الامام مالك ..مبتدع الدين السّنى ..!!

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٥ - مارس - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

أولا : التأريخ لمالك :
1 ـ أشارمحمد بن سعد فى ( الطبقات الكبرى ) الى مالك بن أنس عشرات المرات فى معرض التأريخ للتابعين الذين روى عنهم مالك و الذين صحبوا مالك أو رووا عنه ، إلا أن ترجمته لمالك جاءت فى جزء متمم من (الطبقات الكبرى) لم يتيسر لنا الحصول عليه. والطبقات الكبرى لابن سعد هو أقدم مصدر تاريخى يؤرخ لطبقات الصحابة و التابعين وتابعيهم . و قد مات ابن سعد عام 230على أصح الأقوال. وقد اعتمد على (الطبقات الكبرى) لابن سعد معظم من جاء بعده ليؤرخ للصحابة و التابعين.
2 ـ وكما أن (الطبقات الكبرى) هو العمدة فى التاريخ للصحابة و التابعين وتابعيهم حتى بدايات العصر العباسى فان (تاريخ الطبرى) هو العمدة فى التاريخ السياسى للمسلمين من عصر النبوة الى سنة 302 ثم توفى الطبرى عام 310 .
3 ـ واذا كان الطبرى يركز على الحكام والصراع السياسى فى تاريخه فان ابن سعد كان يركز على على العلماء والرواة وجهدهم العلمى, ولذلك فان مالك لم يحظ فى تاريخ الطبرى سوى بعض السطور فى معرض الحديث عن ثورة محمد النفس الزكية العلوى الخارج على الخليفة ابى جعفر المنصور ؛ ففى أحداث عام 144 ذكر الطبرى ان الخليفة ابا جعفر المنصور لما حج استدعى بعض كبار المدينة و منهم مالك بن أنس وسالهم السعى فى تسليم محمد النفس الزكية وأخيه ابراهيم الى السلطة العباسية.( تاريخ الطبرى 7 / 539 ). وفى العام التالى 145 حين أعلن محمد النفس الزكية ثورته ذكر الطبرى ان أهل المدينة استفتوا مالك فى الخروج مع محمد ضد الخليفة العباسى ، وقالوا له : إن فى أعناقنا بيعة لأبى جعفر المنصور ، فشجعهم مالك على نقض بيعتهم لأبى جعفر قائلا : إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين ، يقول الطبرى : ( فأسرع الناس الى محمد ، ولزم مالك بيته ). ( تاريخ الطبرى 7 / 560 ) أى أنه حرضهم على الثورة وتخلى عنهم. وعدا ذلك فان الطبرى لم يذكر شيئا عن مالك سوى نقل بعض الروايات التاريخية عنه .
ومع أن مالك تعرض لعقوبة من السلطات العباسية بسبب موقفه إلا إن هذا لم يشفع له عند الطبرى فتجاهل ما حدث له من ضرب وإهانة ، ربما لأن مالك بن أنس ( 93 ـ 179 ) لم تكن شهرته قد طبقت الآفاق ـ بعد ـ فى عصر الطبرى الذى عاش فيما بين ( 224 ـ 310 ).
4 ـ بمرور الزمن تحول مالك الى صاحب مذهب فقهى مشهور ، وانتشر نسخ مختلفة من كتابه ( الموطأ ) ومدونته فى الفقه فيما بين العراق و شمال افريقيا و الأندلس ، و بدأت فى التعاظم صورة مالك فى الكتابات التاريخية اللاحقة حيث تأسس مذهب يحمل إسمه . ومن الطبيعى أن معظم تلك الاضافات اللاحقة كانت أكاذيب من بنات أفكار المؤرخين الذين جاءوا فيما بعد فى عصر المذاهب الفقهية و التعصب المذهبى والذى تحول فيه أئمة المذاهب ـ فى عقول أتباعها ـ الى كائنات مقدسة.
5 ـ وعليه فلدينا نوعان من التأريخ لمالك بن أنس؛ أحدهما كان الأقرب الي الاعتدال والتعقل ، ويتمثل هذا فى ترجمة مالك التى ذكرها المؤرخ الفقيه الحنبلى المحدث ابن الجوزى المتوفى سنة 597 فى تاريخ ( المنتظم ) وقد جمع فيها ما قيل عن مالك مما كتبه ابن سعد والواقدى والطبرى ، ومثله المؤرخ المفسر المحدث الحنبلى ابن كثير (ت 774 ) فى ( البداية و النهاية ) وقد تطابقت الى حد كبير مع ما ذكره ابن الجوزى عن مالك فى المنتظم ، ثم نوعيات أخرى من التاريخ لمالك يغلب عليها طابع المدح و التمجيد وربما التقديس ، وبصور متفاوتة مختلفة كما يلاحظ فى ( تهذيب التهذيب )و ( صفوة الصفوة ) و( حلية الأولياء) و(وفيات الأعيان ) ( اللباب ) .
6 ـ ونكتفى بتحليل ترجمة مالك فى (المنتظم) لابن الجوزى.
ثانيا : نصّ ترجمة مالك فى تاريخ المنتظم لابن الجوزى
عن مالك يقول المؤرخ الفقيه المحدث ابن الجوزى فى تاريخه المنتظم ، ( ج 9 / 42 ـ ) :
( الإمام مالك بن أنس بن مالك بن عامر بن الحارث بن غَيْمان بالغين المعجمة بعدها ياء مثناة من تحتها - بن جُثَيل - بالجيم بعدها ثاء مثلثة - بن عمرو بن الحارث وهو ذو أصبح .
حُمِل بمالك ثلاث سنين ، وكان طوالًا عظيم الهامة أصلع شديد البياض إلى الشقرة أبيض الرأس واللحية ‏. رأى خلقًا من التابعين وروى عنهم . وكان ثقة حجة ، يلبس الثياب العدنية الجياد ، وكان نقش خاتمه (حسبي الله ونعم الوكيل) فقيل له‏:‏ لِم نقشت هذا فقال‏:‏ سمعت الله يقول عقب هذه الآية ‏: (‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوْء‏)‏ . وكان إذا دخل بيته فأدخل رجله قال‏:‏ ما شاء الله وقال‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏ (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه‏).‏
أخبرنا محمد بن ناصر قال‏:‏ أخبرنا أبو سهل بن سعدويه قال‏:‏ أخبرنا أبو الفضل محمد بن الفضل القرشي قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر بن مردويه قال‏:‏ حدَّثنا سليمان بن أحمد قال‏:‏ حدثنا مسعدة بن أسعد العطار قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن المنذر قال‏:‏ سمعت معن بن عيسى يقول‏:‏ كان مالك بن أنس إذا أراد أن يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبخر وتطيب فإذا رفع أحد صوتَه عنده قال‏:‏ اغضض من صوتك فإن اللهّ عز وجل يقول‏:‏ ‏ (‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏) ،‏ فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏
أخبرنا محمد بن أبي القاسم أخبرنا حمد بن أحمد الحداد أخبرنا أبو نعيم الحافظ حدثنا محمد بن علي بن عاصم قال‏:‏ سمعت الفضل بن محمد الجندي يقول‏:‏ سمعت أبا مصعب يقول‏:‏ سمعت مالك بن أنس يقول‏:‏ ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك ‏.‏
أخبرنا محمد بن عبد الباقي ابن سليمان قال‏:‏ أخبرنا أحمد بن أحمد قال‏:‏ أخبرنا أبو نعيم الأصفهاني الحافظ قال‏:‏ حدثنا أبو محمد بن حيان قال‏:‏ حدَّثنا أبو محمد بن أحمد بن عمرو قال‏:‏ حدثنا أحمد بن عبد الله بن كليب قال‏:‏ حدثني أبو طالب عن أبي عبيدة قال‏:‏ سمعت ابن مهدي يقول‏:‏ سأل رجل مالكًا عن مسألة فقال‏:‏ لا أحسنها ‏.‏ فقال الرجل‏:‏ إني ضربت إليك من كذا وكذا لأسألك عنها ‏.‏ فقال له مالك ابن أنس‏:‏ إذا رجعت إلى مكانك وموضعك فأخبرهم إني قد قلت لك لا أحسنها ‏.‏
أخبرنا زاهر بن طاهر قال‏:‏ أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي قال‏:‏ أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحاكم قال‏:‏ حدثنا أبو الحسين محمد بن يحيى العلوي قال‏:‏ حدَثنا أبو علي الغطريف قال‏:‏ حدَّثنا أبو إسماعيل الترمذي حدثنا نعيم بن حماد قال‏:‏ سمعت ابن المبارك يقول‏:‏ ما رأيت رجلًا ارتفع مثل مالك بن أنس من رجل ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة عند الله ‏.‏
أخبرنا محمد بن عبد الباقي قال‏:‏ أخبرنا الجوهري قال‏:‏ أخبرنا ابن حيوية قال‏:‏ أخبرنا أبو أيوب الجلاب أخبرنا الحارث بن أبي أسامة قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن سعد قال‏:‏ حدَّثنا محمد بن عمر قال‏:‏ لما دُعي مالك وسُور وسُمع منه شَنِف الناس له وحسدوه فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وقالوا‏:‏ إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت عن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز فغضب جعفر بن سليمان فدعا بمالك فاحتج عليه بما رُقي إليه ثم جرده ومدَّه وضربه بالسياط ومُدت يده حتى انخلع كتفاه وارتُكب منه أمر عظيم فو الله ما زال بمالك بعد ذلك من رفعة عند الناس وكأنما كانت تلك السياط حُليًا حُليَ بها‏.‏
