إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ:
( 6 ) (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُ

آحمد صبحي منصور في الخميس ٢٨ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

( 6 ) (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ )
القسم الأول : (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ )
مقدمة :
أدى المقال السابق (وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى ) الى تساؤلات فى موقعنا ( أهل القرآن ).
أبرزها يتمنى أن تكون فترة الضلال قصيرة مثل الفترة الى كانت لابراهيم عليه السلام ، وهناك تعليق هام للاستاذ ليث عواد إجتهد فى أن يحقق هذه الأمنية من خلال رؤية لسورة الضحى.
وهنا نضع بعض الملاحظات :
1 ـ ملاحظة منهجية :إن التمنى يدخل ضمن الهوى،ولا مجال للهوى فى البحث القرآنى ، والهوى هو أخطر ما يضيع به الباحث ويضل به الناس .
2 ـ لا يصح لمن يؤمن بالقرآن أن يتجاهل كل الآيات التى حفل بها المقال السابق فى سبيل أمنية بأن تكون فترة الضلال فى حياة محمد قبل البعثة قصيرة ، فالآيات تشير الى أنه كان يعبد الأولياء وما يتصل بهم من تماثيل و قبور ، وتكرر له النهى عن ذلك، ولا يمكن أن ينهاه اله جل وعلا عن فعل شىء لم يفعله ، فالنهى يأتى للكف عن فعل شىء يفعله الانسان بحكم العادة. هذا بالاضافة الى أنه تكررالأمر والنهى فى كثير من الآيات كى يواجه النبى محمد تلك الدعوة المضادة التى تريد العودة به الى ما كان عليه من قبل.
3 ـ الوضع الطبيعى لرجل يعيش فى عائلة تحترف حماية الأنصاب والأصنام أن يشارك أهله وقومه فيما يعتقدون وما يعبدون ، وغير الطبيعى أن يقف ضد ذلك ويقاومه ، ولو حدث وقام محمد فى شبابه يقاوم هذا الشرك ـ مثلما فعل ابراهيم ـ لجاء القرآن يثنى على ذلك ، ولكن جاء فى القرآن النهى له عما اعتاده من قبل ، وحين اهتدى وأصبح نبيا ذكر رب العزة كيف أنه عليه السلام أعلن لهم أن المساجد لله فلا ينبغى أن يدعو قومه مع الله أحدا ، وحين جرؤ بعد البعثة على إعلان هذه الدعوة ذكرها الله تعالى حجة على قريش ( الجن 19 : 23 ). لو حدث نفس الموقف قبل أن يكون نبيا لاحتفل به القرآن الكريم.
2 ـ تميز ابراهيم عليه السلام بأنه عرف الهدى مذ كان فتى صغيرا، بدأ مبكرا وهو صبى فى التفكر فى السماوات والأرض،وبدأ مبكرا فى الاعتراض على قومه ، وبدأ مبكرا تحطيم أصنامهم ، وحين اكتشفوا تحطيمها سألوا : (مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ ) وجاء الرد : (سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) (الأنبياء 60 ) .أى كان مجرد فتى مجهول لا يعرفه كبار قومه. كان فتى أى صبيا مراهقا ، وفعل هذا ، وقبلها دعا أباه وأهله: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )( الأنعام 74 ). لم يرد مثل هذا فى تاريخ محمد قبل البعثة ، بل ورد العكس كما قلنا.
3 ـ بعض الناس يتصور أنه كان فى مكة سجل للمواليد يمكن من خلاله معرفة متى ولد فلان ، وبعض الناس يتخيل أنه حين ولد محمد بن عبد الله كان الناس وقتها يعتقدون أن هذا المولود سيكون نبيا. الصحيح أنه لم تعرف الجزيرة العربية تسجيل المواليد إلا فى عهد عمر بن الخطاب حين أدخل الدواوين لاحصاء العرب المسلمين . والصحيح أيضا إن أحدا من قريش لم يهتم بمولود طفل يتيم إسمه محمد بن عبدالله ، ولم يكن أحد يتصور أن سيكون هذا الطفل خاتم المرسلين فيما بعد . لذا فكل المكتوب فى العصر العباسى عن نشأته فى السيرة هو مجرد روايات بعضها يدخل ضمن الشائعات والأساطير .
