مقدمة لابد منها لتمهيد الدخول على مفهوم الشورى والديمقراطية
دولة الاسلام هي دولة الديمقراطية المباشرة

محمد صادق في الثلاثاء ١٩ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

 

 

دولة الاسلام هي دولة الديمقراطية المباشرة

مقدمة لابد منها لتمهيد الدخول على مفهوم الشورى والديمقراطية

قبل البدأ فى هذه المقدمة، لقد رأيت أنه ليس من المفيد أن نتكلم ونناقش ونُصنف الفقهاء قبل عصر الكتور عبد الرزاق السنهورى لتكون الرؤية فى صلب الموضوع ز&atild;موضوع زمنيا أقرب إلى يومنا هذا حتى تتضح كل الآراء والمواقف الإيجابية والسلبية على السواء.

ظهر الدكتور عبد الرزاق السنهوري كبير خبراء القانون المدني في عصره (1895 - 1971 م ) ، فبدا أثر الثقافة الفرنسية الذى تشربه أثناء دراسته بفرنسا واضحا في تصوره لنظام الحكم في الإسلام ، لاسيما في كتابه " فقه الخلافة وتطورها " ؛إذ صنّف النظام السياسي الإسلامي صنفين   :خلافة صحيحة هي حكومة الراشدين ، وخلافة ناقصة هي خلافة بني أمية وبني العباس ؛ على غرار تصنيف بعض الفقهاء قبله ، مما له أصل في تصنيف أفلاطون للأنظمة السياسية .

أما منهج التدبير في الخلافتين الصحيحة والناقصة عند السنهوري ، فلم يخرج فيه عما ذهب إليه الماوردي ومن سار على نهجه من الفقهاء ، لاسيما فيما يتعلق باختيار الإمام واستدامته أو عزله ، ومحدودية مجالس الشورى وعدم إلزامية آرائها ، وعضويتها المنحصرة في أعيان الأسرة الحاكمة وشيوخ القبائل وكبار الأغنياء والموالين من الفقهاء .كما تجلى تأثره بالثقافة الغربية العلمانية عندما رأى تعذر إقامة حكم إسلامي في العصر الحديث يجمع للمسلمين أمري دينهم ودنياهم . واقترح بديلا لذلك إنشاء منظمتين دوليتين ، إحداهما للتعاون السياسي والاقتصادي والعسكري والثقافي بين الدول الإسلامية يُطلق عليها " عصبة الأمم الإسلامية " على غرار " عصبة الأمم " لدى الدول الأوربية 

والمنظمة الثانية دينية لتنسيق النهوض بالشريعة الإسلامية وتشجيعه . وبهذا الاقتراح ساهم في إبعاد المسلمين عن المطالبة بوحدتهم السياسية والدينية في إطار دولة الخلافة ، وعمل على تكريس الاتجاه العلماني الخاص بفصل الدين عن الدولة وهو ما كان يسعى إليه الاستعمار الغربي حينئذ

ومن الغريب أن بريطانيا كانت أول المستجيبين لرأي السنهوري ، المسترشدين بنصحه ؛ فأنشأت أول منظمة إقليمية سنة 1945 هي " الجامعة العربية ". ثم في سنة 1969 دعت هذه الجامعة العربية إلى إنشاء منظمة أوسع ، تضم المسلمين عربا وغير عرب ، فتكونت منظمة " المؤتمر الإسلامي " ؛ كما عملت المملكة العربية السعودية على تأسيس " رابطة العالم الإسلامي ".

وفي ظل منظمتي " الجامعة العربية والمؤتمر الإسلامي " نسي المسلمون أمر الوحدة الإسلامية سواء في ظل الخلافة الصحيحة أو الخلافة الناقصة ، وعرفوا على يد الغرب والصهيونية العالمية كل ضروب الذل والهوان والهزيمة والخضوع الإرادي الرسمي للأجنبي .

أما الشيخ أبو الأعلى المودودي (1903 - 1979) ، فيرى أن النظام السياسي الإسلامي يسبقه حتما قيام مجتمع إسلامي حق ، تنبثق منه تلقائيا الخلافة الراشدة التي يدبرها إمام يختاره المسلمون ويطيعونه ، ويقيم فيهم أمر الإسلام وينشر بينهم العدل.