وكان يشهد الصلوات والجنائز والجمعة ويعود المرضى ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلىِ ثم ينصرف وترك شهود الجنائز وكان يأتي أهلها فيعزيهم ، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في مسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدًا يُعزيه، واحتمل الناس له ذلك، ومات على ذلك ، وربما كُلم في ذلك فيقول‏:‏ ليس كل الناس يقدر يتكلم بعذره ‏.‏
ومنذ خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة لزم مالك بيته فلم يخرج حتى قتل محمد ، وكان يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأنصار، وكان مجلسه مجلس وقار وحلم ، وكان نبيَلًا مهيبًا لايستفهم هيبة ‏.‏
قال محمد بن سعد‏:‏ وحدثنا ابن أبي أويس قال : اشتكى مالك أيامًا يسيرة فسألت بعض أهلنا وتوفي في صبيحة أربعة عشر من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة في خلافة هارون ، وصلى عليه والي المدينة عبد الله بن محمد بن إبراهيم ، ودفن بالبقيع وهو ابن خمس وثمانين سنة ، وقيل‏:‏ توفي في صفر من هذه السنة رضي الله عنه ‏.‏(
ثالثا : مناقشة المؤرخ ابن الجوزى فى ترجمته لمالك :
1 ـ من حيث المصادر التى اعتمد عليها ابن الجوزى فى ترجمته لمالك وتعامله معها فانه نقل عن إثنين من المؤرخين تناقض منهجهما فى التأريخ :ابن سعد وأبى نعيم الأصفهانى .
ابن سعد هو الذى سبق الجميع فى التأريخ لغير الحكام ، و وحاول الدقة فى النقل ،أما أبو نعيم الأصفهانى صاحب (حلية الأولياء ) فهو أول من كتب فى التراجم بطريقة المدح وسرد المناقب واختراع المنامات. إلا أن ابن الجوزى تجاهل الروايات الفجة فى ( حلية الأولياء) واكتفى بنقل رواية معقولة ممكن تصديقها .
2 ـ كما نلاحظ ان ابن الجوزى لم يأخذ برواية الطبرى التى اشرنا اليها فى فتوى مالك لصالح ثورة محمد النفس الزكية وأثر ذلك فى تعرضه للتعذيب من قبل السلطات العباسية. ابن الجوزى يرجع تعذيب مالك الى حسد بعض الناس له وسعيهم الى والى المدينة العباسى للايقاع به يقول ‏:‏ ( لما دُعي مالك وسُور وسُمع منه شَنِف الناس له وحسدوه فلما ولي جعفر بن سليمان المدينة سعوا به إليه وقالوا‏:‏ إنه لا يرى أيمان بيعتكم بشيء وهو يأخذ بحديث رواه عن ثابت عن الأحنف في طلاق المكره أنه لا يجوز فغضب جعفر بن سليمان فدعا بمالك فاحتج عليه بما رُقي إليه ثم جرده ومدَّه). وهنا يناقض ابن الجوزى نفسه ، لأنه قبل ذلك حين أرّخ لثورة محمد النفس الزكية قال (واستفتي مالك بن أنس في الخروج مع محمد وقيل له‏:‏ إن في أعناقنا لأبي حعفر بيعة‏.‏ فقال‏:‏ إنما بايعتم مكرهين وليس على مكره يمين فأسرع الناس إلى محمدٍ ولزم مالك بيته ) ( المنتظم 8 / 64 ) وابن الجوزى ينقل بالنص ما ذكره الطبرى ، ثم يناقض نفسه فيما بعد.
رابعا : شخصية مالك من خلال ترجمته فى المنتظم لابن الجوزى
1 ـ مانكتبه هنا ليس حقائق يقينية عن مالك،بل هو رؤية تحليلية للروايات التى قيلت عنه آنفا . مالك بن أنس الحقيقى لا يعلمه الا الله تعالى ، وهو بالنسبة لنا أخبار تاريخية نسبية تقبل الشك وتحتمل الاثبات ، وليس قضية ايمانية على الاطلاق ، بمعنى اذا نفيت وجوده من الأصل أو اذا أثبت كل أو بعض ما قيل عنه فلن يؤثر ذلك شيئا فى ايمانك أو عقيدتك. وما ينطبق على مالك ينطبق على كل الشخصيات التاريخية خارج القرآن الكريم .
لا شأن لنا هنا بالذين يقدسون الشخصيات التاريخية من الصحابة والأئمة و أسماء ما أنزل الله تعالى بها من سلطان. هم خارجون عن المنهج العلمى و خارجون عن حقائق الاسلام اليقينية القرآنية التى تحصر الايمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم الاخر، وليس فيها مجال للايمان بشخص ، وانما بالوحى الالهى الذى يصير به شخص ما نبيا ورسولا . هذا التوضيح نكرره كثيرا لأن أغلبية المسلمين لا تزال تعيش فى مرحلة عبادة الأبطال.
2 ـ من خلال المكتوب عن مالك فإن حياة مالك تنقسم الى فترتين :
الأولى: فترة العزة والايجابية والاختلاط بالناس من شبابه المبكر حيث كانت المدينة فى حاجة لتلميعه وتكليفه بالقيادة الدينية ،وتقع هذه الفترة فيما بين (120 : 145 ) أى حوالى ربع قرن من الزمان .
الثانية: بعد أن تعرض للاهانة و الضرب عام 145 من السلطة العباسية عقابا له على تاييده ثورة محمد النفس الزكية ، بسبب هذه الاهانة و الضرب اعتزل مالك الناس تدريجيا وانقطع عن صلاة الجمعة و الجماعة و شهود الجنازات ،حوالى 35 عاما ، الى أن مات عام 179 .
3 ـ السمة الرئيسة فى شخصية مالك هى الاعتزاز الشديد بالنفس ، ويظهر هذا الاعتزاز بصور مختلفة فى فترتى حياته ، ومن ذلك :
* اهتمامه بمظهره ومسكنه ، فخلافا لحركة الزهد التى انتشرت فى عهده كان مالك (يلبس الثياب العدنية الجياد ) وكان فى منزله (يجلس في منزله على ضجاع له ونمارق مطروحة يمنة ويسرة في سائر البيت لمن يأتيه من قريش والأنصار)
** واعتزازه بعلمه الى درجة المبالغة فقال ( ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك ) ، أى لم يتصدر للفتوى إلا بعد أن شهد له سبعون عالما ، أى أخذ شهادة بالصلاحية من سبعين عالما . وهذه كذبة عريضة ، فلم يوجد هذا العدد من العلماء البارزين فى المدينة التى التصق بها مالك طيلة حياته . فالمفهوم أن مالك وقت حاجته لهذه الشهادة كان شابا ، وبمراجعة لعلماء المدينة ومكة فى فترة شباب مالك نراهم أقل كثيرا من السبعين ‏.‏ولم تكن لمالك (رحلة ) لطلب العلم خارج المدينة. وشيوخه المذكورون فى ترجمته يعدون على الأصابع ، وأكثر من تتلمذ مالك على يديه هو ربيعة الرأى.
4 ـ وعزز من اعتزازه بعلمه أنه جاء استجابة لرغبة أهل المدينة من أحفاد المهاجرين والأنصار ـ فى أن يظهر من بينهم عالم عربى يكسر احتكار الموالى للعلم فى ذلك الوقت.
خامسا : بين مالك وأستاذه ربيعة الرأى :
1 ـ تسيد الموالى الحركة العلمية بعد انقراض جيل الصحابة فى العصر الأموى. والموالى هنا هم أبناء الأسرى والرقيق الذى جىء بهم للمدينة وغيرها وخدموا الصحابة وأبناءهم . كانوا أقل مكانة بما يدل عليه لقبهم ولكن أتيح لهم النبوغ فى العلم بسبب ملازمتهم لأسيادهم الصحابة وأخذهم عنهم. وفى الوقت الذى انشغل فيه العرب بالسياسة والصراع الحربى وانشغل فيه المترفون منهم باللهو والمجون تفرغ الموالى للتحصيل العلمى مع وجود الخلفية العلمية الحضارية لبعضهم ودوافع التفوق فى العلم الدينى لتعويض النقص فى المكانة الاجتماعية .
وأحزن العرب وقادتهم تسيد الموالى طبقة التابعين وتابعى التابعين فى العلم ، وينقل المؤرخ إبن الجوزى عن الراوية عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قوله ) لما مات العبادلة"أى عبد الله بن عمر وعبدالله بن عمرو وعبد الله بن عباس وعبد الله بن الزبير"صارالفقه فى جميع البلاد الى الموالى ، فكان فقيه أهل مكة عطاء بن رباح ، وفقيه أهل اليمن طاووس ،وفقيه أهل اليمامة يحيى بن كثير ، وفقيه أهل البصرة الحسن البصرى، وفقيه أهل الشام مكحول،وفقيه أهل خراسان عطاء الخراسانى إلا المدينة فان الله تعالى خصّها بقرشى فكان فقيه أهل المدينة سعيد بن المسيب غير مدافع ) ( تاريخ المنتظم 6 : 319 ـ 320 ).
