التحريف والتخريف

شريف هادي في الإثنين ٢٦ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

بسم الله الرحمن الرحيم
التحريف والتخريف
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا ، والصلاة والسلام على من أنزل عليه الفرقان مباركا ليكون للعالمين نذيرا ، وبـــــــــــــــــــعد
فإن الله سبحانه اقتضت لطائف حكمته في خلقه وعظيم مقدرته عليهم أن يرسل الرسل إليهم لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ، وقد أنزل على الرسل كتب قيمة ، فقال سبحانه " نزل عليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه وانزل التوراة والانجيل" آل عمران3 ، وقد أمرنا سبحانه وتعا&aa;لى أن نحتكم إلي هذه الكتب وأن نقيمها فقال عز من قائل " ولو انهم اقاموا التوراة والانجيل وما انزل اليهم من ربهم لاكلوا من فوقهم ومن تحت ارجلهم منهم امة مقتصدة وكثير منهم ساء ما يعملون" المائدة66 ، وقال " قل يا اهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة والانجيل وما انزل اليكم من ربكم وليزيدن كثيرا منهم ما انزل اليك من ربك طغيانا وكفرا فلا تاس على القوم الكافرين" المائدة 68 .
ولكن الشيطان الذي قال لرب العزة سبحانه وتعالى أنظرني إلي يوم يبعثون ، فقال سبحانه إنك من المنظرين ، قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين ، بل إنه تمادى في غيه وأقسم برب العزة سبحانه وقال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين.
وزين الشيطان لأتباعه التحريف في كتب رب العالمين ، وكان للتحريف أشكال ثلاثة ، إما بالكتابة والحذف والأضافة ، وإما ليا باللسان ، وإما بالتأويل على غير صحيح تأويله.
أولا: التحريف بالكتابة:-
أما عن التحريف بالكتابة فقد قال رب العزة سبحانه وتعالى " فويل للذين يكتبون الكتاب بايديهم ثم يقولون هذا من عند الله ليشتروا به ثمنا قليلا فويل لهم مما كتبت ايديهم وويل لهم مما يكسبون" البقرة 79، والتحريف بالكتابة على وجهين أحدهما بالحذف والإضافة بين دفتي كتاب الله والآخر بكتابة كتاب على التوازي مع كتاب الله ويعطونه قدسية كتاب الله بل وأكثر ، وقد أصاب التوراة والأنجيل التحريف بالكتابة بين دفتي الكتاب ، حتى أنه لم يتم العثور على المخطوطات الأصلية أو أي نسخ ثابته من هذه المخطوطات كما أن المطالع للتوراة والأناجيل يجد إختلاف كبير بين كتب الفرق المختلفة وحتى بين الطبعات المختلفة داخل كتاب الفرقة والواحدة ، أما القرآن فقد تنزه عن التحريف بين دفتي الكتاب لتعهد رب العزة سبحانه بحفظه ، لقوله سبحانه وتعالى "انا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون" الحجر9 ، قد يقول قائل إن الذكر ليس فقط (القرآن) ولكن كل كتب الله السابقة ذكر ، فقد قال الله سبحانه وتعالى " وما ارسلنا من قبلك الا رجالا نوحي اليهم فاسالوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون" (النحل 44 ، الأنبياء 7) ، والذكر في هاتين الآيتين هو كتب الأولين ، إذا الذكر المقصود في آية (الحجر9) هو كل الكتب وقد حفظها رب العزة سبحانه وتعالى من التحريف ، وهنا نقول هذا تخريف للأسباب الآتية:
1- في تفسير السياق ، فإن الآيات السادسة والسابعة تحكي قول الكفار لمحمد عليه الصلاة والسلام (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون # لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين) إذا فالحديث هنا عن القرآن حصرا ، فكان رد رب العالمين سبحانه وتعالى في الآية الثامنة يخص موضوع نزول الملائكة لأنهم بسؤالهم لا يعجزون النبي كما يظنون ولكن الله أخبرهم لو أنزل الملائكة فستكون بالعذاب عليهم ولن ينظروا (ما ننزل الملائكة إلا بالحق وما كانوا إذا منظرين) ، ثم لم يغفل أن يرد عليهم إستهزائهم بنزول الذكر (القرآن) على الرسول عليه الصلاة والسلام فقال في الآية التاسعة (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) والحفظ هنا من أن تزيد فيه شياطين الإنس والجن باطلا أو تنقص منه حقا.
