من خرافات الدين الأرضى (5 )
تحول علم الحرف فى القرآن الكريم الى دجل وشعوذة

آحمد صبحي منصور في الخميس ٠٥ - فبراير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

مقدمة :
تعرضت لموضوع "علم الحرف" في رسالتي للدكتوراه عن ( اثر التصوف فى العصر المملوكى )على أساس أنه دجل، حيث كان الشيوخ يشعوذون به فعلاً، ولكن بعدها بأكثر من عشر سنوات اكتشفت الجذورالحقيقة لهذا العلم في القرآن الكريم. ونشرت مقالا فى روز اليوسف فى منتصف التسعينيات عن علم الحرف الحقيقي الذي حوله الشيوخ إلى شعوذة،وكان لهذا المقال صدى هائل .
واعيد نشره هنا ـ دون تغيير ـ ضمن سلسلة خرافات الدين الأرضى التى تتحول فيها بعض الحقائق الى دجل وشعوذة فى إطار التكسب بالدين والاحتراف الدينى.
أولا : في البداية .. ما هو علم الحرف ؟
في الريف والبيئات الشعبية يقال أن الشيخ " فتح له الكتاب" و "حسب له نجمه" . أي أنه حسب القيمة العددية لأسم المريض، ثم يقسمها على (28) وباقي القسمة يكون هو الباب الخاص بالمرض في الكتاب الذي يفتحه للمريض ..
والمهم أن علم الحرف هو القيمة العددية للحروف الهجائية العربية، وما تدل عليه هذه العلاقة بين الحروف والكلمات وقيمتها العددية .
وهو علم قديم سبق نزول القرآن وعرفته اللغات السامية، وليس اللغة العربية وحدها، وكان ترتيب الحروف العربية متمشياً مع الحساب العددي ، أي كانت " أبجد هوز حُطي كلمن .. " ثم حدث تغيير لاحق بترتيب الحروف لتتمشى مع الأشكال المتقاربة في رسم الحروف، فالباء والتاء والثاء تأتي متتالية، ومثلها الجيم والحاء والخاء، والسين والشين والصاد والضاد، ذلك الترتيب الموجود إلى الآن، ولكن لا يزال الترتيب السابق معمولا به خصوصا في علم "الجبر" (أ ، ب ، ج ، د ،هـ، و ، ز ) الخ .. بسبب الصلة الوثيقة بين الحروف وقيمتها العددية والتي سار عليها علم الحرف .
وتستطيع معرفة القيمة العددية لأي كلمة عربية ‘إذا جمعت القيمة العددية لكل حروفها ، حسب ذلك الجدول، وهو ما كان سائداً قبل وبعد نزول القرآن، ثم تحول إلى دجل وشعوذة حين أصبح التدين دجلاً وشعوذة .
الجدول الذي يبين القيمة العددية للحروف
أ = 1 ح = 8 س = 60 ت = 400
ب = 2 ط = 9 ع = 70 ث = 500
ج = 3 ى = 10 ف = 80 خ = 600
د = 4 ك = 20 ص = 90 ذ = 700
هـ = 5 ل = 30 ق = 100 ض = 800
و = 6 م = 40 ر= 200 ظ =900
ز = 7 ن = 50 ش = 300 غ =1000

قيمة الحروف العددية حسب ترتيبها
(الإيمان) ــ (الجن والإنس ) ــ (الكفر)
(133) 99 (232) 99 (331)

ثانيا : علم الحرف في القرآن
الله تعالى بقول عن القرآن الكريم:(اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ )(الشورى 17).
أي أن كل كلمة قرآنية في موضعها وفي تكوينها بميزان دقيق, وقد لفتت هذه الآية الكريمة نظر بعض القرآنيين، والقرآنيوين مجموعات منتشرة في العالم يتمسكون بالقرآن، ومن خلاله ينظرون إلى التراث، ومنهم الأستاذ مراد الخولي وهو مهاجر مصري إلى كندا، وقد استطاع بالكومبيوتر إعادة الاكتشاف لجذور علم الحرف، وأوضح من خلال بعض النتائج نوعا من الإعجاز العددي داخل النسق القرآني، مما يؤكد أن المجال الوحيد لعلم الحرف هو في القرآن حيث الأدلة واضحة بالأعداد والحساب ، وحيث تؤكد أن هذا الكتاب العزيز معجزة إلهية فوق مستوى البشر .. وبالتالي فإن من الجدل والشعوذة استخدام علم الحرف في خارج القرآن وفي كلام البشر، لأن القرآن وحده هو الذي أنزله الله تعالى بالحق وبالميزان.