2 ـ أى امتازت المدينة بوجود سعيد بن المسيب ( 31 ـ 94 ) زعيما للعلم الدينى وقتها ، وهذا يعطى لمحة اخرى عن المدينة التى تريد أن تتزعم العلم الدينى بعد أن فقدت مكانتها السياسية مع بداية العصر الأموى، وقد حققت ذلك بوجود سعيد بن المسيب القرشى أشهر علماء عصره . ولكن هل تركه أبناء عمه الأمويون والزبيريون المتصارعون على الحكم بين دمشق ومكة ؟ لقد تعرض سعيد بن المسيب للتعذيب والمحن كما تعرضت المدينة بعد هزيمتها فى موقعة الحرة الى الاذلال فقد استباحها الجيش الأموى ، على نحو ما شرحناه فى بحث ( الفقيه الناقم : سعيد بن المسيب ).
3 ـ بعد موت سعيد بن المسيب عام 94 كانت المدينة تتوق لمن يخلفه فى زعامة العلم ويعلى شأنها على ان يكون عربيا وليس من الموالى ، وأملت خيرا فى تلميذه ابن شهاب الزهرى ،ولكن الزهرى خان قومه ومدينته ورحل الى دمشق ليخدم الأمويين ويلازمهم الى أن مات فى الشام عام 124 . ومثله فعل محمد بن اسحق ، وهو من الموالى ، وقد وجد بيئة المدينة كارهة له فرحل عنها ليخدم العباسيين ولينضم اليهم وقت اشتداد الخصومة بين المدينة والدولة العباسية ، فكان محمد ابن اسحق أول من قدم الى بغداد بعد بنائها ، تاركا المدينة تلملم جراحها بعد هزيمتها وهزيمة قائد ثورتها محمد النفس الزكية . ومحمد بن اسحاق كان معاصرا لمالك ، وتبادلا العداء الشديد وطعن كل منهما فى الآخر ، على نحو ما سنتعرض له فى بحث قادم عن ابن اسحق .
وتحقق حلم المدينة بظهور شاب من تلامذة الزهرى هو مالك بن أنس الأنصارى فوضعوا عليه آمالهم للتفوق العلمى ، وهكذا وجد مالك الفرصة مهيأة له للشهرة بغض النظر عن إمكاناته العلمية.
4 ـ قبيل ظهور مالك كان شيخ المدينة فى العلم أحد الموالى ، وكان شيخا لمالك وابى حنيفة و الليث ابن سعد ، أنه ربيعة الرأى الذى كان شيخ مالك والذى كان أعلم من مالك. أى جاء مالك أقل علما من شيخه ربيعة، ولكن حاز مالك الشهرة دون شيخه لسبب بسيط هو ان ربيعة كان من الموالى ، أى أقل درجة فى السلم الاجتماعى من العرب ، لذلك احتفل اهل المدينة بوجود تلميذ عربى لربيعة الرأى فارتفعوا به فى الشهرة فوق شيخه، ومات ربيعة الرأى مجهولا ـ ولا يزال مجهولا ـ بينما نعم مالك بالشهرة و الصيت لأنه امتاز عن ربيعة بشىء وحيد أنه عربى من الأنصار.
لقد مات ربيعة الرأى عام 136 وقت أن اشتهر تلميذه مالك فى المدينة ، ويروى ابن الجوزى فى ( المنتظم ) فى ترجمة ربيعة هذا أن بعضهم قال ( أتينا مالك بن أنس فجعل يحدثنا عن ربيعة الرأي فكنا نستزيده من حديث ربيعة ، فقال لنا ذات يوم‏:‏ ما تصنعون بربيعة؟ هو نائم في ذاك الطاق !!، فأتينا ربيعة فأنبهناه فقلنا له‏:‏ أنت ربيعة بن أبي عبد الرحمن ؟ قال‏:‏ نعم .قلنا‏:‏ ربيعة بن فروخ؟ قال‏:‏ بلى .قلنا‏:‏ ربيعة الرأي ؟ قال‏:‏ نعم ، قلنا‏:‏ الذي يحدث عنك مالك بن أنس؟ قال‏:‏ نعم. قلنا‏:‏ كيف حظي بك مالك ولم تحظ أنت بنفسك ؟ قال‏:‏ أما علمتم أن مثقالًا من دولة خير من حمل علم‏ ) ( المنتظم 7 / 351 ـ ) سألوه لماذا حظى مالك بالشهرة بسبب العلم الذى أخذه من ربيعة بينما لم يحظ ربيعة نفسه بما يستحق من شهرة ، وأجاب ربيعة بتلك الكلمة القصيرة التى أوجزت الموقف كله : فالنفوذ السياسى والاجتماعى فى عصور الاستبداد هو الذى يرتفع بمتوسطى العلم الى درجة الشهرة بينما يعانى العلماء الحقيقيون من النسيان والاهمال.
5 ـ ولاحساسه بأنه أقل علما من استاذه ربيعة فقد حرص مالك على تعويض هذا النقص بالمبالغة فى الاعتداد بنفسه الى درجة تقمص شخصية النبى محمد عليه السلام. فتراه حين يستشهد بآية قرآنية يقول ( سمعت الله ) كما لو أن رب العزة يكلمه ،أوأنه ـ أى مالك ـ يسمع كلام الله ( سمعت الله يقول عقب هذه الآية ‏: (‏فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سُوْء‏)‏ . وكان إذا دخل بيته فأدخل رجله قال‏:‏ ما شاء الله وقال‏:‏ سمعت الله يقول‏:‏ ‏ (ولولا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء اللّه‏).‏
وعلى عكس شيخه ربيعة المتواضع كان مالك فى مجلس العلم يحرص على ابتداع طقوس معينة يتقمص فيها شخصية النبى محمد بحيث يفرض على الناس احترامه بمثل الاحترام الذى كان للنبى محمد فى حياته .(كان مالك بن أنس إذا أراد أن يحدث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وتَبخر وتطيب فإذا رفع أحد صوتَه عنده قال‏:‏ اغضض من صوتك فإن اللهّ عز وجل يقول‏:‏ ‏ (‏يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي‏) ،‏ فمن رفع صوته عند حديث النبي صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏.‏) هذا مع أن مالك كان يقول روايات منسوبة كذبا للنبى محمد عليه السلام ، و لم يكن للنبى محمد عليه السلام أدنى علاقة بها ، سوى علاقة التناقض و التضاد.
وبهذه الظروف الاجتماعية و النفسية الشخصية أصبح مالك مبكرا من زعماء المدينة بحيث كان ضمن كبار رجالها الذين طلب منهم الخليفة العباسى أبو جعفر المنصور أن يقنعوا محمدا النفس الزكية ـ الثائر على الدولة العباسية ـ بتسليم نفسه.
6 ـ وبهذه الزعامة الدينية والسياسية نال مالك بن أنس ما لا يستحق من شهرة فى حياته فقال عنه ابن المبارك ( ما رأيت رجلًا ارتفع مثل مالك بن أنس من رجل ليس له كثير صلاة ولا صيام إلا أن تكون له سريرة عند الله ‏.‏) ولذلك لم يكن مجلس علمه مليئا بضوضاء الأسئلة والنقاش ، بل كان مجلس رجل واحد يتكلم والآخرون يصمتون هيبة لا يقدرون على الاستفهام والنقاش ( وكان مجلسه مجلس وقار وحلم ، وكان نبيَلًا مهيبًا لايستفهم هيبة ‏.‏) أى لا يسأله الناس هيبة له .
7 ـ وبالضرب والاهانة تحطمت كل هذه الهالة التى أحاط مالك بها نفسه، ويبدو أن الوالى العباسى كان حريصا على جعل العقوبة اهانة شخصية لمالك فقد جرده من ملابسه و ضربه (جرده ومدَّه وضربه بالسياط ومُدت يده حتى انخلع كتفاه وارتُكب منه أمر عظيم )
وانقلبت أحوال مالك بعد هذه الاهانة فأخذ فى اعتزال الناس ، ثم بالغ فى العزلة حتى ترك صلاة الجمعة وصلاة الجنازة (وكان يشهد الصلوات والجنائز والجمعة ويعود المرضى ويجلس في المسجد ويجتمع إليه أصحابه ثم ترك الجلوس في المسجد وكان يصلىِ ثم ينصرف وترك شهود الجنائز وكان يأتي أهلها فيعزيهم ، ثم ترك ذلك كله فلم يكن يشهد الصلوات في مسجد ولا الجمعة ولا يأتي أحدًا يُعزيه، واحتمل الناس له ذلك، ومات على ذلك ، وربما كُلم في ذلك فيقول‏:‏ ليس كل الناس يقدر يتكلم بعذره ).
سادسا : نضال المدينة لاستعادة مكانتها سياسيا وتاثير ذلك فى نشأة الملامح الأولى فى زحف مظاهر الشرك (الأحاديث و تقديس قبر النبى محمد ) .
1 ـ بلغت المدينة أوج مكانتها الاسلامية حين أسس فيها خاتم النبيين الدولة الحقيقية للاسلام، فأصبحت مكة بما فيها البيت الحرام تابعا للمدينة منذ أواخر حياة النبى محمد عليه السلام.
وبلغت المدينة أوج مكانتها العالمية فى خلافة عمر والمرحلة الأولى من خلافة عثمان ، حيث امتدت امبراطورية العرب من أواسط آسيا الى ليبيا.
وهنا ايضا فقدت مكة مكانتها الاقتصادية ولم تعد قريش التى تحكم الامبراطورية الجديدة بحاجة الى الايلاف ورحلتى الشتاء والصيف بين الهند واوربا عبر اليمن والشام ، فقد تملكت قريش تجارة معظم العالم المطروق وقتها.
أصبحت مكة تابعة للمدينة سياسيا واقتصاديا حيث كان خمس الغنائم من الرقيق و الأموال وكنوز العالم يأتى للمدينة ليقوم الخليفة (عمر ثم عثمان) بتوزيعه على العرب المسلمين.
لم يبق من تميز لمكة على المدينة سوى وجود الكعبة والحرم والحج الى البيت العتيق.