2- أما عن حفظ الكتب السابقة فقد وكلها الله لرهبانهم وأحبارهم ، فأغار الشيطان على عقول بعضهم فحرفوها وهذا مصداقا لقوله تعالى " انا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين اسلموا للذين هادوا والربانيون والاحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء فلا تخشوا الناس واخشون ولا تشتروا باياتي ثمنا قليلا ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الكافرون" المائدة44 ، والشاهد هنا قوله (بما استحفظوا) فقد وكل بهم الحفظ فخانوا الأمانة عن نسيان وضعف وقلة عزم مع وسوسة شيطان.
3- القول بأن الحفظ ينصرف إلي كل الكتب السابقة يخالف الكثير من الآيات الصريحة التي تتكلم عن تحريفهم لكتبهم وعن إخفائهم لبعض آيات كتبهم ومنها على سبيل المثال فقط قوله تعالى" يا اهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين" المائدة15 ، وقوله تعالى " وما قدروا الله حق قدره اذ قالوا ما انزل الله على بشر من شيء قل من انزل الكتاب الذي جاء به موسى نورا وهدى للناس تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرا وعلمتم ما لم تعلموا انتم ولا اباؤكم قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون" الأنعام91 ، والإخفاء هنا تحريف
ولكن رغم ذلك يمكننا القول أن الله حفظ الكتب السابقة في الفكرة التي جائت بها (وحدانية رب العالمين) لأن الله قد حفظها في القرآن والكتب السماوية هي سلسلة ذهبية تعرفها ببعضها لقوله سبحانه وتعالى " وانزلنا اليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما انزل الله ولا تتبع اهواءهم عما جاءك من الحق... الآية" المائدة48
أما عن التحريف بكتابة كتاب على التوازي مع كتاب الله وإعطاءه نفس القدسية ، فهذه آفة وقعت فيها كل الأمم ، فاليهود كتبوا التلمود مرتين (تلمود المشنة) وتلمود (بابل) والنصارى لهم رسائل بولوس لأهل أرمينية وتعليمات المجامع الكنسية وأقوال الآباء المقدسة ، ونحن أهل الإسلام كتبنا كتب الحديث (الستة) أو (التسعة) وقدسنا كل ما سبقناه بقول (قال رسول الله) حتى ولو لم يقوله الرسول عليه الصلاة والسلام ، بل وجعلنا الحديث قاضيا على القرآن ينسخ (يلغي) أحكامه ويعطلها أو يضيف فيها وصدق فينا قوله تعالى"... نبذ فريق من الذين اوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كانهم لا يعلمون" البقرة101 .