والأعداد والأرقام هي الميزان الدقيق الذي لا يختلف عليه البشر مهما اختلفت ألسنتهم، والأعداد والأرقام لا محل فيها للاجتهادات وتنوع وجهات النظر ، لأن:" واحد زائد واحد يساوي أثنين" .. وبلغة الأرقام يكون الإعجاز القرآني موجهاً للناس جميعاً، وليس للعرب وحدهم.
وقد سبق الدكتور عبد الرزاق نوفل إلى اكتشاف الإعجاز العددي في كلمات القرآن, ولكن علم الحرف يتجاوز ذلك إلى البحث في حروف القرآن وتركيب الكلمة وقيمة ذلك عددياً، والدلالات الناتجة عن هذا.
ومن الاكتشافات العددية التي توصل إليها الأستاذ مراد الخولي :ـ
1- في قوله تعالى (اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ) . إن كلمة الحق ( ا ل ح ق ) = ( 1+ 30 + 8 + 100 ) = 139 , وهى نفس القيمة العددية لكلمة ( الميزان) ( ا ل م ي ز ا ن) = (1+ 30 + 40 + 10 +7 +1 +50 ) = 139 .
2- في قوله تعالى (يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ ) ( النازعات 6،7 ) كلمة (الراجفة) قيمتها العددية (715) ويتبعها في القيمة العدية كلمة (الرادفة) أي (716) .. أي أن الراجفة تتبعها الرادفة بالحساب العددي أيضاً .
3- كلمة (السموات) تساوي (539) ، وهىّ تساوي (7× 77) أي أن السموات سبع , كما يؤكد القرآن، وحتى كلمة (السماء) = (133) أي (19 × 7) .
4- ويقول تعالى عن جهنم (لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ ) ( الحجر 44 ) وقيمة " جهنم" = (98) أي (7×14) أو (7×7×2) وهو تفسير عددي للآية، بل إن كلمة (سبعة) قيمتها العددية (532) وهىّ تقبل القسمة على سبعة (7×76) .
5- كلمة الفوز العظيم = (1175)، وكلمة (الخسران المبين) = (1075) والفرق بينهما (100) وهو نفس الفارق بين كلمتي (الأتقى = 542 ) و ( الأشقى = 442 ) .
6- كلمة (الإيمان) = ( 133) وكلمة (الكفر) = (331) ، أي أن القيمة العددية للإيمان (133) عكسها في الترتيب كلمة الكفر (331) . وهو تفسير عددي لكون الكفر عكس الإيمان، بل الأعجب من هذا أن القيمة العددية لكلمتي (الجن والإنس) = (232) وعلاقتها بالإيمان والكفر عجيبة، إذ تقع في المنتصف تماماً .
أي أن الجن والإنس في منتصف المسافة بين الإيمان والكفر، أي لهما حرية الاختيار المتساوية في الاتجاه نحو هذا أو ذاك .
والأعجب من ذلك أن القيمة العددية للكفر(331)لا تقبل القسمة على أي عدد ، وهو قريب من المعنى القرآني الذي يؤكد أن الشرك أو الكفر يحبط الأعمال، بينما القيمة العددية للإيمان وهىّ (133) تساوي ( 7×19) ، والقرآن مرتبط بالرقمين (7) ،(19) ولهما دخل كبير في نظامه العددي، وذلك موضوع شرحه يطول .
7- وقلت في بحث قرآني أن (الروح) في القرآن هو جبريل , وليس فينا (روح) داخل الجسد , بل فينا (نفس)، وأرسل الأستاذ مراد الخولي يؤكد هذا بالقيمة العددية ، فالروح تساوي (1+30+ 200 + 6 +8) = 285 , وهىّ نفس القيمة العددية لجبريل ( 3+ 2 +200 +10 + 30 )= 285 . والعجيب أن كلمة الروح في القرآن جاءت كلها عن جبريل ووظائفه ، من نفخ النفس إلى النزول بالوحي وتأييد الحق .
8- وصدر لي كتاب (المسلم العاصي) الذي يؤكد من خلال ثلاثمائة آية قرآنية أن من يدخل النار لن يخرج منها،وأن أصحاب الأعراف هم ملائكة مترجلون ، وأرسل الأستاذ مراد الخولي يؤكد نفس الحقيقة القرآنية بعلم الحرف من خلال القرآن, فكلمة (النار) = (1+ 30 + 50 + 1 + 200 ) = (282) ،
وكلمة (الجنة) = (1+ 30 + 3 + 50+ 400 ) = (484). وكلمة (الأعراف) = (1+ 30 +1 + 70 + 200 + 1 + 80 ) = 383 والفرق بين (الجنة) و ( الأعراف) = ( 101) , وهو نفس الفرق بين (الأعراف) و ( النار) (101) .