2 ـ بدأ ذلك كله فى التغير بالفتنة الكبرى اوالحرب الأهلية بين المسلمين والتى تمخضت عن تأسيس الامبراطورية الأموية فى دمشق وتحول المدينة الى أهم مركز للمعارضة للدولة الجديدة.
وكانت اول إهانة للمدينة أن إقتحمها الثوار على عثمان واحتلالهم لها ، وقتلهم عثمان فى بيته .
وأدرك الخليفة التالى (على بن أبى طالب) أن المدينة لا تصلح له عاصمة لأن خصومه فى بيئات نهرية غنية ومواقع استراتيجية يمكنهم منع المؤن عن الحجاز ومن فيه ، لذا بادر (على ) بالانتقال الى الكوفة ليواجه بالعراق غريمه معاوية فى الشام. وكذلك فعل ابنه الحسين حين رحل الى العراق ليواجه به الشام الخاضع للأمويين ، ولولا أن العراقيين خدعوه وخذلوه لتغير مسيرة تاريخ المسلمين.
وبانتقال العاصمة الى الكوفة ثم الى دمشق ثم الى بغداد تركزت فى تلك البيئات النهرية السلطة و الثروة معا ، وأصبح محكوما على الحجاز أن يكون تابعا اقتصاديا وسياسيا للشام ثم للعراق ـ ثم لمصر فيما بعد ..
وكانت مصيبة المدينة أعظم ، فقد ظلت مكة بالكعبة محتفظة بقيمتها الدينية بينما فقدت المدينة كل شىء سوى ذكرياتها عن عصر مضى وتريده أن يعود ، فلم يبق لها إلا أن تلعب دور المعارضة لحكم قوى جائر شديد القسوة هو الحكم الأموى ، وأن يكون لها (حرم ) تشدّ له الرحال مثل الحرم المكى .