4 ـ وبالتالى فلا يبقى لنا سوى مجرد الاستنتاج من القرآن الكريم عن مدى الوقت الذى استمر فيه ضالا إلى أن هداه الله . وحسنا فعل الاستاذ ليث عواد إذ إستشهد بسورة الضحى . ولنتدبرها معا : فالسورة تنقسم الى ثلاثة محاور : الأول :( وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى ) وهنا يقسم الله جل وعلا بالضحى و الليل أنه ما ترك وأهمل محمدا عليه السلام ، وأن الآخرة خير له من الدنيا ، وأنه سيعطيه فيرضى . ويأتى المحور الثانى ، وفيه يذكّره ربه بالنعم التى أنعمها عليه حتى ذلك الوقت ، وهى كفالته حين كان يتيما ، وهدايته حين كان ضالا ، وإعطائه وإغنائه حين كان محتاجا: ( أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى). وينفرد المحور الأخير بالأوامر المطلوبة منه عليه السلام ، وهى مرتبطة بالنعم السابقة ورد عليها:( فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ )، ففى مقابل أن الله تعالى أواه وهو يتيم فعليه ألا يقهر اليتيم ، ولأن الله تعالى أغناه بالمال فممنوع عليه أن ينهر السائل إذا سأله مالا ، ومقابل أن الله تعالى هداه فعليه أن يتحدث ويدعو بنعمة القرآن أحسن الحديث .
موضوعنا فى المحور الثانى من السورة ، وهو :(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى وَوَجَدَكَ عَائِلا فَأَغْنَى) وهنا إشارة لمراحل ثلاث فى حياته عليه السلام من مولده الى نزول السورة : مرحلة اليتم ومرحلة الضلال فالهداية ومرحلة الفقر فالغنى . مرحلة اليتم تبدأ من فقد الوالدين أو أحدهما وتنتهى بالبلوغ . بعد أن يبلغ الفرد الحلم يصبح رجلا له حق إدارة أملاكه بنفسه طالما كان رشيدا ( النساء 6) وأصبح مكلفا بالعبادات والأوامر الاجتماعية الأخرى ومنها الاستئذان على والديه فى البيت ( النور 31 ، 58 : 59 ). أى كان محمد يتيما حتى بلغ الحلم فاصبح رجلا ، وهنا أصبح مسئولا عما يفعل ، وتابع وهو رجل ما اعتاد قومه أن يفعلوه فى تطبيقهم المحرف لملة ابراهيم ، لم يعترض على ذلك ، ثم جاءه الهدى فى مرحلة الرجولة ، وجاءته النبوة والوحى وهو فى نفس المرحلة فكان للعرب عجبا أن أنزل الله تعالى الوحى على ( رجل منهم ) ليس فتى أو شابا مراهقا ولكن كان رجلا .
5 ـ يبقى أهم ما فى الموضوع وهو ما لا جدال فيه ، وهو أن محمدا حين كان يعبد الأصنام لم يكن نبيا ، كان مجرد شاب من شباب قريش يسير على ما وجد عليه قومه . وحين اختار الهداية فهداه الله فقد كان ذلك قبل أن يكون نبيا . وبالتالى فما نقوله عن عبادة الأصنام لا يتعلق بالنبى محمد أو الرسول محمد ولكن بالشاب محمد بن عبد الله قبل أن يكون خاتم المرسلين. والله تعالى أعلم ..
6 ـ وتعالوا بنا الى الجانب البشرى الآخر من شخصية محمد عليه السلام ، حيث نناقش قوله تعالى له (إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ )( النحل 37 ). وهو جزء من آية كريمة ، ونتدبره فى مقالين : نبدأ بالأول :حرص خاتم المرسلين على هداية قومه .

حرص خاتم المرسلين على هداية قومه :
أولا :
1 ـ بعضهم يعتقد أن الله جل وعلا جعل خاتم المرسلين أفضل الرسل والأنبياء جميعا ، ويستدلون بأن الله تعالى خاطب الأنبياء والرسل بأسمائهم المجردة فقال يا ابراهيم ويا موسى و ياعيسى و يا داود .. ولكنه لم يقل يا محمد ، ولكن قال له ( ياأيها النبى ) فقوله له ( يا أيها النبى ) فيها تعظيم لمقام النبى محمد ، ورفع له فوق مستوى الأنبياء السابقين . هذا ما تعلمناه فى ( الأزهر الشريف جدا ) .
2 ـ إن الخطاب للنبى ـ أى نبى ـ باسمه يأتى معناه حسب السياق ، قد يأتى للنبى فى معرض التأنيب ، فالنبى نوح َنَادَى رَّبَّهُ أن يجعل ابنه من أهله ، فجاءه الرد باسمه (نوح ) مقترنا بالتأنيب ( قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) وبعدها نودى نوح باسمه فى رسالة تحمل له البشرى والتكريم : ( قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ) ( هود 46 ، 48 )
وخوطب موسى باسمه المجرد فى سؤال تقريرى (وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى ) ( طه 17 ) وقيل له فى معرض التكريم والحب الالهى (ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي)( طه40 : 41 )، (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ)( الأعراف 144 ).
