وللحرية الحمراء باب.. بكل يد مُضرجة يدق

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٧ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

صادف وجودى فى العاصمة الأمريكية واشنطن، يوم السبت ٢٠ يونيو ٢٠٠٩، وهو اليوم الذى نظم فيه الإيرانيون فى مشارق الأرض ومغاربها مظاهرات احتجاج ضد سلطة آيات الله فى طهران، لما يعتقده معظمهم أن أصواتهم قد سُرقت فى الانتخابات الرئاسية التى عقدت قبل أسبوع (١٢/٦/٢٠٠٩) من مرشحى المعارضة لصالح الرئيس أحمدى نجاد! خاصة من المرشح مير حسين موسوى.

وقد بدأت تلك المظاهرات فى طوكيو «اليابان» وسيول «كوريا»، شرقًا، مرورًا بروما وباريس وبرلين ولندن وسطًا، وواشنط&au;ن ولوس أنجلوس غربًا، ويصل حجم الجاليات الإيرانية خارج إيران إلى حوالى عشرة ملايين - غادر أو هرب معظمهم احتجاجًا أو خوفًا من الشاه، قبل ١٩٧٩، أو احتجاجًا وخوفًا من الثورة الإيرانية الإسلامية التى اقتلعت الشاه، وتحكم إيران باسم الإسلام منذ ذلك الوقت.

وقد عرف العالم منذ عام ١٩٧٩ لأول مرة نوع «الدولة الثيوقراطية» الإسلامية، ونقول لأول مرة، لأن المسلمين طوال ١٤ قرنًا هى كل تاريخهم لم يحكمهم رجال الدين. فالإسلام، بعكس اليهودية والمسيحية، لا يوجد فيه «كهنوت»، ولا طبقة متخصصة من رجال الدين، فحتى فى ظل عهد النبوة والخلفاء الراشدين، ومع تطبيق الشريعة، لم يكن رجال الدين يحكمون، ولكن الذين كانوا يحكمون كانوا أشخاصًا يفهمون فرائض وأحكام الدين، كما فهموها من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة.

ومع عهد الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان، وانقسام المسلمين إلى أتباع لعلى بن أبى طالب ومعارضين له من أتباع معاوية بن أبى سفيان، تطور هذا الانقسام إلى مذهبين رئيسيين، سيعرفان فيما بعد باسم «الشيعة»، و«السنة»، وجاء اسم الشيعة نسبة إلى أولئك الذين تشيعوا لعلى بن أبى طالب ونجليه، الحسن والحسين، ابنى فاطمة الزهراء، بنت الرسول صلى الله عليه وسلم،

ولطول عهد الشيعة فى المعارضة السياسية فى العهود المتعاقبة للدولة الإسلامية، فإن فقهاءهم أصبحوا فئة متخصصة فى أمور مذهبهم، وتتمتع بنفوذ روحى واجتماعى كبيرين على أتباع المذهب، وظل أتباع المذهب الشيعى أقلية عددية فى معظم البلدان الإسلامية، وعليه فإيران كانت الاستثناء الكبير، حيث إن معظم أبنائها كانوا أتباعًا مخلصين للمذهب الشيعى.

وقد زرت إيران مرة واحدة فى حياتى، وذلك فى الأسبوع الأخير من ديسمبر ١٩٧٨، والأسبوع الأول من يناير ١٩٧٩، ورأيت المشهد الأول، لما سيصبح خلال نفس العام ثورة شعبية، تنهى حكم أسرة الشاه، وتبدأ نظامًا جديدًا، غيّر اسم البلاد إلى «جمهورية إيران الإسلامية»، وكان ذلك حدثًا جليلاً، غيّر إيران، والشرق الأوسط، والعالم، خلال العقود الثلاثة التالية.

كانت زيارتى تلك، بدعوة من الشاه محمد رضا بهلوى، ضمن عشرين شخصية أكاديمية، من مختلف أنحاء العالم، إذ بتعبير أدق من كبريات الجامعات وأشهرها على الإطلاق - مثل هارفارد، وبرنستون، والسوربون، وأكسفورد وكمبردج، وكان ثلثا المدعوين من الحائزين على جوائز نوبل فى العلوم الطبيعية والطبية والاقتصادية، وكنت ضمن الثلث المتخصصين فى العلوم الاجتماعية والإنسانية، كذلك كنت المصرى والعربى الوحيد، وكنت الأصغر سنًا بين هذه الكوكبة، حيث لم أكن قد تجاوزت الأربعين إلا قبلها بأيام.

