حسنى مبارك و قراقوش

آحمد صبحي منصور في الجمعة ٠٣ - أبريل - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا :
1 ـ جاء الفلاح يشكو جنديا إلى الأمير قراقوش ، كان الفلاح يركب سفينة ومعه زوجته الحامل فوكزها الجندي فأجهضها ، وتفكر قراقوش ثم نطق بالحكم ، حكم بأن يأخذ الجندي زوجة الفلاح عنده وكما أجهضها عليه أن يحبلها، وهرب الفلاح بزوجته قائلا : أجري على الله .... !!

2 ـ وشكا رجل إلى قراقوش تاجرا أكل عليه أمواله ، فاستدعى قراقوش التاجر وسأله عن السبب فقال التاجر : ماذا أفعل له أيها الأمير ؟ كلما وفرت له الأموال لأسدد له دينه بحثت عنه فلم أجده ، وتفكر قراقوش كعادته ثم حكم بأن يسجن الرجل صاحب الدين حتى يعرف المدين مكانه حين يريد تسديد الدين له ، وهرب الرجل قائلا : أجري على الله .. !!

3 ـ وقالوا لقراقوش أن طائر " الباز " المفضل لديه قد هرب من القفص وطار ، فأمر قراقوش بغلق كل أبواب القاهرة حتى لا يستطيع الفرار ...!!
4 ـ وكان هناك ولد عاق ركبته الديون بسبب تبذيره ومجونه وعاقبه والده العجوز فمنع عنه الأموال ، وانتظر الابن ومعه أصحاب الأموال أن يموت الأب دون جدوى ، فقرروا أن يدفنوه حيا ، واحضروا الأب العجوز عنوة تحت إشراف الابن العاق ، وغسلوه وكفنوه وهو يستغيث بلا فائدة ، ثم وضعوه في النعش وساروا به. وتصادف أن قابلهم قراقوش وقفز الرجل من النعش وقال : الحمد لله . سأجد من ينقذنى ، واستغاث بقراقوش من ابنه وأولئك الذين يريدون دفنه حيا ، وسأل قراقوش الابن والناس فاقسموا أنه كان ميتا حين غسلوه وكفنوه . وتفكر قراقوش كعادته ، ثم قال للرجل العجوز : هل تريدنى أن أصدقك أنت ،وأكذّب كل أولئك الناس ؟ ثم إننى إذا أخذت بكلامك سيثور علينا كل الموتى ويطلبون العودة للحياة مثلك ، ثم قال للناس : اذهبوا به إلى المقبرة .

ثانيا
1 ـ هذه بعض النوادر التي كتبها المؤلف المصري القبطى ابن مماتي في كتاب " الفاشوش في حكم قراقوش" وفيه اغتال شخصية ذلك القائد الأيوبي بهاء الدين قراقوش مملوك صلاح الدين الأيوبي ، واتبع في كتابه طريقة التشنيع وتأليف الحكايات البسيطة المضحكة مما سهل على الناس حفظها وتداولها عبر الأجيال حتى أصبح قراقوش يحتل في الضمير الشعبي شخصية الحاكم الظالم الأحمق ، وحتى قال المثل المصرى الشعبي : ولا حكم قراقوش

2 ـ على أن الشخصية الحقيقية لقراقوش تختلف تماما عن ذلك ، فهو الذي أنشأ القلعة ، وهو الذي انشأ سور القاهرة ، وقد بدأ البناء سنة 572 هـ واستنبط عين ماء في القلعة كانت السواقي تنقل ماءها من أسفل إلى أعلى.
وكان إنشاء القلعة ضروريا بسبب تهديد الصليبيين لمصر وقتها ، وكان لابد من الفراغ منها بأسرع وقت ، ولم يجد صلاح الدين الأيوبي أكفأ من قراقوش لهذه المهمة فأتمها بنجاح ، ويقال انه استخدم في هذه المهمة خمسين ألف أسير ، وسخّر بعض العوام فى العمل وفق الشائع فى العصور الوسطى ،فاستحق نقمة الناس .
وقد أنشأ قراقوش إلى جانب القلعة وسور القاهرة قناطر الجيزة على النيل .
ولا تزال القلعة شامخة حتى الآن ، ولا تزال أثار سور القاهرة أمام أعيننا ، ولكننا نسينا القائد العسكري الأمين الذي أنشأهما ، ونتذكر فقط تلك الأقاصيص المزورة عنه والتى تجعل من قراقوش شخصية مضحكة لأى حاكم ظالم أحمق .
3 ـ والسبب الذي شوه سيرة قراقوش هو خصومته مع الكاتب ابن مماتي.
والصراع بينهما هو الصراع المستمر بين القلم و السيف ، كان ابن مماتي يمثل القلم وكان قراقوش يمثل السيف والقوة ، وتنافس الاثنان على النفوذ فى دولة صلاح الدين الأيوبى ، وربما يكون قراقوش قد فاز مؤقتا لأنه الذى صار أكبر شخصية بعد موت صلاح الدين ، وأصبح القائم بأمر ابنه السلطان العزيز عثمان بعده.
ولكن الذى انتصر فى النهاية وحتى الان هو الكاتب ابن مماتى .
انتصر ابن مماتي حين حول إنجازات قراقوش إلى نماذج قصصية من الحمق والجور لا تزال تعيش في وجدان المصريين .
قراقوش كان له الجاه والقوة في مقابل ابن مماتي الذي لا يملك إلا القلم ، وقد انتصر قراقوش في حياته على ابن مماتي ، ولكن العادة أن النصر الأخير دائما للقلم حتى لو كان قلما ظالما ، ولذلك سيظل المصريون يتندرون على قراقوش حتى وهم يمرون على القلعة وسور القاهرة ، فقد انتهى قراقوش الحقيقي بقوته وصولجانه بينما دخلت إلى عالم الخلود تلك الشخصية الهزلية التي رسمها قلم ابن مماتي عن قراقوش.
إن القوة تعيش مع صاحبها طالما ظل قويا ، أما القلم فيعيش بصاحبه ومع صاحبه ويدخل به إلى دائرة الخلود ..

