتشف رجالها

كمال غبريال في الأحد ٢٨ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

هي حقيقة وليس من قبيل المبالغة، أن الأمم تُعرف من نوعية أبطالها وعظمائها، فالأمم تكرم نفسها بخياراتها لنوعية من تكرمهم، إذا كانوا بالفعل وعلى المستوى العالمي والإنساني جديرين بالتكريم، والعكس صحيح إذا ما كرمت أمة الدجالين والمشعوذين والأفاقين، وجعلتهم يتصدرون المشهد، ويتمجلسون في المتكآت الأولى، وهو ما اعتدنا عليه في مجتمعنا المصري، بما يحفل من قطاعات غوغائية متمكنة، تحسده عليها أشد الشعوب غرقاً في أوحال التخلف.

كم أشعر شخصياً بالإهانة، عند&at;ما يُنَجِّم ويُلَمِّع المجتمع ووسائل الإعلام توافه وأقزاماً مثل "الفشار" و"خمارة" و"صاحب الطظ" و"الشيخ ضلالة" وأمثالهم كثيرون، ليصيروا هم عنوان مصر وقادتها، وليدفعوا مصر وثقافة شعبها نحو هاوية بلا قرار. . أشعر شخصياً إزاء هذا الوضع المتدني بالغربة وباللاجدوى، وأنا أرى شعوب العالم تجاهد بصفوة رجالها وعلمائها لتسنم مرفعات الحضارة والحداثة، في حين أرى بلادي شعباً قبل الدولة، تدخل بإصرار وسبق ترصد، إلى أنفاق تخلف مظلمة، لا يبدو في نهايتها غير الهلاك وبئس المصير.

بقدر حجم الإحباط وانكسار الروح، يكون الابتهاج والسعادة الغامرة، بأي بارقة أمل أو خبر سار، يلمع وسط ركام حياتنا، وقد حفلت الأيام الماضية بخبرين، جديرين بأن يسعد أو حتى يطير بالفرح بهما، كل مصري لم تنجح التراجعات المتتالية في اجتثاث الأمل من قلبه. . آخر الخبرين هو "حصول جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، على د. سيد القمني". . نعم ليس في هذه العبارة خطأ مطبعي أو خطأ في الصياغة، فهناك من الرجال كثيرون، تُكَرِّمَهم المناصب والجوائز التي يحصلون عليها، وقليلون بل ونادرون هم من يكون حصولهم على منصب أو جائزة، بمثابة تكريم أو رد اعتبار لتلك المناصب والجوائز، بعد طول مهانتها والتدني بها، بمنحها لك من هب ودب كما يقولون.

أخيراً ومتأخراً جداً انتبهت دولتنا السنية، إلى أن بيننا قامة علمية وحداثية شامخة هي د. سيد القمني، ذلك الإنسان المصري العاشق لبلده وشعبه، والذي بذل العمر والصحة عن طيب خاطر، من أجل أن "يصنع ثقباً في جدار الظلمة"، التي ترخي منذ عقود أستارها على البلاد والعباد. . د. سيد القمني الذي تركناه جميعاً شعباً ودولة، يصارع وحده قوى الظلام والتخلف والإرهاب، ويصارع معها الإحباط واليأس واللاجدوى، وهو يستشعر أن العمر ربما قد ضاع سدى، وهو ينشد ما تشير جميع الدلائل على الأرض أنه المستحيل. . المستحيل في أن تجعل الدولة شعبها ومصيره نصب عينيها، وتخلص العمل والتوجه لانتشاله من التخلف والعشوائية، وأن يخلص قادتها لا إلى كراسيهم الأبدية، ولكن لمن أجلسوهم على هذه الكراسي، ويدفعون من كدهم ثمن ما يأكلون ويلبسون ويركبون من سيارات وطائرات. . ربما يظن د. سيد القمني ونفر قليل يسيرون على دربه أيضاً، أنه من قبيل المستحيل أن يستدير هذا الشعب بمقدار مائة وثمانين درجة، لينظر نحو المستقبل، ويفك أقدامه المكبلة بسلاسل الماضي المتخلف وقيمه وثقافاته المتدنية والبدائية، ليلتحق بالعالم الذي يلهث متجاوزا لذاته، متسلحاً بالعقل والعلم الحقيقي، وليس بالدجل والشعوذة وتقديس الأساطير، تلك التي انتهى عمرها الافتراضي منذ قرون، ومازلنا وقد تناسينا الزمن وتناسانا، نضرب في متاهاتها وبواديها ومستنقعاتها.

قبل حصول جائزة الدولة التقديرية على د. سيد القمني بأيام قليلة، حصلت مؤسسة مصرية عريقة، كانت سمعتها ورصيدها الثقافي يترنح تحت ضربات الزمن، على منحة وجائزة مماثلة. . فقد حصل مجلس إدارة مؤسسة الأهرام على رئاسة د. عبد المنعم سعيد، رجل آخر من رجالات مصر، وقمة أخرى من قمم العصر والعلم والحداثة، لينتعش في صدورنا الأمل، في إمكانية عودة الأهرام شامخاً كما كان، بعد أن تسلل السوس إلى صفحاته، بل وإلى هيكله العظمي ذاته، وتحول من منبر وقور، إلى كهف ينعق فيه بوم وغربان التخلف والفتنة الطائفية.

مع الفرحة بجلوس واحد منا، نحن دعاة الحرية والحداثة على قمة مؤسسة الأهرام، لا نملك غير أن نتمنى للدكتور عبد المنعم سعيد التوفيق، والصبر والمثابرة على ما سوف يوضع في طريقه من عراقيل وأحجار وشراك، فكثيرون وأقوياء هم خفافيش الظلام والتخلف، في مكاتب وطرقات الأهرام، وليس من السهل على رجل واحد، حتى لو كان على قمة السلطة، ومعه نفر قليل من رجال العصر، وليس رجال الماضي البائس، ليس من السهل على صفوة قليلة العدد والعدة، أن تزيح ركام الظلمة، الذي ارتفع خلال عقود مضت، ليسد مداخل مؤسساتنا ومخارجها، حتى ليكاد يحجب عن مصر نور الشمس.

هل تسمحون لي أن أبتهج ليس قليلاً وإنما كثيراً بما يحدث في مصر، ويشير إليه هذان الحدثان؟
هل تسمحون لي أن أعتبر أنني شخصياً، ومعي البعض حتى لو كانوا قليلين، قد حصلنا على جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وعلى رئاسة مجلس إدارة مؤسسة الأهرام؟
هل من حقي أن أتمادى في الأمل، بأن يتوالى اكتشاف مصر لأبنائها ورجالها العظماء والعلماء والمخلصين، وأن تضعهم في مقدمة الصورة والسلطة، وأن يصاحب ذلك انحسار وانسحاب أو حتى طرد، لكل رموز التخلف والغيبوبة، والذين يهددون حاضر مصر ومستقبلها، بأكثر مما يمكن أن يهددها الطاعون وإنفلونزا الخنازير والحمير؟

اجمالي القراءات 8869