بين الفتح والاحتلال

حسن جرادات في الأحد ٢٢ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

بين الفتح والاحتلال

يقول الله تعالى: " وما ارسلناك الا كافة للناس بشيرا ونذيرا ". هناك العديد من النصوص في القرآن الكريم لها دلالة هذا النص، وهي ان رسالة الاسلام التي بعث بها النبي محمد (ص) رسالة عالمية، على الرسول (ص) تبليغها الى الناس كافة، وقد ارسل الرسول (ص) رسله الى الملوك بعد صلح الحديبية يبلغهم رسالة ربه، ولو ان تلك الرسائل آتت ثمارها لما كان هناك حاجة الى حركة الفتوحات التي تمت بعد وفاة الرسول (ص)، وهي لم تؤت ثمارها لأن أولئك الملوك لم يريدوا ان يدخل الاسلام بلادهم لانهم كانوا يرون فيه عدواً لهم، وهو في الحقيقة كذلك، لأن هذا الدين يسعى ـ فيما يسعى اليه ـ الى المساواة التامة بين الملك وخادمه، كما ساوى من قبل بين الفاروق (ر) وكافة الرعية في قصة البرود اليمانية المشهورة ـ على سبيل المثال ـ كما ان الاسلام اراد ان " يحرم " أولئك الملوك من اموال الناس التي كانوا يترفهون بها واصحابها جياع.
اذاً الاسلام الذي جاء رحمة للعالمين كان لا بد من ايصاله الى الناس كافة، وبما ان تلك الدول بقواتها وجيوشها وقفت لتمنع وصول الرسالة الى اصحابها وقعت الحرب التي كان هدف الفاتحين منها كسر القوة التي تحول بين الناس وبين اختيارهم الحر للدين الذي يريدون، ولا بد هنا من تصحيح الخطأ الشائع الذي يتهم الاسلام بأنه قد تم نشره بالقوة والسيف، فالفاتحين لم يجبروا احداً على اعتناق الاسلام وفي التاريخ شواهد على ذلك عندما بقي الكثير من الناس على دينهم بعد فتح بلادهم، وقول ربعي بن عامر ـ احد قادة الفتوح في بلاد فارس ـ لرستم زعيم الفرس: " الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد الى عبادة الله وحده، ومن جور الاديان الى عدل الاسلام، ومن ضيق الدنيا الى سعة الدنيا والآخرة " هذا القول يضع النقاط على الحروف ويؤكد اتباع الفاتحين قوله تعالى: " لا اكراه في الدين ". فقد كان الفاتحون يعرضون على اهل أي بلد يصلونها ان يقبلوا بإحدى ثلاث خيارات؛ اما الدخول في الاسلام الذي يسعد الانسان في الدنيا والآخرة وعندها يرجع المسلمون عنهم مع ابقاء من يعلمهم الاسلام واحكامه ليحكموا انفسهم بها، واما دفع الجزية والبقاء على الدين الذين هم عليه، حيث ان دفع الجزية يشكل قبولاً عملياً لحكم الله سبحانه على الارض، الحكم الذي يفرض العدل والمساواة بين الجميع، ويمنع الاضطهاد الديني اياً كان شكله ومصدره، واما الخيار الثالث وهو القتال فيلجأ اليه عندما يرفض الخياران الأول والثاني، وهو قتال الهدف منه ازالة القوة التي تحول بين الناس وبين اختيارهم الحر للدين الذي يريدون.
هذا الفتح الذي حمل الهدى الى ارجاء واسعة من الأرض كان في زمن الخليفتين الصدّيق والفاروق (ر). واما بعد ان صارت أراضي العراق (المعروفة بالسواد) بستاناً لقريش بنظر الملوك الأمويين ينطلقون منها للغزو ليعودوا بالأموال والنساء والرجال الذين كانوا يحوّلونهم الى خصيان!! على طريقة الجاهلية الاولى ليقوموا بخدمة الجواري اللائي اتوا بهن من الغزو.