ثالثا :
1 ـ وكم عرف التاريخ وقائع صراع بين صاحب السلطان وصاحب القلم واستطاع السلطان أن يبطش بصاحب القلم ، ولكن انتهى السلطان إلى النسيان وانتصر القلم وعاش في الوجدان.

2 ـ في سنة 705 هـ أمر السلطان باعتقال ابن تيمية في الجب بقلعة الجبل ( التي أنشأها قراقوش من قبل ) وكالعادة أمر السلطان قضاته بعقد محاكمة لابن تيمية ، وأدخلوه السجن ، وظل ابن تيمية مضطهدا مطاردا إلى أن خرج سنة 708 هـ .
وكان ابن تيمية يملك القلم والفكر وكان أعداؤه من مدعي العلم لا يملكون إلا السلطان والجاه ، وكان السلطان المملوكي وقتها أشدهم كراهية لأبن تيمية.
ومرت الأيام ،وثار الناس على ذلك السلطان ففقد عرشه وحياته. وعاش ابن تيمية بعده.
وحتى الآن لا يزال ابن تيمية يعيش بيننا ، وسيظل يعيش بفكره ومؤلفاته ما بقي الناس يقرأون، ومهما اختلفت معه فى فكره فلن تستطيع أن تنكر أنه يعيش بقوة بفكره ومؤلفاته فى عقول آلاف الملايين ، من عصره وحتى الآن وفى المستقبل طالما ظل الناس يقرأون .
أما ذلك السلطان الغاشم الخائب التافه فقد غاب في زوايا النسيان بمجرد مقتله وموته، وقليل من الباحثين في التاريخ من يعرف اسمه. وبالمناسبة فاسمه هو السلطان بيبرس الجاشنكير. فهل تعرف عزيزى القارىء شخصا لااسمه بيبرس الجاشنكير ؟ ولك أن تقارن بين هذا الاسم النكرة المجهول وبين أسم أبن تيمية ، وستعرف الفارق بين هذا وذاك، فالقوة قد تكسب ساعة ولكن القلم هو الذي يكسب إلى قيام الساعة .
وفى خلال هذا القرن ستتحول أسماء المستبدين العرب (أصحاب القمم العربية ) الى نكرات ، ولو تذكرهم أحد فلمجرد السخرية والاحتقار .

أخيرا :

1 ـ لقد ظلم الكاتب القبطى (ابن مماتى ) القائد العسكرى بهاء الدين قراقوش ، وبالتزوير والأقاصيص المفتراة شوّه سمعته ، وأحتاج قراقوش الى قلمنا لينصفه بعد موته بتسعة قرون . ولكن قلمنا لا يظلم الطاغية المعاصر لنا حسنى مبارك . نحن فقط نصوّر بالكاميرا المكتوبة بعض ما نعرف من جرائمه ، وستظل سيرته ملكا لنا ولغيرنا ممن يملك القلم ويحترم الحقيقة و ينتمى لها .
2 ـ هذا الطاغية حسنى مبارك لم يفهم قوة القلم وحكمة التاريخ ، ولقد تندر بسماجة حين ذكّره بعضهم عما سيقوله عنه التاريخ فقال إنه لا يهتم بالتاريخ ولا الجغرافيا .ولكن سيلعنه التاريخ وستلفظه الجغرافيا . ولن يجديه نفعا نفاق الصحفيين له اليوم وهو فى سلطانه وصولجانه ، فأولئك المنافقون أنفسهم هم الذين سينقلبون عليه بعد موته ، وهم الذين سيكشفون المستور من جرائمه وفضائحه ، وسيفعلون ذلك ـ كالعادة ـ تقربا للحاكم الجديد الذى يريد أن أن يبنى له سمعة طيبة على حساب فضح مخازى الحاكم السابق.
3 ـ أى فى القريب العاجل ـ وبعونه جل وعلا ـ عندما يسقط حسنى مبارك سيظل أضحوكة للعالم عبر الانترنت وفى القنوات الفضائية و الصحف والكتب و بالكلمة و بالدراما ، وسيتسلى الناس بما سيكتب عنه ، وسيحترمون الأقلام الحرة التى كتبت تهاجمه وهو فى عنفوانه وصولجانه ، وسيحتقرون كتبة السلطان الراقصين فى موكب السلطان القائم ، الذين لا يعرفون شرف الكلمة وقيمة القلم الذى أقسم به الخالق جل وعلا.
4 ـ لقد اقسم الله تعالى بالقلم وربما يسطره القلم ، في هذا تعزية كبرى لنا نحن الذين لا نملك إلا القلم الجاف .. أما الذى يستعمل ضدنا جيشه و جنوده فلن يكون له مكان فى المستقبل إلا من خلال ما نقوله عنه ، وسيظل أسير ما يكتبه قلمنا .

اجمالي القراءات 16220