أما لماذا قام الشاه بدعوة هؤلاء جميعًا، ولمدة أسبوعين كاملين فى ضيافة ملكية مُعتبرة؟

كان محمد رضا بهلوى «حالمًا»، مع نزعة مسرفة بالعظمة، ورغبة جامحة فى الخلود، فقبل زيارتنا بعدة سنوات، مثلاً، أقام احتفالات صاخبة بمناسبة الذكرى الألفين لإعلان «الملكية» فى بلاد فارس، وهو الإمبراطور «سايروس الأول»، الذى كان العرب يطلقون عليه اسم «قمبيز»، ويلقبونه باسم «كسرى»، وقد دعا الشاه إلى ذلك الاحتفال كل ملوك ورؤساء العالم، ولبى معظمهم الدعوة، ومنهم الرئيس المصرى الراحل أنور السادات،

كان الشاه محمد رضا بهلوى يريد أن يوحى لشعبه وللعالم بأنه سليل هؤلاء الأكاسرة، رغم أنه ليس كذلك، فهو ابن «رضا» الذى كان ضابطًا فى الجيش الإيرانى، واغتصب السلطة فى انقلاب، ألغى به حكم أسرة «المكثار» التى حكمت إيران لعدة قرون، إن الشاه محمد رضا كان الوريث لأبيه الضابط الانقلابى، أى أن العُمر الحقيقى لأسرته لا يتجاوز جيلين.

وضمن ما أراده الشاه الابن، «محمد رضا» كان تخليد اسم ابيه «رضا»، الضابط الانقلابى الذى استولى على السلطة، وأعلن نفسه ملكًا «شاه» وقد أراد الشاه الابن أن ينشئ جامعة عتيدة، تحمل اسم الشاه الأب، وتسمى «جامعة الشاه رضا الكبير» لذلك دعا هذه المجموعة من الأكاديميين للمساهمة فى التخطيط لمشروع تلك الجامعة، التى أراد لها أن تكون فى مصاف أعظم جامعات العالم - مثل هارفارد وكمبردج وأكسفورد والسوربون.

ومرة أخرى، تلعب الصدفة وحدها دورًا أكون بمقتضاه شاهدًا على انتهاء عهد وبداية عهد جديد فى إيران، فخلال نفس الأسبوعين، زار الرئيس الأمريكى جيمى كارتر إيران، واستقبله الشاه محمد رضا بهلوى استقبالاً حافلاً، وبادله كارتر بكلمات طيبة، كان أهمها أن الشاه جعل من إيران قوة إقليمية عظمى، وأنها أصبحت عماد الاستقرار فى منطقة الخليج. هذا، رغم أنه كان هناك معارضون كثيرون للشاه داخل إيران وخارجها.

وقد انتهز المعارضون فرصة زيارة الرئيس الأمريكى لتنظيم مظاهرة سلمية أمام مقر إقامته وسط العاصمة طهران، وحاول الشاه بدوره أن يبدو متحضرًا أمام ضيفه الأمريكى، فسمحت السلطات الأمنية الإيرانية- لا فقط- بالمظاهرة، وإنما أيضًا بحمايتها، مثلما يحدث تمامًا فى البلدان الديمقراطية،

وكان المشهد بالفعل حضاريًا ومشرفًا، ولكن بعد أسبوع من مغادرة كارتر لطهران، حينما عادت قوى المعارضة للتظاهر فى طهران، ففتحت عليها قوات البوليس السرى «سافاك»، النيران فأردت منهم عشرات القتلى ومئات الجرحى، وكنت أيضًا أحد شهود هذا المنظر الدموى من شرفة فندق سميراميس طهران.