وفى اسلوب وسؤال تقريرى خوطب المسيح عليه السلام باسمه المجرد (إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ ) ( المائدة 110 ) وقال الله تعالى يخاطب النبى داود بنفس التقرير (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ ) ( ص 26 ) بينما خوطب ابراهيم بما يفيد التكريم على نجاحه فى اختبار الطاعة : (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ) ( الصافات 104 : 105 )أى إن خطاب الله تعالى للنبى باسمه المجرد لا يفيد رفعا أو وضعا لمكانة النبى لأن المعنى يتبع سياق الخطاب .
3 ـ ونفس الحال فى الخطاب بكلمة : ( يا أيها ) إذ يتلون معناه حسب السياق ، ولا تفيد مجرد التعظيم للنبى أو لغيره . ونعطى أمثلة :
يأتى الخطاب ب (ياأيها) للتقرير بالأوامر و النواهى للنبى محمد : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ) ( التوبة 73 ) وقد يأتيه الأمر والنهى مغلفا بعتاب رقيق : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ)(الأحزاب 1) وقد يقال له هذا فى تانيب ظاهر واضح :(يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ ) ( التحريم 1 )فهل هنا تعظيم أم تأنيب ؟. بل كان أعداء النبى محمد يقولون له : (وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ) ( الحجر 6 ) فهل هنا مدح وثناء أم سخرية واستهزاء ؟
ونفس الحال للناس جميعا: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) ( البقرة 21 ) ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ) ( الحجرات 13 ) فكلمة (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ) هنا لا تفيد تعظيما للناس ، ولكنها أوامر وتوجيهات .
ونفس الحال للمؤمنين ،تأتى للنصح كقوله تعالى :(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ )(آل عمران 100 ) وللنصح المشوب بتأنيب خفى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) ( الحجرات 2 ) ) وبالتأنيب الواضح :( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلا سَدِيدًا )( الأحزاب69 : 70 ).
وأمر الله تعالى رسوله محمدا أن يخاطب أعداءه ب (أيها ): (قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ) ( الزمر 64 ) فهل كان يعظمهم هنا ؟. وهل حين كان يقول لهم (قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ ) ( الكافرون 1 ـ ) هل كان يكرّمهم ؟
ويوم القيامة سيقول رب العزة لأصحاب النار : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ) ( التحريم 7 ) (ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ لَآكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ ) ( الواقعة 51 : 52) فهل هنا تعظيم وتكريم أم تحقير وتأثيم ؟
4 ـ بعضهم ايضا ـ بسبب الجهل بمصطلحات القرآن الكريم واختلافها عن مفاهيم عصرنا ـ يرى أن من عناصر تفضيل النبى محمد قول الله تعالى له :(وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ) ( القلم 4 )، وقد جاءت هذه الآية فى سياق الحديث عن القرآن الكريم وموقف المكذبين منه ، بما يؤكد أن ( الخلق العظيم ) الذى كان ( عليه ) خاتم المرسلين ليس سوى القرآن الكريم . ولأن القرآن الكريم كتاب (مثانى ) أى يتكرر فيه المعنى يؤكد بعضه بعضا ،فإن المعنى السابق جاء فى مفتتح سورة ( يس ) : ( يس وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ تَنزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ ) ( يس 1 : 4 ) فمن صفات القرآن الكريم ( الصراط المستقيم ) و ( الخلق العظيم ).
ثم إن مصطلح ( الخلق ) فى القرآن يعنى المنهاج والشرع ،فالقرآن هوالخلق العظيم أى المنهاج العظيم،وهناك ( خلق الأولين ) أى تشريع و خلق التراث، وقد قالت قوم عاد للنبى هود (قَالُوا سَوَاء عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ إِنْ هَذَا إِلاَّ خُلُقُ الأَوَّلِينَ)(الشعراء136 :137 ) ، وهو نفس منطق السلفيين الذين يتمسكون ب (خُلُقُ الأَوَّلِينَ ).
ثانيا : نواحى فى عظمة خاتم المرسلين لم يلتفت اليها التراثيون

1 ـ لقد نزل القرآن الكريم على محمد حين كان حيا يسعى فى الأرض يناضل ويكافح بجهده البشرى، ولأنه بشر فقد كان يخطىء ويصيب ، ويأتيه التوجيه والتأنيب كما كان يأتيه المدح ، وفى الحالتين فقد كان عليه السلام نموذجا رفيعا لأعلى مستوى يمكن أن يحققه فرد من البشر فى وقت الضعف الشرى أو السمو البشرى.
