فهم المطلق الثابت بأدوات النسبى المتغير و حتمية دوام صلاحية القرآن

مصطفى فهمى في الجمعة ١٢ - يونيو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

فهم المطلق الثابت بأدوات النسبى المتغير و حتمية دوام صلاحية القرآن

إن هذا المقال ذو علاقة أساسية بالمقال السابق فى محاولة منا لبيان أن الإنسان حتى بعقيدته و إيمانه لا يمتلك الحقيقة و إن كان يوقن امتلاكها
وإن كنا نقترح على القارئ قراءة المقال السابق بعنوان [ٍلماذا يكون الصراع بين الأديان و الملل و المذاهب و الأفراد؟] على الرابط التالى
http://www.ahl-alquran.com/arabic/show_article.php?main_id=5249
فإننا نكرر الجزء الأساسى الرابط بين المقالين
"الدين له معنيان
الدين بمعنى الإيمان و الدين بمعنى المعتقد
الدين بمعنى "الإيمان" له معنى فى اللغة العربية يعنى الثقة مع التصديق المطلق
و الدين بمعنى "المعتقد" أى العقيدة و يقال أعتقد الشئ أى أشتد و صلب، و هذا معناه أن العقيدة لا تقبل أن تكون محل شك عقلى من صاحبها أو من يعتنقها
و يمكن القول أن "الإيمان" محصور فى القلب حيث الحدس و الشعور فى حين أن "المعتقد" محصور فى العقل و لكن العقل المقصود هنا ليس هو العقل المنفتح المفكر و المتدبر و لكن هنا يكون العقل المنغلق الغير مفكر الذى يحيل المعتقد و تفاصيله إلى حقيقة مطلقة
و عليه يكون الدين عند الناس مطلق بشقيه ـ الإيمان و العقيدة ـ هو الثقة و التصديق المطلق و الحقيقة المطلقة"

و حقيقة الامتلاك لتلك الحقيقة ما هو إلا الظن، و نسوق فى بداية المقال مثال عن يقين و جود الحياة الآخرة و لقاء الله و الرجوع إليه
و نستعين هنا لبيان ذلك بالآيات التالية
{وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)} البقرة
مع أن لقيا الله تكون يقينية كحقيقة مطلقة فى قلوب و عقول الخاشعين فإن الله (و هو الأعلم بالحقيقة) و صف ذلك و صنفه على مستوى الظن لأن تلك القلوب و العقول غير مهيأة و لا ترقى لعلم اليقين

{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)} السجدة
نجد أن اليقين هنا يقين نسبى بدليل أن الله يفصل و يحكم على هذا اليقين، حيث لا يكون هناك حكم إلا على اختلاف و لا يجوز أن يكون هناك اختلاف على يقين حيث أن اليقين واحد، و عليه يكون يقينهم هذا هو ضرب من الظن

{ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)} البقرة
إن اليقين بالآخرة كحقيقة مطلقة و هو من العقيدة لا يكون إلا مسبوق بإيمان أى مسبوق بتصديق مطلق

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6)} الجاثية
و نجد فى هذه ألآية مثال معتبر لترتيب يبدأ بالإيمان و يكون بالقلب و العقل غير المفكر و ينتج منه اليقين المطلق ثم يؤيد بالعقل ليثبته والعقل كما سنشرح لاحقا غير مهيأ لفهم المطلق فيكون اليقين المُدرَك هو الظن بعينه

المطلق و النسبى و العلاقة بينهما
إن المطلق و النسبى تعبيران لا يمكن فهم ماهية أحدهما أو تعريفة إلا بفهم و تعريف الأخر و بحسب أدوات فهمنا المتاحة لنا و هى العقل و التعقل و إن كانت فى المقام الأول هى أدوات قاصرة و نسبية

ما هو المطلق و ما هو النسبى؟
المطلق لا يتغير بطبيعته هو الثابت الذى لا يعتريه التغير و لا يقبل التعددية و يكون عندنا هو الله الواحد الأحد
المطلق بالضرورة يؤثر و يغير فى النسبى و لا يتأثر به و يفهمه على حقيقته لأنه خالقة.
النسبى متغير بطبيعته حسب موقعه من الثابت هو متطور و يقبل التعددية و يكون عندنا هو المخلوق
النسبى يتأثر بالمطلق و لكن لا يستطيع تغيره أو التأثير فيه أو فهمه على حقيقته لأنه مخلوق له.