وهذا التبسيط للقضية برغم فضل صاحبه وصدقه وجهاديته ، لا يعدو أن يكون خيالا بعيد المنال ، وإلغاء لقضايا واقعية تتعلق بمعضلات الإعداد والتأسيس والتنظيم والتخطيط والبناء والحماية ، لكل مراحل العمل من أجل إقامة دولة الإسلام . كما أنه في نهاية المطاف لا يتجاوز محاولة تأسيس نظام حكم فردي ، ضمانات العدالة فيه مجرد ورع الخليفة وزهده ، وتقوى الرعية وانضباطها وسلوكها القويم . مما لا يغني مطلقا عن ضرورة توضيح طبيعة النظام ومناهج إقامة مؤسساته وضمانات استمرار سيره سويا رشيدا

نفس الرأى تقريبا ، نجده لدى سيد قطب (1906 - 1966 م )، في كتابه  " معالم في الطريق " إذ يرى ضرورة استنبات المجتمع الإسلامي الحق أولا ، بدءاً بالخلية التأسيسية التي تقيم أمر الإسلام في النفس والأسرة والمعاملة اليومية ، تماسكا مع الصادقين ، ومفاصلة شعورية للجاهلية ، إلى أن يتحول كل فرد فيها قرآنا يمشي على رجلين . فإن قام المجتمع الإسلامي أثمر الحكومة الإسلامية خلافة على نهج النبوة . ولكنه لم يبين طبيعة هذه الحكومة شكلا ومضمونا ، تنظيما وتدبيرا ، على نهجه في التحليل والجدل ، ورأيه في أن الإسلام لا يُسأل عن واقع ليس من صنعه ، ولا تُرقع به أنظمة ليست على نهجه ، إلا أن تُقام ركائز العقيدة بأرض الواقع متكاملة ، على قاعدتي : " طبقوا الإسلام أولا ثم اسألوه عن الواقع الذي أنشأه " ، و " خذوا الإسلام جملة أو دعوه".

أما الدكتور حسن الترابي ، فهو يدعو في كتابه " نظرات في الفقه السياسي " إلى تجاوز المساحة في المصطلحات الوافدة على المسلمين من الغرب ، واستعمالات الألفاظ ذات الأصول غير العربية وغير الإسلامية .

 كما أن الشورى عند الترابي من أصل الدين ، أي من صميم العقيدة وليست من الفروع ؛ وما دامت  الشورى في نظره هي الديموقراطية ، فالديموقراطية ـ إذن ـ من أصل الدين وعقيدته.

وغني عن البيان تهافت هذه الآراء وخروجها عن المنهج السليم في التفكير. فالمصطلحات الإسلامية ليست مجرد كلمات تقليدية كما وصفها الترابي ، بل هي ألفاظ دينية نقلها القرآن الكريم من معناها اللغوي إلى مفهومها العقدي والتشريعي . كما أن الإسلام متكامل المصطلحات الدينية ، ولا تعاني مفرداته من نقصان أو خلل تحتاج معهما إلى أن تعْمُرَ وتحيى باستيراد " قطع غيار " أجنبية .

 وطيلة العقود الثلاثة الماضية برزت في مجال أبحاث الفقه السياسي الإسلامي ظاهرتان

أولاهما: ظاهرة المؤتمرات والندوات الفكرية التي تنظمها الدول الإسلامية ، عربية وغير عربية، وتحدد لها محاور سياسية واقتصادية واجتماعية وفقهية ، هدفا معلنا من أجل استصدار توصيات وتزكيات ومواقف لصالح هذه الدولة أو تلك . وأفرزت هذه الظاهرة طائفة من علماء التبرير الجوالين ، صدرت عنهم فتاوى متناقضة مضطربة ، زكّت جميع أنظمة الحكم القائمة حاليا في بلاد المسلمين بدون استثناء . كما أن هذا اللون من النشاط السياسي لم يستطع أن يمهد ولو لصيغ فكرية تحقق نوعا من التوافق والتلازم بين السلطة والشريعة  ولم يخرج تبعا لذلك عن المفاهيم الفقهية والاجتهادات الكلامية الخاصة بالفقه التراثي المضطرب ، برغم استخدامه أساليب ومصطلحات تضاهي" إنشائيات " الحداثيين واليساريين .