3 ـ لم يكن زعماء المدينة فى حصافة الخليفة على بن ابى طالب إذ ظلوا يعتقدون بامكانية أن تعود للمدينة صدارتها السياسية و بالتالى تحكمها فى ثروات الامبراطورية كما كان فى عصر عمر وعثمان. ومن ناحيتهم تعامل الأمويون مع أهل المدينة فى بادىء الأمر معاملة المؤلفة قلوبهم فأغدقوا عليهم بالأموال ، كما فعل يزيد بن معاوية مع وفد المدينة الذى ذهب الى دمشق ليبايع له وعاد بالأموال والهدايا ، وبمجرد عودة الوفد أعلن زعيمه عبد الله بن حنظلة نفسه ثورة المدينة على دمشق مما حدا بالأمويين الى ارسال جيش هزم المدينة وأذلّها فى موقعة الحرة سنة 62 هـ.

4 ـ وانتهز عبد الله بن الزبير خلو الساحة بعد مذبحة كربلاء فأعلن نفسه خليفة فى مكة ليتحصن بالحرم، ومات يزيد بن معاوية عام 64 وجيشه يحاصر ابن الزبير فى مكة ، وتفرق بنو أمية ، وانتهز الفرصة الحصين بن نمير قائد الجيش الأموى الذى يحاصر ابن الزبير فى مكة فعرض على ابن الزبير ان يبايعه شريطة أن ينتقل الى الشام لأن الحجاز لا يصلح مقرا للدولة ، ولكن ابن الزبير رفض ( المنتظم 6 / 23 )، فأضاع فرصة عمره .

