إللي اختشوا ماتوا
إللي اختشوا ماتوا

نبيل شرف الدين في الأربعاء ٠٧ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

"صحيح اللي اختشوا ماتوا".. الأمثلة الشعبية ليست مجرد لغو أو أقوال طريفة، بل هي حكمة شعوب، وخبرات إنسانية تراكمت عبر القرون، خاصة لدى شعب عجوز كالمصريين، وينطبق هذا المثل تماماً على المشهد العربي الراهن، الذي يبدو عبثياً ومأساوياً لحد الفكاهة، من باب "شر البلية ما يضحك"، وتعالوا نتأمل جانباً مما يجري الآن، ولنحتكم في النهاية للعقول، إذا كانت هناك ثمة عقول لم تزل في الرؤوس.
ـ قادة دول الخليج يجتمعون في مسقط وسط أجواء مخملية تحيط بهم كل مظاهر الرفا&adil;هية والنعمة، اللهم لا حسد، يناقشون آثار الأزمة المالية العالمية على اقتصادياتهم، وإطلاق العملة الخليجية الموحدة، ولا بأس بتصريح هنا أو هناك، يؤكد التعاطف مع أهالي غزة، ويناشد ـ لا أدري يناشد من بالتحديد ـ وقف الغارات الإسرائيلية عليها، وهذا بالطبع من باب "ذر الرماد في العيون وسد الذرائع".
ـ وفي سورية ينظم حزب البعث وجنرالاته مظاهرات عارمة يحشدوا فيها الآلاف ضد ما يطلقون عليه "تواطئ مصر على غزة"، لكن "طوبة" واحدة لم تنطلق صوب الجولان المحتل فهي أكثر الجبهات هدوءاً واستقراراً منذ نحو نصف قرن، ومسؤولو دمشق يعلنون "تعليق" المفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل.
ـ أحد أنجال العقيد الليبي ينتقد مصر بضراوة، ويتهمها بما يعفّ المرء عن ترديده من عبارات قبيحة، في نفس اليوم الذي كان والده "المفكر الثوري"، يستقبل أول سفير أميركي في ليبيا، بعد أن بدد ثروات بلاده في ممارسات عبثية كدعم حركات الإرهاب في كل أصقاع الأرض، مادامت تعادي أميركا أو حتى تزعم ذلك زوراً وبهتاناً.. وكما يقول المثل الشعبي "رزق الهبل على المجانين".
ـ وحتى في اليمن التي ارتوى ثراها بدماء المصريين ليساعدوا أهلها على الإطاحة بحكم أئمة القرون الوسطى، يقتحم بعض الغوغاء والدهماء القنصلية المصرية في عدن، كما يخرج عبر شاشات الفضائيات الشيخ الزنداني بلحيته الشهيرة المصبوغة بالحناء، مطالباً بتأسيس معسكرات تدريب وتطوع لإرسال الشباب للقتال في غزة، وبالطبع فإن هذا مجرد كلام فارغ و"طق حنك"، ولن يتحقق أبداً على أرض الواقع.
ـ وفي لبنان واصل الملا حسن نصر الله اختطاف بلده الذي ظل طيلة قرون منصة لإطلاق الحريات في المنطقة، ليحوله إلى حديقة خلفية لرفاقه ملالي طهران وجنرالات دمشق المتكرشين، ولم يتوقف عند حدود الجنوب والضاحية بل ساقته أوهامه إلى المكان الخطأ وهو مصر، ليحرض شعبها وجيشها في خطاب فجّ اتهم فيه مصر بالتخاذل والتآمر وغيرها من التهم الخرقاء، ولا يفهم المرء لماذا لا ينتهز الملا نصر الله الفرصة ليطلق صواريخه صوب إسرائيل ليحرر "مسمار جحا" المسمى "مزارع شبعا"، أو ليساند حلفائه في تحرير الجولان؟، أم أن سماحته لا يجيد سوى الجهاد بالوكالة من "كيس" الآخرين؟
ـ أما ما حدث في معبر رفح فهو مهزلة مكتملة الأركان، فمنذ العام 1973 حتى الآن، لم يحدث أبداً أن ألقى إسرائيلي حجراً على حدود مصر، بينما سقط عدة ضباط وجنود مصريين بين قتيل وجريح برصاص مجاهدي حماس والجهاد الإسلامي وكتائب "أبو رجل مسلوخة"، وبالطبع في كل مرة يخرج الجناح السياسي لهذه الفصائل ليقلل من شأن الأمر، ويعتبره مجرد "حادث عارض"، لا ينبغي أن نتوقف أمامه طويلاً كأن الذي قتلوا مجرد "قطط ضالة"، وليسو من أفضل وأنبل أبناء مصر المكلفين بحراسة حدودها.