أي أن الأعراف في منتصف الطريق تماماً بين الجنة والنار,وطبقاً لما جاء في سورة الأعراف,فإن أهل الجنة وأهل النار يتجمعون على الأعراف ويتحدث معهم ملائكة الأعراف قبل دخول كل فريق إلى مثواه الأبدي .
9- واكتشافات أخرى كثيرة: منها
* أن الفارق بين (المؤمنون والمؤمنات) و (المنافقين والمنافقات) يساوي عددياً (266) وكلمة (سور) = (266) وسورة الحديد ذكرت أن المؤمنين والمؤمنات سيفصل بينهم سور باطنه الرحمة وظاهره العذاب(الحديد 12 – 15 ) ،
* ومنها أن آية سورة البقرة رقم (102)التي ذكرت (هاروت) و (ماروت) وتربطهما ببابل، ينطبق عليها علم الحرف، لأن (ماروت)=(647) و (هاروت)=(612) والفارق بينهما (35) وكلمة (بابل) = (35) ...!!
* وسورة المجادلة من الآية (14) إلى الآية (19) تتحدث عن أصحاب النار الذين هم حزب الشيطان . و(الشيطان) = (401) وكلمة (حزب) = (17) ، وحين تطرح مقدار كلمة (حزب) من مقدار كلمة (الشيطان) نجد العدد (384)، وقيمة كلمة (أصحاب النار) تساوي (384). وعلاقات معقدة بين الكلمات المترادفة والمتناقضة، وتجد الصدى في القيمة العددية، وهو موضوع طويل ومعقد، ولكن لم يصل الباحثون بعد إلى نظرية متكاملة تحكم كل تلك الاكتشافات ..
ولا يزال المجال مفتوحا .، ولكنه يؤكد أن الأعجاز القرآني يمتد ليشمل طريقة الكتابة القرآنية وترتيب الآيات والسور ، وذلك ما توقف أمامه العلماء السابقون حيارى وقالوا أنه ( توقيفي ) ، ولعله يكون الأعجاز الذي أدخره المولى عز وجل للبشرية في عصر الحاسبات الالكترونية .
وقبل أن نترك هذا الموضوع ننبه القارئ إلى أنه قد يحدث خطأ مطبعي في نقل الأعداد ، لذا فعليه أن يتحقق بنفسه من خلال جدول القيمة العددية للحروف الأبجدية .
ثالثا : لكن علم الحرف تحول إلى شعوذة.
1 ـ بدأ هذا التحول مع شيوع الاعتقاد بقدرة الشيوخ على معرفة الغيب، وتمتعهم بالكرامات والخوارق، لذا كان سهلاً أن يدعي أحدهم معرفة الغيب عن طريق الزعم بأنه تبحر في علم الحرف ووصل إلى معرفة أسم الله الأعظم الذي يسخر به الإنس والجن والرياح والأمواج والعفاريت الرزق..
2 ـ وبعضهم كان ينتظر إلى أن تقع الحادثة، ثم يقوم بتفسيرها بعلم الحرف.
فقد كان أول ظهور السفاح تيمورلنك سنة 773هـ .. وحين بدأ تيمور لنك يهدد الدولة المملوكية قال أحد الشيوخ أن تيمور لنك قد ظهر في سنة (عذاب) لأن القيمة العددية لكلمة (عذاب)= (773)، وحاز الشيخ شهرة بهذا الاكتشاف، مع أنه جاء متأخراً.
3 ـ وبدأ تفسير التاريخ بعد حدوثه بهذه الطريقة،فالمقريزي في تاريخ(السلوك) يذكر أن السلطان العزيز يوسف بن برسباي كانت مدته(94) يوماً في الحكم،وقيمة أسمه( عزيز) (94)، وكان السلطان المملوكي الظاهر (تمر بغا) من أصل رومي، وقد أقنعه أحد الشيوخ بأنه سيحكم مدة طويلة، لأن الله تعالى يقول عن الروم: {سيغلبون في بضع سنين} وكلمة(بضع) = (2+800+70)= (872)، أي سيحكم إلى سنة 872... ولم يحدث ذلك بالطبع!!وهكذا اقتنع السلطان تمربغا بأن سلطانه سيدوم، وذلك دليل على تحول علم الحرف إلى شعوذة،
السخاوي الذي ذكر الخبر السابق قال أن أحد الشيوخ الشاميين جاء للسلطان تمربغا ليخبره بأنه شاهد في غزة درهماً مكتوباً عليه أسم تمربغا قبل أن يتسلطن تمربغا.. وتكاثر الدجالون حول ذلك السلطان الأحمق كل منهم يتقرب إليه بحسابات علم الحرف وبالمنامات والبشائر، مما دعى المؤرخ السخاوي لأن يقول متحيراً" فالله أعلم"!! أي أن المؤرخ نفسه تأثر بهذه الإشاعات.