من الصعب على أى مؤمن أن يداوم على قيام الليل يصلى ويقرأ القرآن ، ثم ينشط فى النهار للسعى فى سبيل المعاش و فى الجهاد ؟ هذا ما كان عليه السلام فى ليله ونهاره ـ ومعه طائفة من المؤمنين ـ إلى أن نزل له الوحى بأن يخفف عن نفسه ، وتبدأ الآية الكريمة بجملة فيها كل التقدير لخاتم النبيين يكلمه فيها بكلام مباشر يقرر علم الله تعالى بقيامه الليل ، يقول له ربه جل وعلا فى اسلوب يحمل تكريما عاليا : (إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ) ثم يطلب منه ان يخفف على نفسه وعلى المؤمنين : (وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ...) ( المزمل 20 ).
لم يلتفت صنّاع الدين السنى الى هذه المنقبة لخاتم المرسلين ،بل وأهالوا عليها أكواما من رواياتهم الجنسية التى تجعل النبى محمدا مجنونا بالنساء ، ومن المؤسف أن البخارى يفترى أن النبى محمدا كان يقضى ليله فى ممارسة لا تنقطع للجنس مع نسائه ، وخلفه أصحابه يتحدثون أنه (أعطى قوة ثلاثين رجلا ) ..وقد تعرضنا لهذا الافتراء بالتفصيل فى كتابنا ( القرآن وكفى ) وهو منشور هنا .
3 ـ ولكن أعظم ما تميز به خاتم المرسلين من أخلاق حميدة هى رحمته حتى فى تعامله مع أعدى أعدائه المتآمرين عليه ، وتجلت هذه الرحمة فى حرصه على هدايتهم الى درجة استلزمت أن ينزل القرآن الكريم يأمره بالتخفيف على نفسه والرفق بها . هذا هو الجانب التى غفلت عنه القطط السيامية ..! وهو ما نعرض له هنا فى هذا القسم من المقال .
ثالثا :
واجهت قريش خاتم المرسلين بكل ما تملكه من شرّ ، وواجههم خاتم المرسلين بكل ما فى قلبه الكريم من عطف وحرص على هدايتهم .
ونأتى للتفاصيل :
1 ـ إيذاؤهم له بالقول .
وكان عليه السلام يحزن ويضيق صدره بما يقولونه عنه من اتهامات وتكذيب وافتراءات فيقول له ربه جل وعلا : (وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ )( الحجر 97 )، وتتكرر أكاذيبهم واتهاماتهم فيحل به الحزن فيقول له ربه (وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) ( يونس 65 )، وتتكرر وتتعدد الاتهامات والافتراءات ويظل النبى يعايش الحزن فيقول له ربه جل وعلا : (فَلا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ) ( يس 76).
ولقد اتخذ المشركون من اكتفاء رب العزة بالقرآن آية للنبى محمد يتحدى بها العالم كله ـ إتخذوا من ذلك وسيلة للعناد ، فقد كانوا يلحّون فى طلب آية حسية ، ويتكرر الرفض ، ويحزن النبى محمد ويأمل أن تنزل آية حسية أملا فى أن يهتدوا ، ويرد عليه رب العزة موضحا أنهم يطلبون الاية الحسية عنادا ، وهم فى قرارة أنفسهم يعرفون أنه جاء بالحق ، ولكن يجحدون هذا الحق ، وبالتالى فليس له أن يحزن على ما يقولون :(قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ ). وبسبب حرصه على هدايتهم ولو بالاتيان بآية حسية فان الله تعالى يقول له: (وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (الأنعام 33 ، 35) ، أى إذا كان إعراضهم عن الحق يؤرقك الى هذا الحد وتريد ان تأتى لهم بآية فلتأت بها بنفسك ، اصعد الى السماء أو احفر فى الأرض لتأتى لهم بآية ، ولو شاء الله لهداهم جميعا ولكن لا يهدى الله إلا من يريد الهدى ويسعى اليه ، ثم يأتى التوبيخ للنبى (فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ). وفى نفس السورة حين طلبوا آية حسية ؛ كتابا ينزل من السماء فقال جل وعلا إنه لو أنزل لهم كتابا من السماء ولمسوه بايديهم فلن يؤمنوا: (وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ ) وطلبوا نزول ملك من السماء ـ على سبيل العناد ـ فرد الله جل وعلا ( وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأَمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ )( الأنعام 7: 9 ) أى سيكون ذلك الملاك رجلا مثلهم يرتدى ملابسهم ويتكلم بلسانهم بلا أدنى فرق بينه وبين خاتم المرسلين ، لأن العبرة بالرسالة وليس من يحملها من مخلوقات الله جل وعلا.