لم أدرك فى ذلك اليوم من يناير ١٩٧٩، أن تلك كانت الشرارة الأولى فى مسلسل سيتكرر كل أربعين يومًا، ولذكرى الأربعين عند الشيعة مغزى خاص جدًا منذ مقتل الحسين، والتمثيل بجثته على يد يزيد بن معاوية وأنصاره، ومع كل ذكرى الأربعين لمجموعة من الشهداء كانت الجماهير التى تحتفى بالذكرى تتضاعف حجمًا وغضبًا، وكان يغذيها آية الله روح الله الخومينى من منفاه فى إحدى ضواحى باريس، من خلال أشرطة الكاسيت،

إلى أن تحولت المظاهرات إلى أعداد مليونية تواجه القوات الأمنية للشرطة والمباحث السرية «السافاك»، ومع خريف ١٩٧٩، أصبح حجم المظاهرات ودوى هتافاتها الصاخبة يخيفان قوات الأمن نفسها، فلجأ الشاه إلى طلبة الكليات العسكرية، وبينما رفض هؤلاء الطلبة إطلاق النار على المتظاهرين، أدرك الشاه أن خط دفاعه الأخير قد تهاوى، فاستقل الطائرة هو وأسرته، وهرب من إيران، وفى الأثناء نفسها كان آية الله الخومينى يهبط بطائرة فرنسية خاصة فى مطار مهاباد بطهران.

كان الإيرانيون المتظاهرون فى العواصم الديمقراطية من سويسرا وواشنطن، فى تضامنهم مع أمثالهم فى شوارع طهران، يشعرون بالفخر والاعتداد بأن شعبهم بعد طول المطاف، قد هب فى انتفاضة شعبية من أجل «الديمقراطية»، وكان معظم الإيرانيين فى تلك العواصم يشعرون بالخجل من كونهم إيرانيين بسبب ما أظهره زعماء الثورة الإيرانية من تزمت فى الفكر، وتشدد فى الممارسات،

وهو ما جعل إيران تبدو مجتمعًا متخلفًا، ويزداد ارتدادًا إلى القرون الوسطى، أما الآن، فإن المتظاهرين فى الغرب يتضامنون مع أقرانهم فى الوطن الأم، ومن أحاديثى معهم خلال المسيرة من مقر السفارة الإيرانية القديمة فى حى جورجتاون إلى البيت الأبيض أدركت أنهم مع ترحيبهم بانضمام كثير من الأمريكيين إلى المظاهرة،

إلا أنهم يريدون لأمريكا الرسمية أن تظل بعيدة عن الانتفاضة الديمقراطية فى إيران وذلك حتى لا يستغل «آيات الله»، الذين يحكمون فى طهران، أى تأييد أمريكى رسمى لتشويه وجه الانتفاضة، ودمغها بأنها صناعة أمريكية وعربية.

ومع سقوط عشرات الشهداء والشهيدات خلال الأسبوع الأول للانتفاضة الديمقراطية، برز اسم وصورة الفتاة «ندا سلطان» كرمز للاستشهاد - يجرى تشبيهها بفاطمة الزهراء- وردد المتظاهرون شعارات تحتفى بدور المرأة الإيرانية فى الانتفاضة الديمقراطية، وكانت زوجة قطب مرشحى المعارضة مير حسين موسوى قد لعبت دورًا محوريًا فى تعبئة النساء الإيرانيات للمشاركة فى الانتخابات، ثم فى المظاهرات..

وأصبحت دماء ندا سلطان، التى سقطت برصاص عناصر الأمن الإيرانية، رمزًا لحركة ديمقراطية شابة، ويواجه أعضاء هذه الحركة «آيات الله» المعمرين الذين يتحكمون فى مؤسسات الدولة الإيرانية الإعلامية والقمعية والمالية ولا يملك الشباب الإيرانى فى هذه المواجهة إلا عقولهم وعواطفهم ومهاراتهم التدوينية على الشبكات الإلكترونية «العنكبوتية»،

ولذلك لم يكن مستغربًا أن تقوم السلطات الإيرانية بإغلاق هذه الشبكات على الأراضى والأجواء الإيرانية، منذ اليوم الثانى للمظاهرات «١٤/٦».

وجدير بالذكر أن المدونين المصريين والعرب خفوا إلـى نجدة أقرانهم الإيرانيين فى مشهد نادر للتضامن الإقليمى بين القوى الشبابية الساعية للتعبير عبر الحدود القطرية، ويبدو أن ذلك، مع نتائج الانتخابات اللبنانية والكويتية، يشير إلى بذور جنينية لشىء أكبر فى الأفق،

وربما أشبه بما حدث فى أوروبا الشرقية منذ عقدين، وربما سيكون هناك شهداء وشهيدات مثل ندا سلطان، وصدق أمير الشعراء حينما أكد لنا فى قصيدة عصماء «للحرية باب بكل يد مضرجة يدق». والله أعلم.

اجمالي القراءات 31949