5 ـ وقام عبد الملك بن مروان بتوطيد الدولة الأموية فقضى على الزبيريين وغلب الخوارج وقدم الى المدينة ـ وكان يعيش فيها طالب علم قبل توليه الخلافة ـ ولكنه عاد اليها عام 75 خليفة سفاكا للدماء فخطب مكشرا عن انيابه يتوعد أهلها قائلا:( والله لا يأمرني احد بتقوي الله بعد هذا الا ضربت عنقه).

6 ـ ونجحت دعوة سرية للشيعة فى تدمير الدولة الأموية سنة 132، وانجلى الأمر ليتضح أن القادة السريين للدعوة الجديدة ليسوا من نسل علىّ بن أبى طالب ، بل من بنى عمومتهم العباسيين. لذا استجد صراع مسلح بين العباسيين والعلويين فى ثورة محمد النفس الزكية سنة 145 الذى ارتكب نفس الخطأ السياسى والعسكرى حين جعل المدينة مقرا له. وحين جاءت أنباء ثورته للخليفة العباسى أبى جعفر المنصور استدعى ابن حنظلة النهرانى فاستشاره( فقال له:وأين ظهر؟ قال‏:‏ بالمدينة‏.‏ قال‏:‏ فاحمد الله ظهر حيث لا مال ولا سلاح ولا كراع . ابعث مولى لك تثق به الآن ينزل بوادي القرى فيمنعه ميرة الشام فيموت مكانه جوعًا‏.‏ ففعل ،)( المنتظم 8 / 66 )


7 ـ تتمثل فى ثورة محمد النفس الزكية تحالف (الدين الأرضى والسياسة )، فقد تحالف معه مالك ممثلا للتراث الذى تعتز به المدينة (أى سيرة النبى محمد وأصحابه وعمل أهل المدينة ) وقد أصبح هذا التراث هو الدين الجديد الذى يبشر به مالك ، وهو دين يريد سلطة سياسية يسترجع بها مجد المدينة الذى كان فى عهد النبوة ، فحدث التحالف بين واحد من (الأنصار ) وهو (مالك) مع واحد من أحفاد النبى محمد ، وهو( محمد النفس الزكية ). ولكن إنهزم التحالف ، وقتل محمد النفس الزكية وتعرض مالك للاهانة والتعذيب .

8 ـ ولكن نجح الدين الجديد الذى بعثته السياسة من مرقده ، وهو دين السنة الذى أعاد التحريف القديم فى ملة ابراهيم ، وجعله منسوبا للنبى محمد عليه السلام بأحاديث مزورة .

سابعا:ملامح النشأة لدين السنة قبل وفى عهد مالك فى الحديث (الشرك العلمى ):

1 ـ الصراع الحربى بين المتشيعين لعلى بن أبى طالب وأبنائه والدولة الأموية تلون بحرب كلامية بدأ فيها اختراع الأحاديث كحرب دعائية. اشتهر أبو هريرة بانحيازه للأمويين واختراعه أحاديث فى فضل معاوية ومن معه وفى التقليل من شأن على ، وقتها كان عبد الله بن عباسّ هو خصم أبى هريرة، إذ اشتهر ابن عباس بالدفاع عن بنى عمه من العلويين فى مواجهة الأمويين والزبيريين معا. وكان من الطبيعى أن يرد معسكر العلويين بوضع أحاديث فى فضل علىّ وآله وتسميتهم بآل البيت. اقتصرت الحرب الكلامية بالأحاديث على مجرد الرواية الشفهية ، ثم اتسع مجالها وتنوعها وكان أول تدوين لها فى (الموطأ ) الذى أملاه مالك فى العصر العباسى، وبعده حملت الأحاديث الموالية للسلطة العباسية اسم السنة أو بتعبيرنا دين السنة.

2 ـ ومن التكذيب بآيات الله جل وعلا والافتراء عليه كذبا نبعت شريعة الفقه السنى ، وتلونت فى مذهب مالك بسمة معينة ، هى محاربة الرأى والاجتهاد .
لقد تعقدت الحياة فى العصر العباسى فى بيئات الأنهار مثل العراق والشام ومصر ، وانعكس هذا على مسيرة الفقه فيها فكان قابلا للاجتهاد والقول بالرأى ليواجه الحياة المتغيرة . واختلف الحال فى البيئة التى نشأ فيها مالك ، فالبيئات الصحراوية بالذات منغلقة رتيبة الحركة تعيش على التقليد وتنأى عن التطور، والمدينة ومكة كانتا معا أهم الحواضر فى صحراء الجزيرة العربية. وبينما ظلت أهمية مكة سارية بالمسجد الحرام وظلت علاقتها بالتطور متجددة سنويا بالحج والعمرة فان المدينة لم تعد عاصمة المسلمين بعد مقتل عثمان ، اذ تحولت العاصمة الى الكوفة ثم دمشق ، ثم بغداد ، وأنحسرت عن المدينة الأضواء وتحول المال والقوة والاهتمام والحركة وصنع التاريخ الى العراق والشام ومصر. ولم يعد للمدينة الا أن تعيش على ماضيها حين كانت عاصمة النبى محمد ومركز القوة والسيطرة فى عهد الخلفاء ( الراشدين ) وكبار الصحابة. من هنا تخصصت المدينة فى (حكى ) أو رواية تاريخ النبوة ،اذ هو تاريخ الآباء والأجداد لمن عاش من ذرية الصحابة فى المدينة فى العصر العباسى. ثم إنتقلت من رواية سيرة النبى محمد الى إختراع أحاديث منسوبة له ، أى إنتقلت من التأريخ الى التشريع وتأسيس دين أرضى حمل فيما بعد إسم السنة.
ولأنها بيئة ماضوية تعيش على الماضى المجيد وتنسب نفسها للنبى محمد وعصره فقد واجهتها مشكلة التأقلم مع التطورات الجديدة الآتية من البيئات النهرية ذات الحضارة القديمة من مصر والعراق وفارس والشام. لم يكن متاحا الاجتهاد العقلى الصريح لأن البيئة تنكره وتنتصر للتقليد والاحتكام للماضى. كان المتاح هو إعطاء رأى عقلى بالاجتهاد وتغطية ذلك الاجتهاد بنسبة ذلك الرأى للنبى محمد عليه السلام أو لكبار الصحابة أو لما كان يعرف بعمل أهل المدينة. أى ما تعود أهل المدينة على عمله بالتوارث من عهد النبوة. وهكذا يقول أحدهم رأيا فلا يجرؤ على نسبته لنفسه ، خشية السخط عليه فيسارع بنسبته للنبى أو لأحد كبار الصحابة.
هذا هو منهج مالك الذى منع الاجتهاد العقلى أو (أن يقول أحد فى الاسلام برأيه ) اكتفاء بالحديث، والقول بعمل أهل المدينة كمصدر للتشريع ، مما أضفى قداسة على المدينة جعلها تنافس مكة فى العقيدة بينما أصبحت مكة تابعة للمدينة فى مدرستها الفقهية .