ثانيا: التحريف ليا باللسان:-
وهو اللعب في متن الكلمة نطقا فتحمل على معنى آخر ، كما كان اليهود يدخلون على رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقولون (راعنا) وقد فضحهم الله في قوله سبحانه وتعالى" من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا واسمع غير مسمع وراعنا ليا بالسنتهم وطعنا في الدين ولو انهم قالوا سمعنا واطعنا واسمع وانظرنا لكان خيرا لهم واقوم ولكن لعنهم الله بكفرهم فلا يؤمنون الا قليلا"النساء46 ، فهؤلاء كانوا يقولون للرسول (اسمع غير مسمع "لنا") ولكنهم كانوا يقصدون دعاء عليه بالصم فداه نفسي عليه الصلاة والسلام ، ويقولون راعنا من (الرعاية) ولكنهم يقصدونها من (الرعونة) وهو سب له عليه الصلاة والسلام ، فكانوا يدعون عليه ويسبوه وهم في حضرته بلي ألسنتهم ليتم لهم تحريف معناها ، وقد فعلوا مع كتبهم نفس الشيء ، بأن أبقوا بعض الكلمات والجمل ولكنهم غيروا في طريقة نطقها فأصبحت تحمل على معاني مخالفة لمقصود رب العالمين ، وهذا مصداقا لقوله تعالى" فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تطلع على خائنة منهم الا قليلا منهم فاعف عنهم واصفح ان الله يحب المحسنين"المائدة13 ، ويجب أن نعلم أن هناك فرقا بين قوله تعالى(يحرفون الكلم عن مواضعه) ، وبين قوله تعالى (يحرفون الكلم من بعد مواضعه) على نحو ما سنبين لاحقا في موضعه بإذن الله ، ونؤكد هنا أن تحريف الكلم عن مواضعه بالتغيير في متن نطق الكلمة ، وقد حفظ الله سبحانه وتعالى القرآن من هذا النوع من التحريف نظرا لرسمه الفريد والذي لا تتغيرمعه أبدا طريقة نطق الكلمة ، فرسم القرآن رسما فريدا لا يتقيد حتى بطريقة رسم اللغة العربية ، وهذا الرسم يحدد طريقة النطق حصرا بشكل لا يمكن معه نطق الكلمة بغير وضعها الصحيح على اللسان ، فلا يمكن لي اللسان بكلمات القرآن لأن ذلك سيؤدي حتما إلي مخالفة الرسم الفريد للقرآن فيفتضح التحريف ، وهذه من كرامات القرآن وإعجازه ، ولا عبرة هنا بالغريب من القراءات والتي يتغير نعها طريقة رسم القرآن أو وضع النقط على الحروف ، لأن رسم القرآن حصرا بالطريقة التي وصلتنا من عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والذي نؤمن أنه كتب القرآن بيده الشريفة ، مصداقا لقوله سبحانه وتعالى " وقالوا اساطير الاولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة واصيلا" الفرقان5 ، فكفار قريش لو لم يرون الرسول وهو يكتب ، ما قالوا (إكتتبها) ، ولو كان كذبهم في كتابة الرسول للقرآن ، لردهم رب العزة سبحانه وتعالى ، كما ردهم من قبل في كل كذبة أرادوا لصقها بالدين أو الرسول ، ولكن كان رده سبحانه وتعالى " قل انزله الذي يعلم السر في السماوات والارض انه كان غفورا رحيما" الفرقان6 ، فجاء رده سبحانه وتعالى على فرية وكذبة (أساطير الأولين) بأن القرآن ليس أساطير الأولين ولكنه أنزله الذي يعلم السر في السموات والأرض ، فلو كان الرسول يكتب أساطير الأولين لعلم ذلك رب العزة سبحانه وتعالى ، ولكنه يكتب ما أنزل عليه من السماء ، فالله سبحانه لم ينفي عنه الكتابة ولكنه نفى عن القرآن فرية أساطير الأولين ، ولو كان الرسول لا يكتب لنفى عنه الله ذلك ، والآيات في القرآن كثيرة في رد الله سبحانه وتعالى على الكفار والمنافقين في كذبهم فلم يترك لهم كذبة أو فرية لم يرد عليها ، وعلى سبيل المثال لما جاء المنافقون وشهدوا أن محمد رسول الله ، وكانت قلوبهم على عكس ذلك فضحهم القرآن وقال الله سبحانه وتعالى في ذلك "اذا جاءك المنافقون قالوا نشهد انك لرسول الله والله يعلم انك لرسوله والله يشهد ان المنافقين لكاذبون" المنافقون1.