ومع ذلك تتابعت مطالبهم بآية حسية بديلا عن القرآن الكريم الى درجة تشبه الحرب النفسية ، مما أثّر على نفسيته علايه السلام ، واستلزم الأمر أن يقول جل وعلا لخاتم المرسلين :(فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ) ( هود 12 ) أى هل ستؤثر فيك هذه الحرب النفسية الى درجة أن تترك بعض آيات القرآن؟ وهل يضيق صدرك بسبب طلبهم آية حسية ؟ ، ويؤكد له جل وعلا إنه مجرد نذير فقط ، أى ليس مسئولا عن هداية أحد ، عليه مجرد التبليغ ، والله جل وعلا هو الموكل بكل شىء والوكيل على كل شىء.
2 ـ إيذاؤهم له بالكيد والمكر والتآمر:
ولم يقتصر الأمر على كيدهم القولى بل تعداه الى التآمر الفعلى ، فكان عليه السلام يحزن ويضيق صدره بتآمرهم عليه ومكرهم به وإيذائهم له ولأصحابه ، فيقول له ربه :(وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) ( النمل 70 )، ويأمره بالصبر على أذاهم وألا يحزن عليهم وألا يضيق بمكرهم :( وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ : النحل 127).
وجاء الرد على تآمر قريش ـ أو بالتعبير القرآنى مكرهم ـ بالتذكير بما حدث للأمم السابقة من عقاب بسبب تآمرهم ومكرهم: (وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ ) ( الرعد 42)(قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ) ( النحل 26 : 27 ).
وجعلها رب العزة قاعدة ،أنه حين يتحكم المجرمون فى أى مجتمع (أو قرية بالمصطلح القرآنى ) فان التآمر يكون ديدنهم ، ولا بد أن يدفعوا ثمن هذا التآمر ،أى يحيق بهم مكرهم ، ولو جاءهم رسول أو نذير استكبروا أن يأتي الرسول خارجا عن طبقتهم وطالبوا بأن تكون لهم نفس المزية :(وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ ) ( الأنعام 123 : 124 ).
وتنطبق تلك القاعدة على قريش ومن سيأتى بعدها ، فذلك الاستكبار المقترن بالمكر له نتيجة حتمية وهى ان يحيق المكر السيىء باهله ، وتلك سنة الله التى لا محيص عنها ولا تبديل لها:(اسْتِكْبَارًا فِي الأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلا ) ( فاطر 43 ).
ولقد مكرت قريش أو تآمرت على خاتم المرسلين : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ) ( الأنفال 30 ). والاسلوب القرآنى هنا (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) يتبع ما يعرف فى البلاغة العربية باسلوب ( المشاكلة ) أى تأتى الكلمة على نفس الشاكلة. وهو المتبع فيما يخص وصف أفعال الرحمن وصفاته التى لا تستطيع اللغة البشرية التعبير عنها، فيكون اسلوب(المشاكلة) هو الطريق الأمثل فى التعبير على قدر أفهام البشر. ونفس الحال فى قوله جل وعلا:(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا وَأَكِيدُ كَيْدًا ) ( الطارق 15 : 16 )
3 ـ الحزن ليس لسبب شخصى و لكن حزنا على كفرهم :
كان حزنه عليه السلام نابعا من حرصه على هدايتهم حبا فيهم وخوفا عليهم ، فلقد توارثوا ملة ابراهيم من صلاة وصيام وحج وصدقات ، ولكنهم خلطوا عبادتهم لله تعالى بعبادة الأولياء وتماثيلهم (الأصنام ) وقبورهم ( الأنصاب ). وجاءت الرسالة الخاتمة لتكون حكما فيما توارثوه ،بأن يتبعوا ما أنزل الله ، ولكنهم أتبعوا كل ما توارثوه من صحيح ومن فاسد ،ورفضوا أن يتبعوا ما أنزل الله تعالى :(وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ) أى إن إتباع ما وجدوا عليه آباءهم مما يخالف كتاب الله ليس إلاّ إتباعا للشيطان ، وفى المقابل فإن الذى يسلم لله تعالى دينه وعقيدته وعبادته فهو المتمسك بالعقيدة الصحيحة : ( وَمَن يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) هذا ما كان خاتم المرسلين يدعو قومه اليه ؛ الاسلام ، أى أن يسلموا لله تعالى قلوبهم بلا شريك مع الله ، ولكنهم رفضوا ، وبسبب حرصه على هدايتهم كان يحزن على كفرهم ، فقال له ربه جل وعلا يواسيه : ( وَمَن كَفَرَ فَلا يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ )( لقمان 21 : 24). كان هذا فى مكة .
