بسمة موسى: البهائية ليست عارا

مجدي خليل في الجمعة ١٥ - مايو - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً


لم يدر بخلد بسمة موسى أو كامليا لطفى أن تصبحا من رموز الدفاع عن حرية العقيدة فى مصر. كلا منهما انطلقت من الدفاع عن قضية خاصة أو شأن خاص، ولكن لأن هذا الشأن الخاص يتماس مع الشأن العام فقد عرى الزيف والكذب فى المجتمع المصرى عن وجود دولة مدنية ووجود حرية للعقيدة والوجدان.

لمن لا يعرف فأن بسمة موسى استاذة مرموقة فى كلية طب الاسنان جامعة القاهرة، ولكن مشكلتها الأساسية إنها ولدت لأسرة بهائية، وهى تهمة لمن لا يعلم كبيرة جدا فى دولة نحت المواطنة جانبا لصالح تو&UcirUcirc;ل ملامح الدولة الدينية، فالدولة الدينية الإسلامية لا تعترف إلا بما يعترف به الإسلام من أديان، ولهذا لا تعترف بالبهائيين.

والمشكلة ليست فى عدم اعتراف الإسلام بالبهائية، فكل الأديان عقائديا وعمليا تنفى بعضها البعض، المشكلة الحقيقية فى تأثير المعتقدات الدينية فى نفى المواطنة أو الانتقاص منها... نكون فى هذه الحالة إزاء دولة دينية أو دولة تتجه صوب الدولة الدينية. هذا هو الخطر الاكبر على مصر، فدعاة الدولة الدينية وصل تطاولهم على المواطنة لحد التقدم بمشروع قانون يجرم أعتناق أى دين أخر غير الإسلام والمسيحية واليهودية،أى بمعنى آخر أن يجرد تماما اتباع البهائية وغيرهم من مواطنتهم ويزج بهم فى السجون كمجرمين حتى يعتنقوا الإسلام، وهو وضع اسوأ بكثير من وضع محاكم التفتيش فى اوروبا المظلمة.

واجهت باسمة موسى كبهائية الكثير والكثير فى حياتها العملية من تمييز واضطهاد وتحرشات وتهديد وصل لحد اتهامها بالكفر على شاشة التليفزيون وتهديدها بأنها تستحق القتل لأنها مرتدة.

أما ما واجهته فى جامعة القاهرة فهو مثال آخر على تغلغل الفكر الدينى المتطرف داخل المؤسسات التعليمية، لدرجة ترك اساتذة لابحاثهم ومعاملهم ومهمتهم التعليمية لصالح التفتيش فى الضمائر وتكفير زملاءهم من المختلفين فى العقيدة والتحرش بهم والكيد لهم والتآمر عليهم.

ولا تتعجب عزيزى القارئ عندما تسمع عن تدهور احوال الجامعات المصرية،فمن يعرف كواليس الجامعات المصرية يعرف جيدا كيف يعانى غير المسلمين الامرين فى سبيل الحصول على درجة عضو هيئة تدريس فى الجامعات المصرية. مصيبة بسمة موسى عندما اكتشفوا إنها بهائية ولهذا تعمدوا إلا تنجح فى الماجستير لمدة اربع مرات رغم تفوقها واجتهادها.. والتعصب لا يختفى ولا يستحى، فكانت تحصل على 95% فى بعض لجان الامتحانات الشفوية وصفر فى لجان أخرى، ولأن الله لا يضيع تعب المجتهدين وينصت لصراخ المظلومين وهو اكبر من كل الظالمين فقد سخر لها فى النهاية من انقذها من هذه الدوامة وعبرت امتحان الماجستير بسلام. ولكن الظالمين لم يتركوها فرفضوا تسجيلها لدرجة الدكتوراة لمدة اربعة سنوات أخرى رغم إنها تسجل من داخل القسم وليست طالبة من الخارج. وبعد التسجيل حدث لها فى الدكتوراة اكثر مما حدث لها فى الماجستير، بل وصل الامر باستاذ جامعة أن يطلب فتوى من الازهر بشأن البهائيين حتى يمنع تعيينها فى القسم، وجاءت الفتوى من الازهر بأن البهائية كفر!!. ووقع عليها هذا الأستاذ ومعه 17 استاذا من كليتها ووزعوها فى أروقة الكلية وسربوها للصحافة. ولكن لأنها إنسانة مناضلة وصلبة ولم ترتكب ذنبا لكونها بهائية فقد صمدت فى وجه هؤلاء الظلمة المنافقين الذين تركوا البحث العلمى للتفتيش فى ضمائر البشر وانتصرت عليهم فى النهاية رغم المعاناة والقهر والخوف والدموع.

وتكرر نفس الشئ فى ترقيتها من مدرس إلى استاذ مساعد حيث تشكلت لجنة من 15 استاذا لقراءة ابحاث الترقية فما كان من هؤلاء إلا اعطاءها صفرا، والعجيب والمخزى فى نفس الوقت وجود استاذة مسيحية ضمن أعضاء هذه اللجنة حيث جبنت من أن تواجه هذا الظلم رغم إنها تنتمى لأقلية أخرى تعانى من نفس المظالم.

ولم تترك بسمة موسى حقها فتقدمت بشكوى لرئيس المجلس الاعلى للجامعات، والذى بدوره تكرم بالغاء نتيجة هذه اللجنة الظالمة وتشكيل لجنة أخرى من خمسة اساتذة محترمين ناقشوا اوراقها واعطوها جيد جدا، وما بين الصفر والجيد جدا تكمن قصة التمييز الذى يقع على الاقليات غير المسلمة فى مصر.