وبقى أن نقول أن هذا النوع من التحريف مشابه إلي حد بعيد للقول بالتقيه الذي يعتبره أخواننا الشيعة دينا ، ونسألهم كيف يكون ديننا ما ذمه رب العالمين ونهى عنه؟ ، وتتعدون أن عليا رضي الله عنه فتى قريش العربي الهاشمي الفارس قد قال بالتقيه وبايع أبو بكر بالتقيه ، بل وزوج بنته لعمر بالتقيه ، هذا والله ذم له في باب مدحه ، بل وذم لرب العالمين سبحانه وتعالى عما يصفون ، فكيف ينهى عن فعل ثم يجعله دينا؟ وعلى كل فالموضوع هنا ليس موضوعنا وقد تطرقنا له بالقدر الذي يسمح به بحثنا وقد نفرد له بحثا مستقلا بإذن الله تعالى ، ويكفينا أن نقول لهم أن الله سبحانه وتعالى بعدما فضح اليهود في قولهم (راعنا) نهى الذين آمنوا أيضا عن نفس القول حتى لا تكون ذريعة وحجة للكفار والمنافقين أن يتأولوها على نحو تأويل اليهود لها فقال سبحانه وتعالى " يا ايها الذين امنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا واسمعوا وللكافرين عذاب اليم" البقرة 104 ، وننتقل للنوع الثالث من التحريف.
ثالثا: التحريف بالتأويل على غير صحيح تأويله:-
وهو تحريف الكلم من بعد مواضعه ، أي أن الكلمة مرسومة ومقروءة بشكل صحيح ولكنهم يتأولونها على غير صحيح تأويلها ، وهذا يختلف عن تحريف الكلم عن مواضعه أي ينطقوه إبتداءا بلي ألسنتهم فيتغير متن الكلمة ، أما عن مواضعه فهو نطق متن الكلمة صحيحا ولكنهم يفسرونها بغريب التفسير ويتأولونها على غير مراد رب العزة سبحانه وتعالى ، وفي ذلك يقول رب العزة سبحانه وتعالى ذما لمن فعل هذا من أهل الكتاب "افتطمعون ان يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون"البقرة75 ، وقال سبحانه " يا ايها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر من الذين قالوا امنا بافواههم ولم تؤمن قلوبهم ومن الذين هادوا سماعون للكذب سماعون لقوم اخرين لم ياتوك يحرفون الكلم من بعد مواضعه يقولون ان اوتيتم هذا فخذوه وان لم تؤتوه فاحذروا ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا اولئك الذين لم يرد الله ان يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الاخرة عذاب عظيم" المائدة41 ، وهذا النوع من التحريف أبتليت به كل الأمم بما في ذلك أمة الدين الخاتم ، أمة الإسلام ، فنحن لدينا قرآن واحد برسم واحد ونطق واحد ومع ذلك كل منا يتأوله بطريقة تختلف عن تأويل الآخرين له بل وتختلف عن مقصود رب العالمين ولذلك ظهرت الفرق الكثيرة التي لا تعد ولا تحصى كلها تدعي إتباع القرآن الكريم ، والغريب أن آخذهم بنصوص أخرى وكتب أخرى هو ما شجعهم على هذا التأويل حتى يأتي متمشيا مع أهوائهم ومتفقا مع الحديث الذي ينسبونه للرسول ، بل وتمادوا في غيهم فنسخوا حكم كل آية لا يمكنهم تأويل معناها أو حكمها حتى لا تتعارض مع الحديث الذي به يؤمنون ، ويبقى قوله سبحانه وتعالى" تلك ايات الله نتلوها عليك بالحق فباي حديث بعد الله واياته يؤمنون" الجاثية6 شاهدا عليهم وفاضحا لفعلهم وقاضيا على ما ينتهجون أنه باطلا لا يرضاه الله رب العالمين.