كذلك عندما يطلب من " الفاتحين " اخراج الذهب والفضة من الغنائم لصالح الحاكم (1)، وتؤخذ الجزية من اصحاب البلاد " المفتوحة " بعد دخولهم الاسلام (2) ويُعهد الى عمال تلك البلاد ان لا يدَعوا سب علي بن ابي طالب (ر) من على منابر صلاتهم (3).
اضافة لذلك فإن العديد من رموز وابطال تلك " الفتوحات " قضوا قتلاً في خضم الصراع على كرسي الحكم، مثل قتيبة بن مسلم الذي قتل بسبب انحيازه الى الوليد بن عبد الملك ضد " ولي العهد " سليمان بن عبد الملك الذي اراد الوليد خلعه من ولاية العهد لصالح ابنه عبد العزيز بن الوليد (4). كذلك فإن اخبار طارق بن زياد قد انقطعت بعد دخوله دمشق قادماً من الاندلس، ذلك ان ولي العهد سليمان بن عبد الملك اوعز اليه لدى وصوله طبريا في فلسطين ان يتأخر ولا يدخل بالغنائم على الوليد بن عبد الملك الذي كان على وشك الموت، فلم يستجب طارق لذلك!!
عندما تكون هذه هي اهداف ونتائج تلك الحروب وتلك الغزوات، فليس من العدل الذي بعث به الاسلام ان تسمى فتوحات، لان الفتح الاسلامي هدفه ايصال رسالة الاسلام التي كلف الله سبحان نبيه (ص) والمسلمين السائرين على دربه ايصالها الى الناس كافة، الرسالة التي تدعوا الى الرحمة والعدل بين الناس، وليس الى قتلهم واخذ اموالهم بالباطل وتسليط أبناء اولئك الحكام واحفادهم عليهم. وان القرار الذي اتخذه عمر بن عبد العزيز (ر) بخروج الجيش الذي غزى سمرقند منها بعد ثماني سنوات، له الدلالة الواضحة على ان الاسلام الحق لا يفرض القائد فيه الاسلام على الناس، ذلك ان قتيبة بن مسلم الذي غزى سمرقند لم يتقيد بالذي تقيد به ربعي بن عامر زمن الخليفة ابو بكر (ر) عندما فتحوا بلاد فارس كاسرين القوة العسكرية التي تحول بين الناس وبين اختيارهم الحر للدين الذي يريدون.
وعمر بن عبد العزيز نفسه ـ في دلالة اخرى على الفرق بين الفتح والاحتلال ـ كان قد عزل عامله على خراسان بسبب اخذه الجزية ممن دخل في الاسلام منهم (5).
فإن قال قائل: لماذا لا ندع اهل سمرقند يحكمون انفسهم بأنفسهم، ولماذا نذهب اليهم؟ قلنا: ان الاسلام عندما يحكم أراضٍ اهلها من غير المسلمين، فإنه يؤمّن بسلطته حرية الدين للجميع فيحمي من يريد الدخول في الاسلام ـ ولو كان واحداً ـ من الاضطهاد، فلا يصيبه ما اصاب اهل الاخدود الذين احرقوا بالنار بسبب دينهم، كما يحمي في الوقت ذاته من يعتنق أي ديانة كانت، وهذه السيطرة لحكم الله على هذه الاراضي هي تطبيقاً لقوله تعالى: " وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله " فيكون الدين لله عندما يتجسد سلطان الله على الارض، ويفرض العدل الإلهي على الجميع والذي يضمن للجميع حرية العبادة اياً كانت، ويترك حساب الجميع لله سبحانه " يوم يقوم الناس لرب العالمين ".

المصادر:
(1) تاريخ الطبري، احداث سنة 50 هـ
(2) تاريخ الطبري، احداث سنة 51 هـ.
(3) الجصاص، احكام القرآن، ج3، ص 102، ابن كثير، احداث سنة 100 هـ.
(4) ابن كثير احداث سنة 95 هـ.
(5) ابن كثير، احداث سنة 100 هـ.

اجمالي القراءات 27201