أما الظاهرة الثانية: فتتعلق بالنشاط الإعلامي المسموع والمرئي والمكتوب ، الخاص بالفقه السياسي لدى الأمة  وقد ازدهر بشكل كبير بعد ظهور القنوات الفضائية ، وشمل ضروبا من الحوار والمناقشة بين علماء ومفكرين من مختلف الأعمار والأقطار والمستويات . وهي ظاهرة إيجابية ، غير أن عدم حيادية وسائل الإعلام التي تنظمها يقلل من جدواها ، ويمنعها من أن تصل المدى الذي ينبغي أن تبلغه . ذلك لأن المستفتي فيها له هدف تزكية الجهة التي يمثلها ، أو تحقيق مصلحة معينة لها . والمسؤول فيها ـ المفتي ـ ، يراعي ألا تُقطع حبال الودّ مع الجهة التي تخاطبه ، أو خيوط البثّ التي تنشر رأيه.

كما أن كل مفردات هذه اللقاءات والحوارات ـ إن لم تكن كلها ـ ، لا تتعلق بجوهر قضية نظام الحكم ، الذي هو التقويم المتكامل الصريح لطبيعة الأنظمة القائمة ، والتقديم الواضح الجلي للنظام السياسي الحق . بل تدور في مجملها حول قضايا سياسية ودستورية وفلسفية مجردة ، لا تمسّ لب القضية . مثل قضايا : الفقه المتحرك والفقه الجامد ، مسؤولية الإنسان في تقرير مصيره ، ومدى مشاركته للحاكم الفرد في إبداء الرأي ، ودوره في التدبير العام ضمن حيز يُتصدَّقُ به عليه ، وهل الديموقراطية حكم إسلامي رشيد أم لا .

وقد اكتسبت الدراسات والآراء في هذا السياق صفة الحلقات المفرغة ، التي لم تؤد إلى صياغة نظام إسلامي متكامل ، بقدر ما ساهمت في خلط أوراق اللعب السياسي وإشاعة الغموض والإبهام ، واستدراج كثير من المشاركين بشغب إعلامي متعمد إلى متاهات من الآراء المتضاربة ، إن لم نقل الانتهازية التي لم تخرج قط عن إطار حكم للاستبداد ، ويكتسب حيز صغير من المشاركة   بالرأي . ولم ترق مطلقا إلى مراقي المفهوم القرآني للحكم السليم ، الذي يجعل أمر المسلمين ملكا لهم ، يُسلطون عليه ضمن نظم تربوية وعلمية وإدارية وتشريعية وتدبيرية ، تعصم من الجنوح إلى أي شكل من أشكال الاستبداد ، حكم فرد كان ، أو حكم أقلية حزبية أو طبقية ، أو عرقية أو عسكرية أو أمنية.

 هذا عرض موجز لأهم ما تمخضت عنه الفرق والمذاهب المعاصرة ، في مجال الفقه السياسي بتعبير العصر ، أو فقه الإمامة بتعبير الفقهاء والمتكلمين . وهو كما رأينا خلاصة تراكمات فكرية وفقهية واجتماعية وسياسية وتأثيرات أجنبية ، عاشها المسلمون ويعيشونها منذ التطبيقات الأولى للحكم الرشيد في المجتمع العربي بصفته الوعاء الأول للإسلام ، إلى أن سقطت بلاد المسلمين قاطبة بيد الاستعمار في القرنين الميلاديين التاسع عشر والعشرين ، ثم تحررت منه شكليا ، بعد أن اصطبغت بكثير من أصباغه الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ولئن كان الفكر السياسي غير خاضع لناموس الجمود والسكون والاستقرار ، وهذا من مؤشرات الرشد وملامحه ، فإنه لم يصل بعد إلى مستوى من الحركة الحقيقية الإيجابية للتطور المنشود ، بقدر ما فيه من اضطراب وخلط في التصور والتوجه ؛ وذلك لأسباب كثيرة ، من أهمها:

ـ تراكمية التراث البشري المدون ، الذي لم تتم دراسته وفرزه وسبره ؛ وما حقق منه ونُشر كان التقريظ والإعجاب سمة تقديمه ، لذا لم ينل حظه من النقد البناء المستند إلى القرءآن الكريم ؛ مما يهدد بانتكاسة فكرية في هذا المجال . ذلك أن التراث البشري إما أن يعاد تقديمه بمنهج نقدي موضوعي فيكون منطلقا للتطوير وركيزة للتجديد ؛ وإما أن يقدم كمثال نموذجي يحتذى ـ وهو  واقع الحال ـ ، فيكون خطوة إلى الوراء وانتكاسة إلى الخلف ، وعرقلة في سبيل التأصيل والتحديث. 