العقل و مدى قدرته على فهم و تعقل الله
إن العقل المفكر هو مركز الإدراك المنطقى الواعى وهو مخلوق نسبي متطور دائم المحاولة بالتعقل لاقتناص الحقيقة المطلقة و امتلاك فهمها إلا أن ذلك من المحال ... لماذا؟
لأن العقل خًلق ليفهم و يدرك الواقع الدنيوى النسبى المحيط به و يتعامل معه و لم يخلق لفهم ذات الله و غيبه و مطلقيته و إلا أصبح هو مطلق فى حد ذاته و مساو للمطلق الوحيد الذى هو الله حيث لا مطلقات و لكن مطلق واحد

و كذلك بمحاولة توهم ارتقاء العقل النسبى إلى الله المطلق و التشبه به و الوصول إليه فإنه يفقد خواصه النسبية المتغيرة القابلة للتغير و التطور و يتجمد و يفقد القدرة على التطور و التغير و لكن محال أن يكتسب صفات المطلق أو يرقى إليه
أما إذا توهم العقل أنه أستطاع الارتقاء و اقتناص و امتلاك الحقيقة المطلقة، أصبح عليه بالضرورة رفض و محاربة أصحاب الحقائق الأخرى المغايرة فى ذات الشأن، بل و يرفض الله أيضا و يحاربه لأن المطلق بطبيعته واحد و لا يقبل التعددية

و من الناحية الأخرى فإن محاولة أو توهم تفسير أو تجسيد أو تشخيص أو فهم أو إدراك المطلق بالعقل و التعقل يحدث تغير وهمى فى تفهم ماهية المطلق بحكم إخضاعه لفهم و إدراك عقل نسبى مخلوق غير مؤهل و ميسر لذلك، و بذلك يفقد المفهوم الحق للحقيقة المطلقة بأنها مستحيلة الفهم و يحل محلها حقيقة وهمية بيقين لا يقبل التغيير.

و على ما سبق و حسب فهمنا النسبى نقول أن الله الخالق (مطلق)، سبحانه هو الثابت الذى لا يتغير و (لا يقبل التعددية) و هو يؤثر و يغير فى النسبى المخلوق (العقل المفكر) و لكن لا يتأثر به أو يُفهم بواسطته، و مشيئته مطلقة بالضرورة لأنها من ذاته فلا تتغير و لا تتبدل لأن بتغيرها تكون و تصبح نسبية وهذا لا يصح فى حق الله المطلق

وظيفة العقل المفكر
العقل المفكر بالتعقل عليه أن يفهم المراد من التكليف الإلهى و ليس عليه أن يفهم حكمة الخلق لأن الحكمة من مشيئة الله مطلقة و ثابتة و لا يعلمها غيره و لا دخل للعقل المخلوق فى صنعها أما المراد من التكليف فله هدف و الهدف يجب أن يكون مفهوما و معلوما للعقل ليصل له و يحقق التكليف، و كى يستطيع المكلف أداء تكليفه فى الواقع المتغير للحياة الدنيا يجب أن يكون هناك نظام ثابت بالنسبة إليه يمكن معرفته و يعتمد عليه، ثم يضع العقل بعلمه نظام تطبيقى نسبى، يناسب زمانه و مكانه، يخدمه للوصول إلى الهدف المراد الذى استخلصه بعقله النسبى و يحقق التكليف الذى أدركه

