مهرجان الدوحة الخطابي

نبيل شرف الدين في السبت ١٧ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

لم يكن ينقص الاجتماع التشاوري في قطر، أو بالأحرى "مهرجان الدوحة الخطابي"، سوى أن يدعو القائمون عليه حسن نصر الله وأسامة بن لادن وأيمن الظواهري، حتى يستحق بجدارة صفة "كارتيلات" المناضلين من جيوب الآخرين والمجاهدين بدماء البسطاء، ولعل إطلالة واحدة على المدعوين سنكتشف ببساطة أن من بينهم مطلوبين للمحاكم الدولية، وآخرين متهمين في قضايا اغتيالات، أو متورطين في جرائم تطهير عرقي ضد شعوبهم، ناهيك عن مغتصبي السلطة عبر الانقلابات.
وأخيراً ه&Ccring;اهو مهرجان الدوحة يلتئم وينفض، وقد تصدر سمو أمير قطر المنصة، وتبارى الأسد والبشير ونجاد وغيرهم في إلقاء الخطب النارية، وجلس أصحاب السمو والفخامة مع "شلّح" و"مشعل" وبقية أمراء الحرب، الذين لا يكفون عن ممارسة السمسرة السياسية، من خلال استثمار دماء الضحايا في غزة لحصد مكاسب تارة لمنظماتهم الإرهابية، وتارة أخرى بالوكالة عن أنظمة مأزومة مثل إيران وسورية والسودان وغيرهم، ودائماً لصالح بقائهم في صدارة المشهد كزعماء يشار لهم بالبنان، ويقيمون مع أسرهم بفنادق النجوم الخمس، بينما يدفع فقراء غزة الثمن من دمائهم وقوت أبنائهم وأمنهم وأبسط حقوقهم الإنسانية.
ولعل السؤال المزعج هنا عما الذي يمكن أن تقدمه قطر لأهالي غزة، خلافاً للمكرمة الأميرية التي وعد بها، والتي ستصب لصالح منظمة "حماس" وبالتالي ستبقى "ملايين الأمير" الموعودة رهينة بقرار أمراء الحرب، الذين سيوزعونها بالطبع على أنفسهم وأتباعهم، مع هامش للمضحوك عليهم والضالين، ممن قد يلفون خواصرهم بالأحزمة الناسفة، مع وعد بالفوز بسبعين من الحور العين.
نسيت أيضاً الإشارة لقرار "تجميد" أنشطة المكتب الإسرائيلي في الدوحة، والحقيقة أنني لا أفهم لماذا كان هناك أساساً مكتب للتمثيل الإسرائيلي في الدوحة، خاصة أن قطر ـ كما تؤكد حقائق التاريخ والجغرافيا ـ لم تكن يوماً في مواجهة مع إسرائيل، ولماذا لم يمتد الأمر إلى حد "إغلاق" قاعدتي "العديد" و"السيلية" اللتين تنطلق منهما طائرات (F 16) حاملة القنابل الارتجاجية التي دكّت غزة وتواصل تدميرها، وهنا يبدو سلوك الدوحة السياسي بالغ التناقض إلى حدٍ يستعصي على الفهم.
فما معنى أن تحتضن قطر القيادة العسكرية الوسطى ـ وهي أكبر قاعدة أميركية في الخارج ـ بينما تحتضن في نفس الوقت قادة تنظيم "الإخوان المسلمين"، بدءاً بالشيخ يوسف القرضاوي، الذي منحته جنسيتها، التي سبق لها أن سلبتها من قبيلة كاملة تضرب بجذورها في المكان والزمان، وصولاً إلى معظم العاملين في شبكة "الجزيرة" الفضائية، والتي أصبحت الآن واحدة من أهم إدارات الخارجية القطرية وأقوى أدواتها في ممارسة الضغوط، وتجييش مشاعر الغوغاء.