ـ استعجالية بعض الصادقين من التيار الإسلامي ، ومبادرتهم بالمصاولة قبل اتضاح الرؤية وتبين الهدف وتكامل البديل .

ـ انتهازية الوصوليين من المنتسبين إلى التيار الإسلامي ، وحرصهم على سرقة جهود الحركة الإسلامية ومقايضة الحكام بها ، استجلابا للمناصب والرتب ، المصالح الخاصة والمنافع.

لا بد من مراجعة نقدية للتاريخ العربي السياسي جاهلية وإسلاما ، تطبيقا سياسيا ، وفقها نظريا ؛ ومعرفة لأوجه الصواب فيه والخلل ، والتأثير والتأثر ، ومدى تطابقه أو تعارضه مع الشريعة الإسلامية ؛ دراسة معمقة تجمع بين الفقه والتاريخ ، وتحاكمهما معا إلى القرآن الكريم . ولا تعارض في هذا ، لأن الفقه هو مجرد فهم المسلم للنصوص ، والتاريخ هو عمل المسلم وتصرفه تحت عين النصوص خضوعا لها أو تحايلا عليها أو تمردا ضدها . وبين الفقه والتاريخ عملية إثراء متبادلة ، يتأثر التاريخ بالفقه لأن الأحكام الفقهية نافذة في التصرفات ، ويتأثر الفقه بالتاريخ لأن كل تصرف يُستصدر له حكم فقهي خاص . ويختلف الفقهاء في حكمهم على التصرفات تبعا لظروف الزمان والمكان والبيئة ، وحالات الاختيار والاضطرار والحرية والإكراه . يتطور الفقه والتاريخ معا إلى الأمام ، أو يرتكسان معا إلىالحضيض،  على قدر علاقتهما بالشريعة الإسلامية  ومفاهيمها الحضارية . لا بد لفهم أحدهما من فهم الآخر . ولئن خفي هذا الارتباط الموضوعي بينهما في بعض المجالات ، فهو في المجال السياسي أشد وضوحا.

نبذة من الماضى

  وعلى رغم ما تشربته نفوس المسلمين الأوائل ، من تعاليم إسلامية قيمة صهرتهم جميعا في أمة واحدة ، فإن رواسب من الماضي وعاداته وأعرافه وتقاليده كان يذر قرنها بين الفينة والفينة ؛ في عهد رسول الله  ،   فيعالجها  بالحكمة والموعظة الحسنة والوحي . أما بعد وفاته فقد انفسح المجال لانفلاق نواة هذه الرواسب في سقيفة بني ساعدة ، باتفاق بين الأوس والخزرج على احتكار السلطة ، تداولا بينهما في إطار " منا أمير ومنكم أمير".

إن فكرة التداول على السلطة التي ابتدعها الأنصار في غاية النضج السياسي بالنسبة لعصرها ؛ إذْ هي أساس النظم الديموقراطية المعاصرة . ولا أدري هل كان هذا المفهوم التداولي للسلطة معروفا في ذلك العصر وقبله أم لا . إلا أن الفكرة في حد ذاتها متقدمة على عصرها كثيرا . ولكن التداول يحتاج إلى مؤسسات سياسية متينة تحميه من الاحتكار والاستئثار ، وهذا لم يكن متوفرا آنئذ . لذلك كان مآل ما اتفق عليه الأوس والخزرج أن يُنقض ، مهما حسنت النيات ورسخ الوفاء في النفوس . وهو ما انتبه له الأوس عندما أُلقي في روعهم أن الخزرج إن تم لهم الأمر ، سوف لن يتركوا للأوس نصيبا فيه ؛ فنقضوا اتفاقهم مع الخزرج وآزروا المهاجرين  فتمت البيعة لأبي بكر ؛ ذلك أن خبر اجتماع الأوس والخزرج في السقيفة وما عزموا عليه ورد أبا بكر وعمر ؛ فانطلقا إليهم صحبة أبي عبيدة بن الجراح ، وكان الحوار الشهير المدون في كل كتب السير والتاريخ الإسلامي . وكان من أهم حجج القرشيين فيه.