لماذا النظام الكلى؟
إن قدرة الله مطلقة و سعت كل شئ، و لا يُرى منه و من قدرته إلا ما ارتضاه و ما شاءه هو و ألزم نفسه به حتى يهيئ للمكلفين نظام دنيوى عام، ثابت مهيمن عليهم و فى نفس الوقت يكون مسخر لهم، و يمكنهم كشف نظامه بما شاء الله كشفه لهم و الاعتماد عليه لأداء التكليف الذى قدره الله عليهم
{اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)} البقرة
وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) الأنعام
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62) الأحزاب
مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29) ق

لماذا ثبات النظام؟ و لماذا تغيره؟
لأن النظام مخلوق من الله الثابت فيكون ثابت لا يتغير و يكون كذلك ثابت التغير و ذلك على النحو التالى
النحو الأول:
أن النظام ثابت و لكن خُلق ليفنى ـ و هذا تغير فى حد ذاته ـ مع من يخدمه حسب المشيئة و الفرق بين النظام المخلوق و بين من يخدمه من خلق، هو أن مدة بقاء النظام أطول من مدة بقاء المخلوقات الذين يخدمهم النظام، و المتغير المخلوق يحتاج إلى وسائط ثابتة مخلوقة ليسعى بها لتحقيق الهدف المراد المفهوم من المطلق
{الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)} البقرة
{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5)} يونس
النحو الثانى:
القانون الكلى الإلهى ـ حسب فهمنا النسبى ـ بوصفه صنعة و خلق إلهى مسخر للإنسان المتغير النسبى لتحقيق التكليف، و إن كان مطلقا ثابتا فى كليته كخالقه فإنه نسبى متغير فى تفاصيله حتى يناسب الواقع الدنيوى النسبى المتغير المخلوق له و يظهر ذلك فى الازدواج أو زوجية الخلق (الشئ و ضده أو الشئ و نقيضه أو الشئ و عكسه مثل الخير و الشر و الموت و الحياة) و بالتالى يصلح استعمال القانون الكلى الإلهى لكل الأغراض و المراد، فمن سعى يريد مراد الله أو غيره كفاه فى كل و أو أى مكان و زمان
{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)} هود

هل الواقع مطلق ثابت أم نسبي متغير؟
الكون المخلوق ـ الخاضع لكليات القوانين الثابتة بمطلقها و المتغيرة نسبيا و ازدواجيتها ـ دائم التغير بفعل تلك القوانين و طريقة عملها و مثال ذلك:
الزمن المخلوق للحياة الدنيا: فإن اللحظة الآنية متتالية دائمة الحركة و تسبح فى نسبية دائمة بين الماضى و الحاضر و المستقبل،
و المكان المخلوق دائم الحركة فيتغير مكانه و يكون دائما سابحا فى بحر من النسبية بين مكانه الآنى فى الكون و الأماكن التى كان فيها و التى سيذهب إليها،
و بالتالى يتكون واقع متغير مع كل لحظة زمنية و نقطة مكانية مع الثبات النسبى للقانون المنتج لهذا التغير و هذا الواقع المتغير يحكم و يتحكم و يتراكم فى كل ما هو مخلوق من أصغر بروتون فى ذرة إلى أكبر جسم فى مجرة، فيحدث التغير فى الواقع الغير ملحوظ لنا بزمن و مكان (الفمتو ثانيه أصغر وحده زمنيه مكانية مكتشفه حتى الآن) و يتراكم ذلك التغير فيكون التغير فى الواقع الملحوظ للعامة فى وحدة زمنية مكانية أكبر قد تكون ساعة أو يوم أم سنة أو قرن (حسب تمكن علم أهل المكان و الزمان)، فيكون الواقع الجديد نتيجة ثبات الثابت المطلق (الله) و تغير المتغير النسبى (الواقع) و يربط بينهما الوسائط المخلوقة (القوانين)