التخريف:-
ما ذكرناه آنفا حال من إتبع كتابا مع كتاب الله وقدسه تقديسه لكتاب الله وأكثر ، فأضطر أن يجعله قاضيا على كتاب الله وآمن بحديث غير حديث رب العالمين ، فإضطر إلي تحريف الكلم عن مواضعه ليتفق وما يتبعه من وهم وما تميل إليه نفسه من ضلال ، ولكن الأمر من ذلك وأدهى ، أن هناك طائفة قالت نكتفي بكتاب الله وننبذ ما دونه وراء ظهورنا ، ومع ذلك أحترفوا تغير الكلم عن مواضعه ، وتأويله على غير تأويل رب العالمين له ، وكانت نتائجهم غاية في الشذوذ ومع ذلك تمسكوا بها ولم يردهم نصح الناصحين ولم يردعهم وعيد رب العالمين ، وهذا التحريف الذي لا أساس له من كتب أخرى وأحاديث أخرى يمنحونها القدسية فيتأولون حديث رب العالمين من بعد مواضعه هو في الحقيقة نوع من التخريف ، لأنهم اخترعوا القواعد اللغوية التي لم تكن معروفة لدى الأولين من أنزل عليهم كتاب رب العالمين ، وأعتبروها حق لا يناقش ، وقواعد أصوليه يردون إليها الكلام يزنونه بميزانها ويقيسونه بمقياسها فكان الضلال حليفهم ، وإني لأعتذر إبتداءا عن صراحتي ، ولكنني لم أجد أصدق من هذه الكلمات وصفا لحالهم وفضحا لضلال طريقهم ، ولنتتبع الموضوع خطوة خطوه.
البداية:-
خلق الله آدم بحكمته وقدرته ، عصى آدم بنسيانه وضعفه وقلة عزمه ، تاب الله عليه برحمته وعظيم مغفرته ، ثم استخلفه الأرض يعيش فيها ويعمرها هو ونسله من بعده لميقات يوم معلوم بشرط عبادة الله بمحض اختياره وتوعده إن عصى مرة أخرى ، ظل النسيان والضعف وقلة العزم حليف لآدم ونسله من بعده ناهيك عن وسوسة الشيطان الذي أقسم بعزة الله سبحانه وتعالى أنه لن يتوانى في غواية آدم ونسله ، وعلى هذا النحو إحتاج بني آدم إلي رسل من رب العالمين ومعهم رسائل (كتب) لتصحيح الطريق كلما أنحرف وللتذكير من النسيان حتى لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وفي ذلك يقول الله رب العزة سبحانه وتعالى" رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل وكان الله عزيزا حكيما" النساء 165 ، لأن الله سبحانه وتعالى بعدله ورحمته وعد الناس أنه لن يعذب حتى يبعث رسولا ، فقال " من اهتدى فانما يهتدي لنفسه ومن ضل فانما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر اخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا" الإسراء15
أرسل الله سبحانه وتعالى الرسل وأنزل عليهم الكتب من رب العالمين تحدد علامات الهداية من الضلال ، وهي كتب بألسنة من أنزلت عليهم حتى يعقلوها ويعلموها ثم يبلغوها ويدعون إليها ، وقد أستحفظهم الله هذه الكتب وإستأمنهم عليها ، ولكن وفي ظل النسيان والضعف وقلة العزم مقترنا بغواية الشيطان كان من يستحفظ هذه الكتب يخفي ما لا يروق له ويبدي ما يتفق وأهواءه ، حتى أنزل الله القرآن وتعهد هو سبحانه بحفظه ، فلما أعجز الشيطان تحريفه واللعب بين دفتيه كما فعل مع الكتب السابقة ، اكتفى بتحريف الكلم من بعد مواضعه.