بعد كل هذا يخرج علينا "زعيط ومعيط ونطاط الحيط" ليتهموا مصر بالتخاذل والتورط والتآمر وكل الأفعال القبيحة، ويتشدق مناضلو الخمس نجوم في بيروت والشام ليسدوا النصائح لمصر، بأن تفتح حدودها وتقطع علاقاتها مع إسرائيل، وتلغي اتفاقية السلام، ومع ذلك يزعمون أنهم لا يطالبون مصر بالتورط في الحرب، ولا يفهم المرء لماذا يستخف هؤلاء بعقول الناس، فهذه الإجراءات في مجملها تعد إعلان حرب صريحاً وبصراحة شديدة و"على بلاطة"، فإن مصر لن تحارب مجدداً إلا دفاعاً عن أراضيها، وهذا بالمناسبة ليس مجرد رأي شخصي، إنما هو خيار الغالبية الساحقة للمصريين، ومن شاء أن يتحقق من صحة ذلك فليسأل البسطاء في الشوارع، وليس هؤلاء المرتبطين بأجندات ومصالح.
ألم أقل لكم من البداية.. "صحيح اللي اختشوا ماتوا".
.........
"وكأن لم يكن بين الحجون إلى الصفا أنيسٌ.. ولم يسمر بمكة سامر"، فهاهم الأعراب يعودون لممارسة "الولولة والنحيب" على مشاهد تدمي القلوب فعلاً، لكن لا يجهد أحد نفسه بالسؤال عن سبب تصعيد الأمور لهذا الحد، ويخرج علينا المأزومون والمغيبون بفعل مخدر الأيديولوجيا والمعتقدات الضالة، ليقولوا إن هذا "ليس وقته"، لكن بصراحة شديدة هذا هو وقته، وليس أي وقت آخر، فمن لا يفكر بعواقب الأمر ويندفع بجنون نحو نهايته المحققة ونهاية كل من معه، لا ينبغي أن نتسامح معه بطريقة "عفا الله عما سلف"، فلا يحق ـ مثلاً ـ لقائد الطائرة أن ينتحر ومعه مئات الركاب الذين لا ذنب لهم في أمراضه النفسية وأوهامه.
وبكل بصراحة علينا في مصر أن نعيد حساباتنا حيال منهج التعاطي مع هذا "الفيلم الهابط"، إذ يبدو أن كافة الأطراف المشاركة فيه لا تريد أن تضع نهاية له لأنهم باختصار مستفيدون، فإذا انتهت الحروب والصراعات وعاشت المنطقة في سلام، وحينذاك على أي أساس يمكن لإسرائيل أن تجمع التبرعات من هنا وهناك، وبأي مبرر يؤنب الفلسطينيون العرب والعجم متهمين إياهم بالتخاذل عن مساندتهم بالأموال.
وأرجو ألا يفهم البعض أن هذه دعوة لتتخلى مصر عن مساعدة الجميع، لكن كما يقول المثل الشعبي المصري: "إللي يحتاجه البيت يحرم على الجامع"، فلننكفئ على همومنا وأزماتنا الداخلية ـ وما أكثرها ـ فتراثنا مع القضية الفلسطينية بالغ المرارة منذ النكبة حتى حرب حماس الدائرة الآن، وللأسف يدفع ثمنها البسطاء الذين يتخذهم أشاوس حماس دروعاً بشرية، لتحقيق أوهامهم العقائدية المريضة بإعادة ما يسمى "الخلافة الإسلامية" انطلاقاً من غزة، بدلاً من الانكفاء على قضيتهم لتحرير بلادهم وإقامة دولتهم.