3 ـ وتلك هى مدرسة الحديث الحجازية التى واجهت مدرسة الرأى والاجتهاد العقلى فى العراق التى أنشأها أبوحنيفة .
ثم ما لبثت مدرسة الحديث أن انتقلت الى العراق ومصر بالتطور الذى أحدثه فيها الشافعى.
ثُم غلب على مدرسة أحمد بن حنبل نقل الأحاديث كما فعل فى كتابه الأشهر ( مسند أحمد ).
وبذلك تكونت المدارس الفقهية الكبرى للدين السنى فى العصر العباسى، والتى لا تزال موجودة حتى الآن.

ثامنا:ملامح النشأة لدين السنة قبل وفى عهد مالك فى (الشرك العملى ):
تقديس المدينة اسوة بمكة وتقديس قبرالنبى محمد أسوة بالكعبة

1 ـ أسهمت الذكريات المريرة لموقعة الحرة في عودة الشرك الى المدينة تحت لافتة تقديس قبر النبى محمد ثم الحج الى هذا القبر بحيث أصبح الحج اليه فرضا لدى المسلمين لا يتم حج أحدهم بدونه،وبالتالى تحولت المدينة الى (حرم) ثان ؛ ليس لله جل وعلا ولكن للنبى محمد عليه السلام. وإذا كانت عقيدة الاسلام فى الوحدانية تستلزم وجود حرم واحد لله جل وعلا وحده يجب الحج اليه على كل مستطيع فان الدين السّنى أضاف المدينة ومسجدها حرما ثانيا ثم جعل ثلاثة مساجد للحج باضافة ما يعرف بالمسجد الأقصى فى فلسطين، ثم انتشرت بالتشيع والتصوف المساجد المقدسة فى بلاد المسلمين وتحددت مواسم للحج اليها.
وبالحج الى قبر النبى محمد والتوسل به تأسست عقيدة التشفع به ،فأصبح فى عقيدة المسلمين هو مالك يوم الدين ، فإذا كان الله يأمر بتعذيب بعض المسلمين فإن للمسلمين الاها آخر ينقذهم من هذا التعذيب وتعلو سلطته سلطة الله تعالى . ثم تمت إضافة الشفاعة لآخرين .
هذا التطور بدأته المدينة بتقديس وثن منسوب للنبى محمد ثم اتسعت الدائرة .

2 ـ والبذور الأولى لهذا التحول فى المدينة تستلزم بحثا مستقلا ، ولكن نتوقف مع إحدى ملامحه من خلال التأريخ لمحنة سعيد بن المسيب الذى شهد انتهاك حرمة المدينة و استباحتها ثلاثة أيام بعد هزيمة الحرة.
ففي سيرته جعلوا سعيد بن المسيب شخصا أسطوريا مستجاب الدعوة وينبىء بالغيب ، أى لم يكتفوا بتقديس النبى محمد عليه السلام وإضافة الصفات الالهية اليه من علم الغيب و الشفاعة بل أضافوا له سعيد بن المسيب تأثرا بما لا قاه سعيد من عنت واضطهاد ، وبكونه شاهدا على ما تعرضت له المدينة من إذلال . وهذا شبيه لما حدث للحسين من تقديس ، وبما حدث لكربلاء من مكانة تاثرا بالمأساة التى حدثت للحسين وآله وشهدتها كربلاء.
فهناك رواية تزعم ان احدهم سب طلحة والزبير وعليا فنهاه سعيد بن المسيب فلم يرتدع فدعا عليه بان يسود الله وجهه فخرجت في وجهه قرحة سوداء فأسود وجهه . ولو كان سعيد مستجاب الدعوة فلماذا عجز عن حماية نفسه من الضرب ولماذا صبر علي كل هذا الظلم والقهر من الامويين . وهناك روايات اخري تزعم انه تنبأ بما سيحدث لابن الزبير وواليه حين كانوا يضربونه.. ورؤى اخري تزعم انه تنبأ باستقرارا ملك عبد الملك في ذريته اثناء صراع عبد الملك مع عبد الله بن الزبير .
وانتهز الرواة المزورون الفرصة فاسندوا لسعيد القدرة علي تفسير الاحلام .