4 ـ ولهذا كان بعض الشيوخ يحرص على تعلم علم الحرف ليصل إلى الشهرة والنفوذ، وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري في القرن العاشر درس علم الحرف على يد الشيخ ابن قرقماس الحنفي فقد كان علم الحرف من العلوم زائعة الصيت التي تفتح الأبواب المغلقة.
5 ـ وبعضهم وصل إلى المناصب التعليمية الكبرى عن طريق الإدعاء بمعرفة علم الحرف مثل الشيخ إسلام بن الأصفهاني شيخ خانقاه سرياقوس المتوفى سنة 802 هـ، وقد ظهر فيما بعد جهله بالموضوع... ولكن بعد أن ترقى في المناصب، والشيخ ابن قرقماس الحنفي نفسه أصبح شيخ جامع الظاهر خشقدم بسبب معرفته بعلم الحرف، أو ادعائه هذا.
وجاء من المغرب الشيخ محمد بن علي، وقد منح نفسه لقب"الحرفي"نسبة لعلم الحرف،وأشاع مقدرته في هذا الباب فأصبح من المقربين للسلطان الظاهر برقوق، وحظي بمكانة عنده ، يكشف له عن المستقبل، ويقتنع السلطان بمزاعمه، وظل كذلك إلى أن مات عام 806هـ .
وجاء الشيخ أبو ذر إلى القاهرة تسبقه شهرته في علم الحرف ، ولم يتمكن من الوصول للسلطان، ولكن صارت له شهرة في القاهرة, وقصده الناس بالأموال يسألونه، وظل كذلك إلى أن مات عام 780هـ ، ومثله في الشهرة الشيخ البستي المتوفى عام 791هـ ، والشيخ شرف الدين الأخميمي المتوفي علم 684هـ بالقاهرة.
6ـ لذا كان ادعاء العلم بالحرف طريق الوصول لإدعاء الولاية وتحول الدجال إلى شيخ مقدس "مكشوف عنه الحجاب"، ونرى ذلك في سيرة الشيوخ الكثيرين مثل أصلم وبلال الحبشي وأبوبكر الجبرتي .. وقد أتوا لمصر من الخارج يطمعون في طيبة أهلها, واعتقادهم في الخرافات في ذلك العصر المملوكي .
7 ـ والمؤرخ الفقيه ابن حجر ذكر في تاريخه أن الشيخ ابن بهادر اكتفى بالعزلة في بيته، ولكن الطوائف كلها تزاحمت على بابه لتتعلم منه أسرار علم الحرف "والشعوذة" أي يشير ابن حجر من طرف خفي للارتباط العضوي في زمنه بين علم الحرف والشعوذة.
وتلمح في تعليقات ابن حجر تلك الرؤية المستنيرة الناقدة,فهو يقول في ترجمة الشيخ جلال الدين الروياني العجمي المتوفى عام 833هـ ، أنه جاء للقاهرة، واتصل بأمراء الدولة وراج أمره بينهم بسبب إدعائه علم الحرف، وكان يقوم بعمل "الأوفاق" أي التوفيق بين أهل المحبة, واستطاع أن يؤلف في هذا المجال، ومن مؤلفاته "غنية الطالب فيما اشتمل عليه الوهم من المطالب"، واستطاع بنفوذه جمع الأموال وجمع الأعوان وشراء الأوقاف.. أي أن ابن حجر يلمح بين السطور إلى سبب شهرة الشيخ الروياني وثرائه.
وعلى نفس الطريقة يقول عن الشيخ الزعيفريني المتوفى سنة830هـ, انه كان يتكلم في علم الحرف، ويخبر عن المغيبات، لذلك اجتمع حوله الأكابر وأصبح ثرياً.. وكان أولئك الأكابر من الأمراء المماليك طامعين في السلطنة والمتشوقين إلى معرفة ما يخبئه لهم المستقبل.
8 ـ على أن الشيخ (ابن زقاعة) (816هـ), كان أشهر الشيوخ في هذا المجال، قال عنه ابن حجر أنه كان عارفاً بالأوفاق, وما يتعلق بعلم الحرف، وقد بلغ شأناً عظيماً عند السلطان الظاهر برقوق بحيث لم يكن السلطان يسافر إلا في الوقت الذي يحدده له, ثم ظل يتمتع بهذه المنزلة في عهد الناصر فرج.