والشواهد على "الحصاد المرّ" لمصر أكثر من أن تحصى، ولن تكون آخرها حملة الكراهية المفرطة في بشاعتها ضد مصر والمصريين، التي وصلت لحد استهداف السفارات وقتل الجنود والضباط المصريين على الحدود كأن مصر هي التي تقصف غزة وليست إسرائيل، وكأن مصر لم يبح أصوات ساستها وكتابها مطالبين منظمة حماس المتأسلمة بالقراءة السياسية الصحيحة للمشهدين الدولي والإقليمي، فما كان يصلح لإدارة الحركات المسلحة، ليس هو ذاته ما يصح لإدارة شؤون الدول ورعاية مصالح الناس، لكن لا حياة لمن تنادي، فقد ظل مشايخ "حماس" مصرين على الجعجعة بذات اللغة المنبرية العاطفية المتشنجة.
ويبدو ـ والله أعلم ـ أن شيئاً كبيراً لم يتغير في صلة مصر بالقضية الفلسطينية اللهم إلا في التفاصيل، فمثلاً حين اختلفت مصر مع أجندة منظمة التحرير الفلسطينية لم يأت مناضلوها للحوار، بل أداروا الخلاف بطريقة بشعة فاختطفوا طائرة مصرية، وقتلوا الأديب الكبير يوسف السباعي.
وحين حاربت مصر عام 1967 وهزمت، قالوا حينها "ضيع المصريون أرضنا" وحين حاربت في 73 وانتصرت، أكدوا أنه لم يكن نصراً ولا من يحزنون، وأنها كانت حرباً مصرية تستهدف "التحريك لا التحرير"، وهناك عشرات وربما مئات المقالات والكتب توثق لتلك المقولات.
وحين أبرم السادات اتفاقية السلام مع إسرائيل، مدفوعاً بإدراكه السياسي البعيد وقراءته للمشهد الدولي مبكراً، وتأكيده أن 99% من أوراق اللعبة بيد واشنطن، كانت الطامة الكبرى، ونحمد الله تعالى أنه لم يكن بيد الإخوة الفلسطينيين أسلحة دمار شامل، وإلا لكانوا قصفوا مصر بها، وعاقبوها على "قرار سيادي" يخصها وحدها، وليس من حق "الغرباء" التدخل فيه بتقويمه، أو انتقاده، فهذا شأن مصري خالص، فهي التي حاربت، وقدمت مئات الآلاف من الشهداء، واحتملت سنوات سوداء من حقبة "لا صوت يعلو فوق صوت المعركة"، لا أعادها الله، وهي التي وقعت اتفاق السلام وارتضته وتلتزم به لأنها دولة مهمة، وليست "عصابة" أو "منظمة إرهابية".
وحين اتفقت السياسة المصرية مع السلطة الفلسطينية واختلفت مع الفصائل حول طريقة إدارة الصراع، شاهد الملايين علم مصر يحرق جنباً إلى جنب مع علم إسرائيل، ويدهس بالأقدام، وهو ما لم يفعله الإسرائيليون حتى في أثناء زمن الحروب بين البلدين.
وحين ذهب وزير الخارجية المصري السابق أحمد ماهر ـ في مهمة لإسرائيل وحدثته النفس الأمارة بالسوء ـ وهو الدبلوماسي السبعيني الذي يتصرف كأي مصري بسيط متدين ـ أن يصلي ركعتين في الأقصى، كانت "النعال" بانتظاره، بعد حزمة شتائم من نوع "الخائن، وزير خارجية الدولة الخائنة"، ومع ذلك يبدو أننا ـ في مصر ـ حقاً لا نتعلم، ولن نتعلم.. فمن لم تعلمه "النعال" لن تعلمه غيرها.
والله المستعان

اجمالي القراءات 11425