ما يهمنا من هذا التسلسل أن الكتب قد جاءت للهداية ، وبما أنها كتب هداية من ضلال فإن من دواعي الهداية أن تكون الكتب واضحة سهلة ميسرة ، لا لبس فيها ولا تحتاج لفهمها البحث عن غيرها ، وكل أدواتها هي اللغة التي نزلت بها وتحديدا لسان القوم التي نزلت عليهم هذه الكتب ، وهذا مصداقا لقوله تعالى" وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم" ابراهيم4 ، وهذه الآية في غاية الوضوح أن الأداة الوحيدة لفهم الكتاب هي لسان قوم الرسول الذي أنزل عليه الكتاب ، فمن لم يتبع هذه الأداة وأراد أن يتفلسف ويتسفسط (من السفسطة) فقد حكم الله عليه بالضلال ، ومن أتبع لسان القوم (قوم الرسول) في فهم الكتاب حكم الله له بالهداية والله عزيز حكيم ، عز سبحانه فحكم بالضلال على من يستحقه وبالهداية لمن يستحقها ، والقرآن أيضا تحكمه نفس القاعدة فقال سبحانه " فانما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوما لدا" مريم 97 ، وقال " فانما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون" الدخان 58 ، ولما كان لسان النبي عربي ، واللغة العربية لها ألسنة كثيرة تختلف بإختلاف أماكن وأزمان قولها ، ولسان النبي هو لسان واحد من ألسنة عربية كثيرة فقد جاء تعريف اللسان بالإضافة وكلمة عربي نكرة لم تعرف (بألف ولام) دليلا على كثرة الألسنة العربية فقال سبحانه " بلسان عربي مبين" الشعراء 195 وجائت (مبين) صفة ، تصف اللسان بالوضوح والسهولة والبيان كل ذلك وفقا لفهم الرجل العادي من قوم الرسول.
وكما أن القرآن بلسان عربي ، فإن صفة الإبانة لا تنسلخ عنه ، فقال سبحانه " قرانا عربيا غير ذي عوج لعلهم يتقون"الزمر28 ، وقال " كتاب فصلت اياته قرانا عربيا لقوم يعلمون" فصلت3 ، فهو هنا قرآنا عربيا واضحا يعرب عن نفسه ، معانيه مفصله وألفاظه واضحة لا إشكال فيها ، فجائت عربيا أسم يشير إلي اللسان وكلماته ، وصفة تشير إلي القرآن وآياته ، (لعلهم يتقون) يتقون الله فلا يخوضون في كتابه ويلحدون فيه ويتخذونه عضين ، (لقوم يعلمون) يعلمون اللسان الذي أنزل به القرآن ويتبعونه ويتعلمونه ليفهموا القرآن على مقصود منزله سبحانه وتعالى ، لذلك قال سبحانه وصفا للكتاب " الر كتاب احكمت اياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير"هود1 ، فجاء الإحكام على الإجمال والتفصيل على البيان ، من لدن حكيم يعرف كيف يحكم آياته وخبير يعرف كيف يفصل آياته بعد إحكامها.
اللغة:-
أما عن اللغة فإنها أداة التخاطب ، وقد خلق الله الملائكة وإبليس وآدم بل وجميع مخلوقاته وقد جعل لكل منهم أداة تخاطب تسمى لغة ، فعندما يقول سبحانه (إذ قال ربك للملائكة) نفهم من ذلك أن هناك لغة مشتركة بين الله سبحانه وملائكته عندما يكلمهم بها يفهمون ، ولما يقول سبحانه (قال يا ابليس ما لك الا تكون مع الساجدين) نفهم أيضا وجود لغة مشتركة بين الله سبحانه وتعالى وإبليس ، وعندما يقول سبحانه (قال يا آدم أنبئهم بأسمائهم) نفهم أيضا وجود نفس اللغة المشتركة ، وهذه اللغة حتما كانت عربية (تعرب عن نفسها واضحة العبارة والدلالة وتفهم فهما صحيحا) ، ولكننا لا نعرف إن كانت عربية الكلمات واللسان أم بأي لسان آخر وهذا في علم الله سبحانه وتعالى وعلمنا به علم لا ينفع وجهل لا يضر ، وبنفس الطريقة نفهم قوله تعالى " حتى اذا اتوا على وادي النمل قالت نملة يا ايها النمل ادخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده وهم لا يشعرون" النمل18 ، فالنملة تكلمت وكان كلامها عربيا أي واضحا يعرب عن نفسه وفهمه النمل كما فهمه سليمان الذي علمه الله لسان النمل ، ولكن لا أحد غير الله ثم النمل وسليمان يعرف بأي لسان وبأي لغة تكلم النمل ، وهو أيضا من باب العلم الذي لا ينفع والجهل الذي لا يضر ، ولذلك سكت عنه رب العزة سبحانه وتعالى.