وما معنى أن تواصل قطر التنسيق الأمني والاستخباراتي مع إسرائيل، في وقت تُصّر فيه على دعوة "الحابل والنابل" لقمة طارئة، بينما تعمل آلة الدبلوماسية العربية بكامل طاقتها في القاهرة والكويت والرياض وداخل أروقة مجلس الأمن، وتتأهب الكويت لاستقبال القادة العرب في قمة جرى الإعداد لها منذ مدة طويلة، ولماذا لم يحملوا ما لديهم من آراء لقمة الكويت بدلاً من إقامة عدة مآتم لجنازة واحدة، لكن ما حدث أن رجل الدوحة القوي الشيخ حمد بن جاسم بن جبر، أمسك بتصريح غير محسوب لأحد الدبلوماسيين قال فيه: إن الوضع في غزة ستجري مناقشته "على هامش" قمة الكويت، وعلى الفور انطلقت آلة "الجزيرة" الفضائية لتعيد وتزيد و"تلت وتعجن" على طريقة "إمساك الكلام من شواشيه" كما يقال في صعيد مصر، لمن يقتنص لفظاً ويبتسره من سياقه لإثبات صحة نتيجة وضعها مسبقاً.
إذن فقد حضر "شلّح" و"مشعل"، وغاب "أبو مازن"، وأخشى أن هذا الوضع غير المبرر لن يعمق الانقسام الفلسطيني بتجاوز الدور التاريخي لمنظمة التحرير فحسب، لكنه أيضاً يدعم الانقلاب "الحمساوي" على الشرعية الفلسطينية، ويشكل إرهاصة مبكرة تبشر بقرب قيادة المنظمات الدينية المتطرفة لدول المنطقة، فإذا كانت "حماس" إحدى تجليات التنظيم العالمي للإخوان فهذا يدفعنا للتساؤل عن مصلحة الدوحة في تقديم كل هذا الدعم اللوجيستي لجماعات انقلابية، اللهم إلا إذا كانت رعاية الانقلابيين أصبحت "رسالة قطرية"، لسبب نفسي يتعلق بالوفاء للمنهج الذي حمل حاكمها إلى مقعد السلطة.
يضغط أمراء الحرب في "حماس" على الحروف وهم يخوضون في شؤون السياسة بقعقعة خطباء المنابر عن "العدو الصهيوني".. طيب آمنا بالله، إذا كان "عدواً" فهل تتوقعون منه أن يرشكم بماء الورد؟، ولماذا نحسن الظن بمن نصفهم بالأعداء ونتوقع منهم أن يكونوا رحماء عمن يقدمون أنفسهم باعتبارهم "المجاهدين في سبيل الله"، ورغم ذلك يتشبثون بالسلطة غير مكترثين بدماء الأبرياء، الذين لا ناقة لهم ولا بعير في ما يعشش في عقول "أمراء الحرب" من أوهام وترّهات وحسابات معقدة مع هذه العاصمة أو تلك.
مازالت التساؤلات تعتصر رأسي: ما الذي ستجنيه دولة في ظروف قطر الجغرافية والسياسية من وراء كل هذا الدعم المجاني للقوى الراديكالية في المنطقة، من دويلة "حزب الله" اللبنانية إلى إمارة "حماسستان" الغزاوية، وصولاً إلى الاحتفاء بـ"عصبة المأزومين"، ممن تحكمهم ذهنية المنظمات السرية، والمثير للدهشة أنهم من مشارب شتى لم يكن يخطر بالبال أن يجتمعوا تحت سقف واحد، دوغما اليسار والقوميين الفاشيست جنباً إلى جنب مع أخبث نماذج اليمين الديني المتعصب، وقد وجدوا أنفسهم فجأة في خندق واحد، برعاية قطرية كريمة..
الرسالة باختصار هي.. أن العالم لم يعد يتسع لمثل هذه المنظمات الإرهابية الخرقاء، ولا لمن يؤيدها، ولا حتى لمن يصمت على ممارساتها.
والله غالب على أمره

اجمالي القراءات 9470