هل القرآن مطلق أم نسبى؟
القرآن بوصفه منزل من عند الله (المطلق) و هو من ضمن قوانينه المطلقة، تكون مدخلاته مطلقة لا تتغير و لا تتبدل فتكون آياته مطلقة و كليه المفهوم، أما بوصفة أنه منزل للبشر، و فهم و أفهام البشر نسبى، فإن مخرجات آياته يكون نسبيا ليواكب نسبية فهم البشر و نسبية حركة الكون و تغير الزمان و المكان (ثبات نصه و تغير المفهوم منه) و بالتالى تكون تطبيقاته نسبية بنسبية الواقع الذى نعيش فيه و متغيراته و تعدده و تعدد أفهامنا له و هذا لا يغير أبدا من مطلاقيته و ثبات كلية مدخلاته

حتمية دوام صلاحية القرآن
يخضع السواد الأعظم من الناس إلى جغرافية مكانهم و ثقافتهم و عاداتهم المحلية و علمهم المحدود عند التفكير فى أى قضية تمس شؤونهم، و هذا قد يكون وارد و مقبول إذا كانت تلك القضية تمسهم و حدهم، أما إذا كانت القضية تتعلق بفهم رسالة الله المنزلة للعالمين كافة من إنس و جان فى كل مكان و زمان فيكون التناول مختلف و أن يُفصَل بين عمومية القضية القرآنية و فهم المراد منها الصالح على دوام الزمان و اختلاف المكان - فيكون ذلك هو الدين - و بين خصوصية التطبيق لهذا الفهم العام و تأثر هذا الفهم بجغرافية المكان و عادات أهله و تقاليدهم وثقافتهم السائدة - فيكون ذلك هو العرف - و لا يجب أن تطغى الخصوصية المحلية البشرية القاصرة، على العمومية العالمية الكونية الإلهية الرحبة أو تحل محلها، و إلا وقعنا فى المحظور وهو قصر الدين الإلهى الرحب الذى ينظم أمور البشر كافة بكل ما فيهم من اختلاف و تنوع - فى كل مكان و على مر الزمان -، على مجموعة من التطبيقات البشرية المحلية، إن صلحت فقد صلحت لمكانها و زمانها فقط.

إن كنا نؤمن بأن القرآن من عند الله وأنه رسالته لكل الأنس و الجان فى كل مكان و أى زمان، فإن هذا الاختلاف الشكلى فى التطبيق الخاص يكون فقط مقبول فى حسباننا أن كنا نفهم أن تلك التطبيقات الشكلية الخاصة المحلية ليست هى الدين نفسه و إنما هى ما فهمه الناس - فى مكانهم و زمانهم - أنه يحقق مراد الله.
فسبحان الذى وضع لنا فى كتابه عموم أوامره و نواهيه و سكت عن تفصيل الكثير منها - إلا ما أراد تفصيله - و خسر الذين قصر علمهم - و من أتبعهم و روج لهم - و أخضعوا قسرا رسالة الله لعموم الناس لهواهم و صبغوها بظروفهم و ثقافتهم و محليتهم و رسموا خطوطهم وأفرزوا ديانات سموها الإسلام و هى فى حقيقتها ديانات بشرية محلية تسمى بأسمائهم و تنسب إليهم، و اختلفوا و تعاركوا فيما بينهم و من ورائهم من أتبعهم و أعلن كل فريق منهم إن دينه هذا هو دين الله و ما عداه يعد خروجا عن شريعته، و ذلك لعدم إيمانهم و فهمهم الصحيح بالرسالة الإلهية للبشر و هى القرآن، وعالميته و حتمية دوام صلاحيته فى كل مكان و أى زمان.