أما تعليمه سبحانه وتعالى لآدم (الأسماء كلها) ، فهذا علم يتخطى حدود اللغة ، إلي رحابة كيفية إستخدام اللغة ، وهي إستخراج الأسم من عين المسمى ، ومن يتابع الآيات يمكنه فهم ذلك بسهولة ويسر فالله سبحانه وتعالى يقول " وعلم ادم الاسماء كلها ثم عرضهم على الملائكة فقال انبئوني باسماء هؤلاء ان كنتم صادقين(31) قالوا سبحانك لا علم لنا الا ما علمتنا انك انت العليم الحكيم(32) قال يا ادم انبئهم باسمائهم فلما انباهم باسمائهم قال الم اقل لكم اني اعلم غيب السماوات والارض واعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون(33) [سورة البقرة] ، لما يقول سبحانه (انبئوني بأسماء هؤلاء) وهؤلاء اسم إشارة يعود على الأشياء التي سألهم رب العزة أسماءها ، يفيد أن هذه الأشياء كانت معروفة للملائكة من قبل ولها تعريف فيما بينهم ، ولكن الملائكة لا تستطيع الاستنباط وإستخراج الإسم من عين المسمى بتتبع صفات المسمى ، وهذه كانت لآدم منحه الله إياها ، فتعليمه الأسماء كلها يعني تعليمه إستخراج الاسم من عين المسمى ، وعلى هذا النحو فإن هذا العلم يتخطى حاجز اللغة التي كان يتكلم بها آدم إلي أي لغة أو لسان بشري من أبناء آدم ونسله ، وهو علم قد أودعه الله الإنسان يمكنه من إستخراج الأسماء من عين مسيمياتها فكلما أكتشفوا شيئا وضعوا له أسم.
اللغة القصدية واللغة الاعتباطية:-
قال بعضهم أن لغة القرآن هي لغة قصدية بمعنى أن كل حرف في القرآن في مكانه ووضعه له قصد ولم يأتي إعتباطا ، أما غير القرآن فهي لغة اعتباطية ، ولأنها لغة قصدية فلا ترادف فيها ولا مجاز ، وهنا وقعوا في إشكالية كبيرة وهي إذا كانت كل لغاتنا حتى لسان قوم النبي إعتباطية ، والقرآن وحده لغته قصدية فكيف نفهم القصدي بإستخدام الاعتباطي ، كما يجب أن نسأل وكيف نفسر قوله سبحانه (بلسان قومه) ، وقد وجدوا ضالتهم المنشودة في وجود أكثر من معنى لكلمة عربي ، فسلخوا عنها معناها على أنها (إسم) للغة من اللغات وهي اللغة العربية ، وأبقوا على معناها بأنها (صفة) تفيد الإعراب عن النفس والوضوح والبيان ، ولكن هذا لم يخرجهم من إشكالية (لسان القوم) كما أنهم أوقعهم في إشكاليات أخرى كثيرة في محاولة تطبيق فهمهم على النصوص نصا بنص.
وعندي أن هذا الإشكال حدث لأنهم خلطوا في مفهومهم بين (اللغة) وبين (طريقة إستخدامها) ، فلا يمكن أن نطلق على اللغة أي لغة بمختلف ألسنتها (قصدية) أو (إعتباطية) ، ولكن نطلق على طريقة إستخدام اللغة (قصدية) و(إعتباطية)
فلو تمتم مجنون بكلمات لا معنى لها فإن هذا هو الاعتباط في إستخدام اللغة ، أو حتى تكلم بلسان قومه ولكن جمل غير مركبة ولا يفهم منها شيء ، كأن يقول أحدهم (سوف أحرك جيوش العالم لحرب الفضاء الخارجي والداخلي معا) فهو هنا يستخدم لسان عربيا وكلمات مفهومه ولكن وضعها ورصها بجوار بعضها يبين الاعتباط في إستخدام اللغة.
