درس غزة.. وفرصة مصر
درس غزة.. وفرصة مصر

نبيل شرف الدين في الثلاثاء ٠٦ - يناير - ٢٠٠٩ ١٢:٠٠ صباحاً

درس غزة.. وفرصة مصر

  بقلم   نبيل شرف الدين    ٦/ ١/ ٢٠٠٩

اشتدى أزمة تنفرجى، فمن قلب المأساة يمكن أن يبزغ بصيص الأمل، ولعل أبرز دروس «محنة غزة» التى ينبغى أن يتعلمها صانع القرار المصرى، هو أن احتواء الحركات المتأسلمة أو حتى مجرد التعايش معها، هو المستحيل بعينه، ليس فقط لأن العالم لم يعد يتسع لمنظمات تتنفس القمع، وتؤمن ب&Ccedirc;ؤمن بالإرهاب البدنى والفكرى كعقيدة، بل أيضاً لأنها تسهم فى إغراق الأمم واختطاف قضاياها، وتوفير المبررات لأعدائها، دون أدنى اكتراث بأرواح أبنائها وأرزاقهم وأمنهم، فالمهم أن تبقى جاثمة على مقاعد السلطة بأى ثمن.

«إن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن»، لهذا أتصور أن ينتهز صانع القرار الفرصة لإعادة التنظيمات المتأسلمة لمكانها الصحيح خارج الحلبة العامة، فهذه الجماعات يفترض أنها «محظورة» ومع ذلك لها مقار وقادة يعلنون هويتهم عبر وسائل الإعلام، وهذا وضع غير مفهوم وغير مبرر، ولو كان الأمر لمجرد اتخاذ هذه الحركات «فزاعة» للغرب، فإن ذلك يبدو كمن يقتنى ذئباً لحراسة داره، لكن ما سيحدث أن هذا الذئب سيلتهم أطفاله قبل أن يأتى اللصوص المحتملون.

كانت روما هى العدو الأول للمسيحية، ولحظة أن أعلن الإمبراطور قسطنطين اعتناقها أصبحت نقطة تحول فى تاريخ البشرية، فالناس على دين ملوكهم، إذن فالمهم هو أن يقتنع «السلطان» بأن الدولة العصرية لا تحتمل مثل هذا الانتشار السرطانى لذهنية المنظمات السرية، ولا يمكن أن تتسق دولة القانون مع الأفكار الثيوقراطية من نوعية «تطبيق الحدود»، والدعوة لتأسيس ما يسمى بجماعات «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر»، فالدولة الدينية مستبدة بالضرورة، أما الدولة المدنية فليس من حق أحد فيها أن ينطق باسم السماء وهذا «الكود الحضاري» لايتوافق مع طبيعة الدولة الحديثة التى تقوم على احترام الدستور والقانون والمواطنة وغيرها من القيم الإنسانية التى صدعنا بالتشدق بها منظرو الحزب الحاكم دون مردود عملى.

ولو كان هناك احترام حقيقى للدستور والقانون، لما جاهرت جماعة «محظورة» كالإخوان بأن يكون لها مقر شبه علنى، على طريقة نكتة «المطار السري» الشهيرة، وأن تنظم المظاهرات فى كل مكان، ويحصد نشطاؤها عشرات المقاعد البرلمانية، ويحاجج منظروها بالديمقراطية، متجاهلين أنهم يريدون لعب كرة القدم بقواعد الملاكمة، فأبجديات اللعبة الديمقراطية تقتضى أن ننحى المعتقدات الدينية والنعرات الطائفية جانباً، ومجرد وجود جماعة تختطف الإسلام لنفسها، وفى مجتمع يلعب فيه الدين دوراً محورياً منذ فجر التاريخ، فهذا يعنى أن خللاً هائلاً سينسف العملية الديمقراطية برمتها، ويحولها لمجرد «ديكور».

أما إذا كان المانع من الإقدام على اجتثاث هذه المنظمات هو الخوف من ردود الفعل الشعبية، فهذا خطأ فى تقدير الموقف، فالنظام يواجه بالفعل حملة تشهير عاتية، تقودها تلك الجماعات وامتداداتها الإقليمية بالتحالف مع قوى راديكالية أخرى، قد تختلف معها فى كثير من منطلقاتها، لكنها تتفق فقط فى الإطاحة برؤوس الاعتدال، وقمع كل دعوة لإعمال العقل، وأى مسعى للانخراط فى علاقات متناغمة مع العالم.

يبقى موقف النخبة وهى التى تقود التغيير عادة وتمهد له الأجواء، وهنا يلزم التأكيد على أن الأمر لايحتمل المزايدات ولا المواقف الانتهازية التى طالما اتسم بها سلوك النخبة، فالوطن أمام «لحظة فرز» فاصلة، والجميع سيحاسبون على مواقفهم الراهنة، ولن تتفهم الأجيال الجديدة مبرراتهم.

لكن، وآه من لكن وأخواتها، أتصور أن نظاماً يفكر فى القضايا الإستراتيجية بالقطعة، ويكتفى بترحيل مشكلاته يوماً تلو الآخر، ولا ينظر لأبعد من موضع قدميه، لا يمكنه أن يقدم على خطوة حاسمة كهذه التى تجرأ عليها حكام شباب، مثل أتاتورك وبورقيبة وعبدالناصر وغيرهم، فالشيوخ مع احترامنا لحكمتهم وإقرارنا بفضلهم فيما قدموه، لكنهم يبقون نفسياً ضد التغيير، لأن ذلك يعنى انتهاء أدوارهم، وهو بالطبع أمر ثقيل على النفس البشرية، حتى لو كانت هذه هى سنة الله فى خلقه.

اجمالي القراءات 9655