وتكرر نفس الوضع فى المدينة فقال جل وعلا لخاتم المرسلين :(وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللَّهَ شَيْئًا)( آل عمران 176 ) أى هى مشكلتهم مع الله ولن يضروا الله جل وعلا شيئا . وتكرر من المنافقين فكان عليه السلام يحزن من أجلهم فيقول له ربه جل وعلا : (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ) ( المائدة 41 ).
لم يحزن عليه السلام بسبب إهاناتهم له واتهاماتهم له وإيذائهم له وتآمرهم عليه بالقول والفعل ، ولكنه كان يحزن لأنه يعرف أن مصيرهم هو الخلود فى النار إذا ماتوا على ماهم عليه إن لم ينتهوا عن الكفر والعصيان . ولأن العمر قصير والموت قادم فقد كان عليه السلام فى سباق مع الزمن لكى يؤمنوا ويهتدوا قبل الموت ، ويصل به حرصه على هدايتهم الى الالحاح الذى يقترب من الإكراه فى الدين ، فقال له ربه جل وعلا (وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ) ( يونس 99 ) أى لو كانت الهداية متوقفة على مشيئة الرحمن فقط لجعل كل الناس مهتدين مؤمنين ، ولكنها تتوقف على مشيئة الانسان ، ولذلك ليس على النبى هداهم فليست تلك مسئوليته ، وبالتالى فلا يجوز له الالحاح عليهم بما يشبه الاكراه فى الدين.
ومن الطبيعى أن ذلك ليس إكراها فى الدين بمثل ما كان تفعله قريش ويفعله الطغاة ، لأن أولئك كانوا فى موقع السلطة و الغلبة والتحكم والسيطرة ، أما خاتم النبيين فقد كان مستضعفا فى مكة حين نزلت عليه تلك الآية الكريمة. كان مضطهدا هو نفسه ، ولم يمنعه وضع الاضطهاد هذا من الالحاح فى الدعوة وتحمل الأذى منهم حرصا منه على هدايتهم حبا منه لقومه وخوفا عليهم.
4 ـ أى كان حزنه وضيقه نابعا من حرصه على هدايتهم :
ولذلك قال له جل وعلا :(إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ )( النحل 37 )، أى مهما حرصت على هدايتهم فإن الله تعالى لا يمكن أن يهدى من يقوم بإضلال الناس ، أى لا يكتفى بالضلال ، بل يقوم بنشر الضلال ومحاربة الهدى ، وهذا ما كانت تفعله قريش ، الذين جعلوا عماد إقتصادهم عندما نزل القرآن أن يكذبوا به حرصا على مصالحهم الاقتصادية المرتبطة بحماية أصنام العرب المقامة فى الحرم، ولذلك قال تعالى لهم (أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ) ( الواقعة 81 : 82 ).
أجهد خاتم المرسلين نفسه وأرهقها حزنا وأسفا بسبب عدم إيمانهم بالقرآن الكريم، فنزل الوحى القرآنى له بعتاب رقيق عطوف يقول له : ( فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا)( الكهف 6 ) أى هل ستهلك نفسك أسفا عليهم لأنهم لا يؤمنون بالقرآن ؟ . وأوضح له رب العزة أنه لا فائدة فيهم طالما قد انقلبت لديهم المعايير ،فأصبح الحق باطلا و الباطل حقا ، وأصبح الضلال هدى و الهدى ضلالا،ومن يصل الى تلك الحالة فلا يستحق الاهتمام فكيف تذهب نفس النبى عليهم حسرات ، يقول له ربه جل وعلا : ( أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِي مَن يَشَاء فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ )( فاطر 8 ).
ويصورهم رب العزة فى عدم استجابتهم للحق كالموتى الذين لا يشعرون وكالصّم الذين لا يسمعون والعمى الذين لا يبصرون ، وكرر رب العزة للنبى محمد ضرب تلك الأمثلة حتى يستريح من عناء المحاولة معهم : (أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلالٍ مُّبِينٍ )( الزخرف 40)،(فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلالَتِهِمْ )( الروم 52- 53 ) ، ( وَمَا أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي الْقُبُورِ إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ )( فاطر 22-23 ). أى كان عليه االسلام تنزل عليه آية من تلك الآيات فيستمر فى حرصه على هدايتهم فتنزل آية أخرى ، وهكذا ..