أما أن أقول لك (أعطيني كوب ماء) فهو إستخدام قصدي للغة ، ويختلف الوضع لو قلت لك (أريد زجاجة ماء) ، كما يكون مختلفا لو قلت لك (أريد شربة ماء) أو (أعطيني ماء) ، ويختلف المعنى في كل مرة ، ويكون المعنى المفهوم هو المعنى المقصود ، وهذا هو عين القصدية ، والقرآن الكريم كتاب رب العالمين ، إستخدم اللغة (اللسان العربي) بطريقة قصدية في كل كلمة وحرف ولا يمكن إستبدال حرف مكان حرف أو كلمة بكلمة ، ولكن يجوز عند التفسير لتقريب المعنى إستخدام مترادافات مع وجوب ذكر لماذا إستخدم الله هذا اللفظ ولم يستخدم ذاك؟ وهنا نعود لقاعدة أن الوصف أوسع من الصفة وأن التفسير أوسع من النص.
وبذلك فلا ضير أن نفهم القرآن وفقا لسياق النص بأداة القرآن وهي لسان الرسول عليه الصلاة والسلام ، أي اللغة التي كان يتكلمها الرسول مع قومه ، ولا نكون قد حكمنا قواعد الاعتباطية على القصدية كما يفهمون ، بل نكون طبقنا قواعد اللغة بما فيها من ترادف ومجاز ومواطن جمال من إستعارة وتشبيه وبلاغة في فهمنا للقرآن ، الذي إحتوى على كل مواطن الجمال والبلاغة في اللغة العربية (لسان النبي وقومه) ، وهذا الأسلوب أقوم وأفضل وأصح في فهم القرآن من وصف اللغة وقواعدها بالاعتباطية ، ثم محاولة تبرأة القرآن من هذا الوصف بجعل لغته وحده (قصدية) ثم نعاود تفسير الآيات على هذا الوضع فتكون النتائج شاذة من مثل (الحوت) هو (السفينة) ، ويعقوب ليس هو إسرائيل ، وأهل الكتاب ليسوا هم اليهود والنصارى ، وهلم جر
وقال البعض بوجود مدلولات فزيائية للحروف التي تتكون منها الكلمات القرآنية ، ونفهم معنى الكلمة من مجموع دلالاتها الفزيائية ، ونقول له مشكورا ولكن أنت تستخدم لفظ أعجمي (فزياء) ىفي وضع نظرية للكلمات العربية ، فهل عجزت عن إستخراج معنى لكلمة (فزيائي) من الألفاظ العربية ، فإذا لم تجد فلماذا لا تستخدم طريقتك في إختراع كلمة عربية بالحروف العربية وفقا لمدلولها (الفزيائي) لتعطي نفس المعنى ، فلو قال لا أجد فيكون قد هدم نظريته من أساسها ، ولو قال نعم يمكنني ولكنه سيكون لفظا غريبا لن يعرفه غيري سيكون هذا هو التخريف بعينه ، ويكون أيضا قد هدم نظريته من أساسها ، فنظرية في اللغة لا يمكنك أن تدلل عليها من كلمات نفس اللغة أحرى بتركها ، وهي تمثل قمة الاعتباط وهرم التخريف
وأخيرا فأقول لكل الإخوة الأفاضل الذين أبحروا في هذا الاتجاه ، اتقوا الله في أنفسكم أولا ، وفي دينكم وفي أخوانكم ، وعودوا عن هذا الطريق الوعر الذي نهايته الضلال حتما ، هدانا الله وايكم لما يحب ويرضى ، ألا هل بلغت ، اللهم فاشهد
شريف هادي

اجمالي القراءات 16928