ومن دهاء هذا الشيخ أنه بدأ بالزهد والحياة في جبال معتزلاً الناس, فاكتسب شهرة، وكانت له معرفة بالنباتات والأعشاب والفقه والتصوف، وعلى أساسها أدعى العلم بالحرف والنجوم والكلام في الغيبيات، ثم في النهاية أدعى أنه يعلم اسم الله الأعظم الذي يحرك به الساكن ويسكن المتحرك، فانهال عليه الناس واتسعت شهرته، فذكرته كل المصادر التاريخية المعاصرة له، وبعضهم جعله إماماً بارعاً يفتي في سائر العلوم مثل المؤرخ أبو المحاسن، وبعضهم اتهمه بالشعوذة، وتحقق له ما يريد، إذ وصلت شهرته من مسقط رأسه "غزة" إلى السلطان الظاهر برقوق فاستدعاه إلى قلعة الجبل، مقر السلطنة، فكان يحضر إليه في مهمات رسمية ليستشيره السلطان ويتلقى منه الهبات والهدايا، إلا أنه أخفق في بعض تنبؤاته للسلطان، ومع ذلك ظل السلطان على اعتقاده فيه. وورث الناصر فرج هذا الاعتقاد في ذلك الشيخ عن أبيه برقوق .. فكان الناصر فرج لا يخرج في سفر إلا بعد أن يأخذ له الطالع، وأصبح ابن زقاعة لا يفارق السلطان، وزاد تدخله في أمور الدولة.وبعده كانت نهاية أسطورة ابن زقاعة، لأن السلطان التالي وهو المؤيد شيخ كان يحمل حقداً لابن زقاعة فاعتقله وأهانه وطرده فعاد الشيخ إلى غزة .. وربما كان يندم على تركه غزة وانغماسه في السياسة التي أضاعت عليه كل ما جمعه من أموال وجلبت عليه الأهوال .
وقد نقل المؤرخ أبو المحاسن أن ابن زقاعة كان يعرف أسم الله الأعظم، وأنه كان يقول في شعره "سألتك بالحواميم العظيمة وبالسبع المطولة القديمة" ، ونسىّ أبو المحاسن أن يسأل نفسه إذا كان ابن زقاعة لديه كل هذا العلم بالحرف وبالنجوم وباسم الله الأعظم فلماذا لم ينقذ نفسه من نهايته التعسة وفضيحته الأخيرة في نهاية عمره، بين السجن والتعذيب والطرد ؟!
رابعا :
ونضع الأمور في نصابها ، فالنبي محمد ـ عليه السلام ـ نفسه لم يكن يعلم الغيب، وهذا ما أكده القرآن الكريم في أكثر من عشرين آية قرآنية .. والله تعالى وحده هو الذي يعلم الغيب، وقد يعطي بعض الأنبياء العلم ببعض الغيب كمعجزة، مثلما حدث مع يوسف وعيسى، ولكن يظل الغيب شأناً خاصاً بالمولى جل وعلا، وهنا يكمن احترام الإسلام للعقل, فقد أتاح له المجال واسعاً للتفكر والبحث، وحصر دائرة الغيب في مجالات الألوهية واليوم الآخر والبرزخ، على أن يؤمن بها المسلم من خلال القرآن فقط، لأنه كلام الله تعالى الذي يعلم الغيب والشهادة ، وبعد الإيمان بالغيب المذكور في القرآن ، فأمام الإنسان عوالم الشهادة في هذا الكون ليبحث فيها بحواسه ويسير في الأرض لينظر كيف بدأ الله تعالى الخلق.
وحتى يقتنع الإنسان بأن هذا القرآن هو كلام الله تعالى, فإن القرآن احتوى على الكثير من المعجزات التي يتحدى بها الله تعالى البشر ، ليس في الفصاحة وأخبار السابقين واللاحقين فقط، ولكن في تركيب الحروف والكلمات وترتيب السور والآيات .. وفي طريقة الكتابة القرآنية العجيبة التي تختلف عن الطريقة العادية للكتابة العربية، والتي ننتظر منها أن تكشف أسرارها.
وبدلاً من أن يعكف المسلمون على القرآن ومنهجه العقلي فإنهم أضاعوا قروناً في تأليف الروايات والاختلاف حولها ، وفي تأليف الخرافات والبحث فيها.. لذا كان طبيعياً أن يتحول التدين إلى احتراف .. ويتحول العلم إلى دجل ، ويصير بعض الشيوخ مرتزقة .. ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.


اجمالي القراءات 89561