وكان لا بد من وقفة ليترفق خاتم المرسلين بنفسه ولا يضيع وقته فى تحقيق المستحيل . بعد أن عرف الجميع بالبعثة النبوية ودعوة (لا اله إلا الله ) ووقف المعاندون ضدها ولم يصبح فائدة فيهم تحددت للنبى محمد مهمة التبليغ والانذار فقط لمن لديه استعداد للهداية والخشية من الله ، يقول جل وعلا له (طه مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يَخْشَى)( طه 1 ـ ) أى لم ينزل عليه القرآن الكريم لكى يشقى نفسه عبثا فى محاولة هداية المعاندين ، ولكن عليه فقط التذكير لمن لديه استعداد لأن يخشى رب العالمين .
ويقول جلا وعلا عن المعاندين (وَسَوَاء عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ) أى لا فائدة فيهم ، وجاءت الآية التالية باسلوب القصر عمن ينذرهم خاتم المرسلين : (إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَن بِالْغَيْبِ )( يس 10 : 11)، وتكرر ذلك له عليه السلام فى قوله تعالى : (إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ) ( فاطر 18 ) . وبالتالى تحددت مهمته بعد البلاغ العام ورفض المعاندين بأن يقتصر فى دعوته على من يسعى بنفسه للهداية ويأتى بنفسه للنبى محمد عليه السلام .
ويقول جل وعلا عن المعاندين ومكرهم واقوالهم البذيئة : (نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ) ( ق 45 )، فالله تعالى هو الأعلم بما يقولونه فى السّر وفى العلن ، وليس خاتم المرسلين طاغية متحكما فيهم يقوم باكراههم فى الدين، وليس عليه إلا أن يعظ بالقرآن الكريم من لديه الاستعداد بالهداية ، ويخاف وعيد الرحمن . أى بإيجاز :إن رأى فى أحدهم استعدادا يستحق معه أن يتوقف معه بالدعوة فعليه أن يدعوه طالما يرى أملا فى هذا الشخص ،أو بالتعبير القرآنى : (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى) ( الأعلى 9 ).
وهذه هى قواعد الدعوة الى الهدى فى الاسلام ، لا مجال للاكراه فى الدين ، ولا مجال فى الالحاح على أحد من المعاندين ، أو الحزن على أحد منهم . ولقد عوتب محمدعليه السلام بسبب أنه لم يلتزم بتلك القواعد ، وجاء العتاب لأنه كان ذا قلب رءوف رحيم بالناس حريصا على هداية قومه ، أى عوتب برفق بسبب شريف ، وجاء العتاب خوفا عليه ورفقا به ، فهم لا يستحقون أن يحزن عليهم أو أن يحرص على هداهم.
وجدير بالذكر ان كل دين أرضى حين يتحكم فى أى مجتمع فلا بد أن يعتمد الاكراه فى الدين فى الداخل ،بل وقد يسعى إلى إثارة الحروب الدينية فى الخارج . وتلك من أسس التطرف والارهاب لدى مسلمى اليوم.
رابعا : مقارنات :
1 ـ ليس القصد هنا باى حال الدخول فى تفضيل بين الأنبياء ، ولكن هو تدبر فى آيات القرآن الكريم فى بعض حالات ومواقف يمكن فيها عقد مقارنة بين خاتم المرسلين وبعض من سبقه من الأنبياء، فيما يخص تميز محمد عليه السلام بالرأفة والرحمة .
2 ـ ابراهيم عليه السلام دعا ربه فقال : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ) أى قصر الدعوة بالرزق على المؤمنين ، وجاء الرد الالهى بالتصحيح ؛أن الرزق للجميع ، من المؤمنين والكفار ، ولكن مصير الكفار هو النار فى اليوم الآخر : (قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ) ( البقرة 126 )
3 ـ ابراهيم عليه السلام توقف عن الدعاء لأبيه عندما تأكد أن أباه عدو لله تعالى ، أما النبى محمد فقد ظل يدعو لعمه أبى لهب بعد أن نزلت فيه سورة ( المسد ) ، وبعد أن مات أبو لهب حزنا على هزيمة المشركين فى بدر ظل النبى محمد يدعو له ولآله المشركين ، ويتبعه فى الدعاء للمشركين بعض أصحابه من المؤمنين ، الى أن نزل فى سورة التوبة ( وهى من أواخر ما نزل من القرآن الكريم ) هذا اللوم للنبى محمد واصحابه : (مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُولِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ)( التوبة 113 : 115 ) .