هذا المسلسل البغيض والكريه الذى حدث مع بسمة موسى يتكرر بشكل روتينى مع الأقباط، لدرجة أن سمير سميكة حفيد نجيب باشا محفوظ، مؤسس طب النساء والتوليد فى مصر ، لم يستطع الحصول على تخصص نساء وولادة فاضطر للسفر إلى بريطانيا للحصول على التخصص وهكذا فعل ابنه يوسف سميكة من بعده. بل وصل التعصب المقيت لدرجة حرمان كاتبنا العظيم نجيب محفوظ من منحة للدراسة فى الخارج لأن المتعصبين ظنوه مسيحيا،لأن أمه منحته أسم طبيبها الشهير نجيب محفوظ باشا.

كل هذه المعاناة التى حدثت لبسمة موسى وتحدث لغيرها، لم تضعها تحت الضوء لأنها جزء من مظالم يومية تحدث لغير المسلمين، ولكن الطامة الكبرى عندما استحدثت وزارة الداخلية المصرية بطاقة الرقم القومى بديلا عن الهويات القديمة، ورفضوا نقل خانة الديانة بهائى فى بطاقة الرقم القومى الجديد، وبهذا الاجراء القاسى الظالم والذى يتنافى مع المواطنة تماما ويجرد مصريين من مواطنتهم، وضع آلاف من البهائيين فى خانة " الموت المدنى"، حيث لا يستطيع الإنسان اجراء أى تعامل يومى بدون بطاقة هوية بما فى ذلك استخراج شهادات الميلاد والوفاة وفتح حسابات البنوك والالتحاق بالمدارس والجامعات وغيره من التعاملات اليومية.

فى هذه اللحظة خرجت القوة الكامنة فى بسمة موسى على الملأ لتواجه هذا المجتمع الجاهل الذى يجردها من حقوقها الاساسية ومن مواطنتها،فالقضية هنا ليست حالة فردية بل الحكم على طائفة باكملها، وهى ليست من نوع المظالم التى يمكن التعايش معها،فالمسألة تتعلق بالقضاء التام على عقيدتهم البهائية ووضعهم امام خيارات مرفوضة بين الدخول فى الإسلام أو الموت المدنى.يصبح النضال الحقوقى هنا واجبا وطنيا قبل أن يكون واجبا دينيا.

سلك البهائيون، ولا يزالون، مسلكا حضاريا فى الدفاع السلمى عن وجودهم ومواطنتهم وعقيدتهم. حوالى ست سنوات امام القضاء وامام رأى عام فى مجمله عدائيا لعقيدهم الدينية حتى حكم القضاء مؤخرا بوضع علامة (_) امام خانة الديانة. ولكن كما يقول المثل "فرحة ما تمت خدها الغراب وطار"، فقد قررت وزارة الداخلية أن وضع هذه العلامة يتطلب رفع قضية شخصية أمام القضاء للحصول عليها وهى لا تنطبق على كل البهائيين، بما يعنى عدة آلاف من القضايا تنتظر المحاكم الادارية لوضع حد لهذه المهزلة... هل يعقل هذا؟ وماذا عن الميت، من يرفع له قضية لكى يحصل على شهادة وفاة؟،وهل يتم تحنيطه حتى يحكم القضاء له بهذه الشهادة؟، وماذا عن شهادات الميلاد، هل تعلق حتى الحصول على هذا الحكم القضائى؟ أم نطلب بقاء الطفل فى رحم الأم حتى تحسم هذه المسألة المخزية؟،والسؤال الاهم لماذا كل هذا الإذلال لمواطنيين مصريين مسالمين ولم يرتكبوا ذنبا؟. اسئلة بديهية فى مجتمع عقلانى، وتبدو مضحكة فى المجتمعات المتحضرة، ولكنها اسئلة مصيرية وحياتية فى مجتمعات التخلف الدينى.

وعلاوة على القضاء واجه البهائيون سيلا من الاسئلة من الرأى العام الذى كان يجهل وجودهم ويخترع الاساطير حول عقيدتهم ويروى البذاءات حول سلوكهم ويفبرك الادعاءات حول وطنيتهم.إنه بعينه السلوك البشرى المريض الذى خابرناه خلال تاريخ البشرية كله، حيث البحث الدائم عن مبررات واعذار تخدر ضميره الملتوى والمخادع لكى يرتكب ابشع الجرائم فى حق اخيه الإنسان. وكان لبسمة موسى الدور الاكبر والاشجع فى الدفاع عن حقوقهم الاساسية كمواطنيين أمام الرأى العام، وحقهم فى العقيدة التى ورثوها عن اباءهم واجدادهم.

لا اعرف كيف كان سيتصرف البهائيون بدون بسمة موسى، فهى سيدة بالف رجل مما تعدون. فى صلابة وثبات وشجاعة دارات على مراكز الرأى العام ومجتمعات المثقفين وشرحت قضيتها وقضية طائفتها بكل ادب ورقى، ولم تنفعل ولم تغضب ولم تخرج عن اطوارها ولم تفقد هدوءها رغم كل الضغوط والاستفزازات والتحرشات والاتهامات الكاذبة والتقول على دينها والافتراءات على معتقدها والمخاطر التى تتعرض لها.. وفوق كل ذلك تمارس مهام عملها بكل امانة وتهتم باسرتها بكل اخلاص.

عزيزتى بسمة صمودك اصبح رمزا لتحرير حرية العقيدة فى مصر،وعملك الشجاع مع حركة التاريخ كشف زيف الورائيين والذين جمدوا التاريخ عند رؤيتهم العقلية المتخلفة الضيقة التى تجاوزها الزمن بقرون طويلة.

والنصرة فى النهاية لمن يؤمن بأنه قادر على ذلك... ونحن نؤمن بانتصار الحرية المؤكد.

وعقارب الساعة لن تعود ابدا إلى الوراء






اجمالي القراءات 19328