3 ـ ثم التفتوا الي ناحية اخري تأثروا فيها باعتكاف سعيد في مسجد المدينة ، فاسندوا له رواية تقول انه كان في ليالي موقعة الحرة يصلي وحيدا في المسجد فيسمع الاذان آتيا من قبر النبى محمد فى المسجد .يقول ابن سعد :(لبث سعيد بن المسيب أيام الحرة فى المسجد لم يبايع ولم يبرح ... وكان الناس يقتتلون وينهبون وهو فى المسجد لا يبرح الا ليلا من الليل ، قال : فكنت اذا جاءت الصلاة أسمع آذانا يخرج من قبل القبر) ( الطبقات الكبري لابن سعد 5/ 98 )
ويروى ابن سعد (قال سعيد بن المسيب :لقد رأيتنى ليالى الحرة وما فى المسجد احد من خلق الله غيري ، وان اهل الشام – اى جنود الأموين- ليدخلوا زمرا زمرا – اى جماعات جماعات – يقولون : انظروا الى هذا الشيخ المجنون . وما يأت وقت صلاة الا سمعت آذانا فى القبر ، ثم تقدمت فأقمت فصليت ، وما فى المسجد أحد غيري) (الطبقات الكبري 5 / 97 : 98 ).
قد يقال إن سعيد ابن المسيب فى حالته النفسية تلك كان يتخيل آذانا يأتى له من موضع قبر النبي محمد فى المسجد ، والمعنى ان القبر المنسوب للنبي كان موجودا فى مسجد المدينة وقتها ، وأنه كان معروفا وقت معركة الحرة. وهذا خطأ فاحش ودليل على ان تلك الرواية قد صيغت فى العصر العباسي وأسندت الى سعيد ابن المسيب الذى مات دون علم بها.
دليلنا ان موقعة الحرة كانت يوم الأربعاء الثاني من ذى الحجة سنة 63 من الهجرة فى خلافة يزيد بن معاوية، وفى هذا الوقت كان مسجد المدينة على حاله منذ أن قام عمر بن الخطاب بتجديده، وكانت بيوت نساء النبى بعد موتهن خالية وقريبة من المسجد ولكن ليست داخلة فيه، وكان من بينها حجرة السيدة عائشة التى كان مدفونا فيها جثمان النبى محمد. أى أنه فى وقت معركة الحرة واقتحام المدينة واعتكاف سعيد بن المسيب فى المسجد لم يكن هناك قبر لأحد فى المسجد وقتها، بل لم يكن هناك وقتها إهتمام بحجرة عائشة أو ما فيها من قبور مغطاة للنبى محمد وصاحبيه أبى بكر وعمر.
بعدها بربع قرن أمر الخليفة الوليد بن عبد الملك فى شهر ربيع الأول عام 88 بهدم مسجد المدينة لتوسيعه وجعله تحفة معمارية فى عصره. إستلزم التوسيع هدم بيوت ازواج النبي القريبة من المسجد القديم وادخالها فى بناء المسجد الجديد (المنتظم 6 / 283 : 285) وكان جثمان النبى محمد مدفونا فى حجرة زوجته عائشة ، وكانت قد توفت قبل ذلك بأكثر من ثلاثين عاما. وبالتالى فلم تكن حجرة عائشة ومكان دفن النبى محمد داخل مسجد المدينة القديم سنة 63 حين وقعت معركة الحرة. وبالتالى ـ أيضا ـ فتلك روايات كاذبة ، وقد صيغت أساسا لتعكس تقديسا لقبر النبي استشرى فى العصر العباسي وعكسه ابن سعد المتوفى سنة 222 فى هذه الرواية .

أخيرا : ما تبقى من مالك والمدينة : خسرت المدينة سياسيا ونجحت دينيا ، وكذلك مالك .
1 ـ مالك لا يستحق الشهرة التى حصل عليها فليس فى عقلية استاذه ربيعة الرأى وليس فى مقدرة تلميذه الشافعى ، ولكنه أصبح صاحب مذهب بعد موته ، ومات وهو لا يدرى شيئا عن هذا التطور الذى حدث له ولأحاديثه بعده.
مالك روى الأحاديث شفهيا دون أن يكتبها بنفسه فى كتابه ( الموطأ )، ثم كتبها علي لسانه الرواة اللاحقون فيما بعد ، وهم الذين كتبوا ( موطأ مالك ) بأيديهم بعد موت مالك، واشهرهم محمد بن الحسن الشيباني المتوفي سنة 198 في خلافة الرشيد ،أي ان مالك لم يكتب الموطأ بنفسه ولم يكتبوا الموطأ في حياة مالك وانما بعد وفاته. وانتقل الموطأ والمدونة بصيغ مختلفة ومختلقة الى الأمصار من العراق الى الاندلس وشمال افريقيا. وقام الشافعى ببناء كتابه (الأم ) على ما رواه مالك وقام بتقعيد دين السّنى .
تضخم اسم مالك واصبح صاحب مذهب فنجح دينيا كمؤسس للدين السّنى بعد أن فشل سياسيا ، ومع أن محمدا النفس الزكية وغريمه أبا جعفر المنصور بل والدولة العباسية كلها قد انتقلت الى متحف التاريخ فلا يزال مالك حيا باسمه وبمذهبه الذى لا يدرى عنه شيئا .

2 ـ وكذلك المدينة .. خسرت سياسيا أمام دمشق وبغداد والدولتين الأموية و العباسية ، ولكنها كسبت دينيا بنجاحها فى صناعة الدين السنى الذى أصبح الدين الرسمى للعباسيين ، وأصبحت دمشق وبغداد تابعتين للمدينة دينيا تسعى للحج اليها لزيارة القبر المقدس فيها .

3 ـ صحيح أن الأحاديث التى رويت فى المدينة كذبا على لسان أبى هريرة وآخرين والتى رويت كذبا عن مالك قد غادرت المدينة ورحلت عنها وانتقلت الى الأمصار ، وصحيح أن ابن اسحق حمل روايات السيرة الى سمعها من المدينة ثم قام بكتابتها كما يحلو له تنفيذا لرغبة العباسيين فى بغداد ، ولكن صحيح أيضا أنه لا يمكن لأحد أن ينزع عن المدينة القبر المقدس فيها والذى هو حجر الزاوية فى كل عقائد الشرك لدى المسلمين من أصحاب الديانات الأرضية.
والدليل أنه يمكن أن تقام قبور مقدسة متعددة للشخص الواحد ، فهناك قبور كثيرة للحسين والسيدة زينب والبدوى وعبد القادر الجيلانى و كثير من الصحابة ، ولكن لا يوجد سوى قبر واحد مقدس للنبى محمد هو الذى ارتدت به المدينة عن الوحدانية الاسلامية التى عرفتها فى عصر النبى محمد عليه السلام فقامت بالعكس وهو زرع الشرك وإعادته تمسحا بالرسول محمد عليه السلام.

4 ـ وعجيب أمر هذه ( المدينة ) !!.
وعجيب أمر ابنها مالك بن أنس ..!!

اجمالي القراءات 39049