الخلافة الراشدة من خلال ممارسة السلطة اتضحت راشدية الخلافة الأولى فيما تقدم ، من حيث طريقة اختيار القادة . وهو الجانب الشكلي من النظام السياسي ، الذي تختار فيه الأمة بواسطة الشورى وتحت حاكمية الشريعة ثم المصلحة العامة ، وما هو منطقي من تصرفات العقلاء ، رجال التنفيذ والتدبير والقيادة.

إلا أن للنظام السياسي ركنين أساسين : شكله وجوهره . فطريقة اختيار الرجال من عناصر الشكل ، أما الجوهر فهو ممارسة السلطة الفعلية قرارا وتنفيذا وتسييرا للمرافق ومراقبة ومحاسبة للمسؤولين.

فكيف كانت الممارسة السياسية للسلطة في هذا العهد ؟

لعل أهم ركائز جوهر الحكم في هذا العهد كان ركنا ركينا في البناء السياسي، هو الشورى الجماعية المنضبطة بالعقيدة والشريعة ، على أساس قوله تعالى " وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُم".

وكانت مقومات الشورى عندهم عرض القضايا وأوجه حلولها على عامة المسلمين ، وضمان حرية الاجتهاد وإبداء الرأي بكل خلق كريم ، لا قذف ولا تعريض، ولا مجاملة على حساب الحق ، ولا تغليب هوى أو مصلحة خاصة . وبعد التداول المفتوح وسبر الآراء ونقدها ، يتم اتخاذ القرار الملزم للأمة ، إما بانعقاد إجماع أو اتفاق أغلبية ..

هكذا كان ينشأ القرار السياسي والاجتماعي والاقتصادي والحربي بالإجماع أو الأغلبية ، في القضايا الدنيوية التي لم يرد فيها نص ؛ ثم ينفذ تحت مراقبة جميع أفراد الأمة ونصحهم وتعاونهم.

ثم بعد حين انتقل هذا المقياس ـ مقياس الإجماع والأغلبية ـ من المجال السياسي إلى المجال الفقهي ؛ عندما اضطر المسلمون إلى استنباط أحكام شرعية من نصوص الكتاب لما يجِدْ من حوادث وأحداث . فعُرف بذلك في علوم الفقه وأصوله مصطلح "الإجماع" ، ومصطلح "قول الجمهور" الذي هو رأي أغلبية المجتهدين أو المذاهب

هذا في القضايا العامة والخطط التي تمس المصالح الكلية وسياسة الدولة والمجتمع. أما القضايا الجزئية والتنفيذية والإجرائية ، فقد كانت موكولة إلى الجهاز التنفيذي برجاله ومرافقه.

ولقد كان منتظرا أن تتطور هذه التجربة الفذة المبنية على الشورى ، بعلاقتها العضوية مع الاجتهاد السياسي وحرية الرأي ، ومفهومي الإجماع والأغلبية في إطار الإيمان والخلق الكريم ؛ لترقى إلى نظام لم تعرفه البشرية من قبل ولا من بعد . إلا أن الصراع القبلي على السلطة والتنافس عليها ، ورواسب التقاليد السياسية والأعراف الاجتماعية والثقافة البدائية الموروثة من عهد الجاهلية ، وتأثير النظم السياسية لدى دول الجوار فرساً وروماً وأحباشا ، وما كان كامنا في المجتمع الإسلامي حينئذ من جماعات أسلمت نفاقا أو انتهازية ، وعدم قيام مؤسسات إدارية وتنظيمية للشورى والتدبير العام.

إن ممارسة الشورى على النهج القرآني لم تكن فى فترة حياة الرسول ادعاء أو شعارا للاستهلاك الإعلامي ، ولم تكن ـ كما زعم بعضهم ـ مجرد فطرة عفوية وخلق غير ملزم مندوب إليه ؛ وإنما كانت تطبيقا حرفيا لواجب شرعي وعزيمة حتمية .

إن الشورى الجماعية الملزمة ، المفتوحة على المجتمع كله ، هى الأداة الفعالة والسبيل القاصد لاتخاذ القرار  سواء منه ما يتعلق باختيار الرجال ، أو ما يتعلق منه بتسيير أنطمة الدولة ومصالحها ووضع حلول ما يستجد من قضاياها، أو ما يتعلق بمراقبة المسؤولين ومحاسبتهم وأطرهم على الحق.    

 

اجمالي القراءات 23537