ملاحظة :
الافتراء السنى زعم أن أباطالب عم النبى محمد مات كافرا ، وأن النبى محمدا استغفر له فنزلت هذه الآية ، وهى رواية باطلة قد نتوقف معها فى مقال خاص .
4 ـ لم يكن هذا تعصبا من النبى محمد لآله وأسرته لأن قلبه الكبير اتسع للناس جميعا حتى المنافقين الذين كانوا يؤذونه ، فقال تعالى عنهم : (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ )( التوبة ). أى كانوا يؤذون النبى ويصبر النبى محمد على أذاهم الى ان ينزل الوحى يدافع عنه ويصفه باروع صفات ، وهى أنه (قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ) ثم يتوعد المنافقين المعتدين بعذاب أليم . أكثر من ذلك كان يستغفر لهم وهو يراهم يسخرون من المؤمنين الفقراء عندما كانوا يتبرعون للجهاد فى غزوة ذات العسرة ، يقول جل وعلا : (الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) ثم يقول تعالى للنبى الذى كان يستغفر لهم:(اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ )(التوبة 79 : 80 ).
بل كان عليه السلام يستغفر لهم مع علمه باستكبارهم وعدم اهتمامهم باستغفاره لهم : (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) بل ومع علمه بتحريضهم على عدم التبرع للجهاد :( هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنفِقُوا عَلَى مَنْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ ) ومع علمه بتهديدهم بإخراج النبى من المدينة ووصفهم له ب (الأذل ): ( يَقُولُونَ لَئِن رَّجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ )( المنافقون 5 : 8 ).
مع كل هذا كان يستغفر لهم . فماذا لوكان أولئك المنافقون فى عصر موسى ويتصرفون معه بنفس الطريقة ؟ هل كان سيسكت عنهم موسى أم كان سيشتعل غضبا ؟ لنتذكر غضب موسى حين ألقى ألواح الوحى وأخذ يشد أخاه هارون من رأسه ولحيته : (وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) ( الأعراف 150 ).
واذا كان خاتم المرسلين بكل هذا العطف مع أعدائه المتافقين والكفار فكيف بالمؤمنين ؟
خامسا : رحمته عليه السلام بالمؤمنين :
1 ـ على خلاف موسى كان محمد بأصحابه المؤمنين رءوفا رحيما ، وهذا وصف الله جل وعلا له ، يقول تعالى للمؤمنين فى عهد النبوة :(لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ( التوبة 128 ) أى كان خاتم المرسلين يعزّ عليه أى عنت أو مشقة يتعرض لها أصحابه، وكان حريصا عليهم فى كل شىء ، ورءوفا بهم ورحيما ، أو بالتعبير القرآنى كان ( رحمة ) للمؤمنين ، أى كان رحمة إنسانية تسعى على قدمين حسب وصفه جل وعلا له :(يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ) ( التوبة 61 ).
وبتلك الرحمة التى أودعها الله تعالى فى قلبه عليه السلام كان خاتم المرسلين يتعامل مع أصحابه باللين والعفو والغفران والاستغفار لهم وألا يقطع أمرا بلا مشورة منهم : (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ) ( آل عمران 159 ).
2 ـ وبعض المؤمنين إستغل هذه الرحمة وذلك السمو الخلقى فلم يتعامل مع خاتم المرسلين بما يجب له من إحترام وتقدير فنزل قوله تعالى يحذرهم : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ ) ( الحجرات 2 : 3 )
3 ـ وبعض المؤمنين استغل حسن خلقه وحيائه وكرمه فى بيته أسوأ استغلال ، وكان عليه السلام يستحى أن يتكلم معهم ، فنزل قوله تعالى لهم (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ وَاللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ ) (الأحزاب 53).
4 ـ وكرم أخلاقه عليه السلام أطمع فيه أكبر المتآمرين عليه فى المدينة ، وهم المنافقون الذين اتخذوا مسجدا للتآمر ، وصفه الله جل وعلا فقال : (وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِّمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ ). وبلغ من إطمئنانهم الى تسامح النبى محمد وكرم اخلاقه وتواضعه أنهم كانوا يدعونه الى هذا المسجد فيأتى ويقيم فيه ويصلى معهم غير عالم بأن هذا المسجد هو وكر للتآمر ضده ، وظل هكذا إلى أن فضح الله تعالى مكرهم ، وقال للنبى محمد : (لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ) ( التوبة 107 : 108 ) .
5 ـ عليه سلام الله جل وعلا..


المقال التالى: عن النبى وقواعد الهداية الالهية.

اجمالي القراءات 20848