مثال عن القاعدة الكلية المطلقة و و المخرجات النسبية
فإن كان المفهوم و المُدرك لنا من التكليف هو صلاح الدنيا بصلاحنا فيها و أن رسالة الله لنا (القرآن) توضح كيفية هذا الصلاح و يطرحه فى صورة أوامر و نواهى أساسية واضحة لا لبس فيها و قصص واضح الهدف من قصِه، فعلينا تحرى كيفية الوصول لهذا الصلاح ابتغاء مرضاة الله و الفوز بجائزته
أما ما نصل إليه حسب علمنا و مكاننا و زماننا لتطبيق قاعدة عامة من قواعد الصلاح فلا يجب علينا اعتباره هو المراد الإلهى بل القاعدة الكلية الواضحة هى التى يجب اعتبارها مراد الله

و نسوق مثال ظاهر من الآية {وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)}الإسراء
هنا القاعدة و القانون المطلق هى تحريم قتل النفس، وهذه القاعدة ـ مراد إلهى و حق لصلاح الدنيا ـ لا تتغير مع اختلاف المكان و الزمان، و السماح بقتلها و إن كان استثناء، فهو أيضا ـ مراد إلهى و حق لصلاح الدنيا ـ لا يتغير مع اختلاف المكان و الزمان، أما "بالحق" فهى قاعدة تطبيقية و قانون نسبى يخضع للأفهام، حيث مفهوم ثبوت هذا الحق هنا يعتمد على التقدير النسبى للمكلفين الذين يتحرونه و يطبقونه
أولا: لمن يتحرى القتل الحق و يضع مفهومه لهذا الحق حسب فهمه
و ثانيا: لمن يقوم بالحكم على ملابساته حسب فهمه للتشريع القائم و كيفية إحقاق الحق
فالأول يقوم بتقنين معنى و مفهوم القتل و متى يكون قتل النفس قتلا يستوجب القصاص و ما هو القصاص و كيف ينفذ و هل قتل النفس هو القتل المادى بإزهاق النفس و موت الجسد؟، أم أن قتل النفس يعنى أيضا القتل المعنوى للنفس بحيث لا تقوم لها قائمة مع دوام حياة الجسد؟، فالتقدير النسبى هنا قائم و لا يجوز طرحه كمعتقد حيث أنه لا يخرج عن كونه اجتهاد و لا يرقى بالتشريع بالضرورة للحق المطلق المقصود من الله.
و الثانى و هو الذى يقضى بالعقوبة، يقضى بها حسب فهمه لنصوص التشريع و قدرته و علمه هو شخصيا و كذلك قدرة الدفاع و قدرة الاتهام، ثم يقضى بالعقوبة حسب ما يستقر فى يقينه هو أنه الحق و لا يجوز طرحه كمعتقد حيث أنه لا يخرج عن كونه اجتهاد و لا يرقى بحكمه بالضرورة للحق المطلق المقصود من الله

عندما نتكلم نحن البشر المكلفين عن الحقيقة التى نتوصل إليها يجب أن نكون على علم و يقين أن تلك الحقيقة و اليقين بالنسبة لنا ـ أى إن كانت ـ إنما هى حقيقة و يقين نسبى و تكون منسوبة إلى علمنا الآنى و ليست هى الحقيقة المطلقة و بالتالى لا يمكن اعتبارها نهاية القول أو الفهم و لا شئ غيره صحيح و خصوصا إن كانت تخص الله و رسالته لنا و هى القرآن، وإن كان يمكن اعتبار تلك الحقيقة حقيقة نسبية آنية إن كانت تصلح للعمل بموجبها و تؤدى الغرض المراد منها فى مفهومنا لتحقق الكليات المذكورة فى القرآن حسب علمنا و فهمنا الآنى لها
و عليه لا يجوز لنا إرجاع و إلصاق ما نتوصل إليه من حق نسبى إلى انه الحق الذى أراده الله و لا غيره و لا يجوز أيضا طرحه كمعتقد، و إنما علينا طرحه على أنه الحق النسبى الذى نراه نحن انه هو مراد الله

{قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) سباء}
هذا قولنا و فهمنا من مكاننا و فى زماننا و حسب علمنا و على من يأتى بعدنا ان يفعل مثلنا.
و الله أعلم
مصطفى فهمى
المراجع
العقل للفهم. (2) القرآن بفهمه بالعقل. (3) المعجم لمعرفة لسان العرب

اجمالي القراءات 26156