محنة الليبرالية فى مصر
محنة الليبرالية فى مصر

نبيل شرف الدين في الأربعاء ٣١ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

بعيداً عن السقوط فى فخ نظرية المؤامرة، تبدو الشواهد كما لو كان ثمة اتفاق غير مدون بين الأطراف الثلاثة التى تتنازع الهيمنة على الساحة المصرية، ممثلة فى النظام الحاكم والتيارين القومى والإسلامى، على ضرب التيار الليبرالى، فكل منهم يحمل تراثاً شمولياً، ويتعاطى عادة مع أفكار جمعية مثل الأمة، الشارع، الجماعة، وبالتالى لا تؤمن بحق الفرد المستقل فى التفكير الحر، بل تضعه دائماً رهينة لضغوط الإرهاب الفكرى، والهوس بالمؤامرات الخارجية الوه&atildg;مية.

وبدا ذلك واضحا فى الزوبعة التى أثارها الأستاذ فهمى هويدى قبل مدة، حين تحدث عن الاختراق وهلل له فى حينها قوميون وإسلاميون وحكوميون، وهم لايتفقون إلا على أمور قليلة، فى صدارتها ضرب التيار الليبرالى فى مصر، ووصمه بأقبح النعوت.

وكالعادة استخدم أنصار التيارين القومى والإسلامى أسلحة غير مشروعة كالتكفير والخيانة وطرحوا أحكاماً عامة رافضين أى موقف عقلانى هادئ، متذرعين بما يسمونه ثوابت وطنية تارة، وقيماً اجتماعية تارة أخرى، لينفذوا عملية اختطاف كاملة للوطن، معتبرين أنفسهم وكلاء عن ملايين الناس فى اتخاذ قرارهم وتحديد مصائرهم، فى مسلك يشكل وصاية فجة على الجميع.

ولا يتسع المجال للاستغراق فى معضلات نظرية كمفهوم الليبرالية وتراثها فى الغرب والشرق، بل سنكتفى بالإشارة إلى أنها ليست خبرة غريبة عن المجتمع المصرى، بل تمتد جذورها لثورة ١٩١٩ على أدنى تقدير، وما كادت تتبلور هذه التجربة فى منتصف القرن العشرين، حتى انقض عليها الانقلاب الذى يحلو للبعض تسميته «ثورة يوليو»، ليجهضها فى مهدها، ويقضى على طبقة سياسية كاملة، لا يجرؤ المنصف على اتهامها بأنها كانت أسوأ من تلك التى أفرزها الانقلاب، والتى نجنى ثمارها الآن، فمن يحكمون مصر اليوم ما كانوا ليصلوا لسدة الحكم لولا نجاح الانقلاب فى السطو على مقدرات البلاد والعباد.

ويمكن للمرء أن يزعم بضمير مرتاح أن الليبرالية هى الخيار الذى يكفل التنوع، ويؤمّن الطمأنينة لكل عناصر المجتمع، فالليبرالية كالبستان الذى يتسع لجميع الزهور والأشواك، ولا يسمح لأى فصيل دينى أو أيديولوجى باختطاف المجتمع، والتدليس على الناس بمزاعم مثل تلك التى بشرت بها حركة ١٩٥٢، التى لم تحقق هدفاً واحداً من حزمة الأهداف التى حددتها لنفسها، بدءاً بالعدل الاجتماعى، ووصولاً إلى التحرر الوطنى، بل ما حدث هو العكس، إذ تدهورت الأوضاع الاجتماعية عما كانت عليه فى الحقبة الليبرالية، وذاقت مصر مرارة احتلال جزء من أراضيها.

ولو أُجرى استطلاع نزيه لرؤى الأطراف المحتقنة فى الجسد المصرى، والمجموعات التى ارتفع صوتها بالشكوى من التمييز ضدها، كالأقباط والبدو والنوبيين وغيرهم، لاختاروا الليبرالية ودافعوا عنها دفاعهم عن وجودهم وهويتهم، لأنها تكفل لهم ضمانات مهمة، مثل الفرص المتكافئة والاطمئنان على هويتهم من القمع الاجتماعى، وتزيح عن كواهلهم مخاطر المناخ المعادى الذى بات يحاصرهم ويهدد مستقبل أبنائهم.

أما المؤسف فى هذا السياق فهو أن الدولة المصرية تؤكد على ألسنة القائمين على أمورها، أنها تسعى للإصلاح والتنمية، ومع ذلك تدفع باتجاه إقصاء التيار الليبرالى بكل ما أوتيت من قدرة على البطش والتنكيل، لدرجة دفعت كل الوجوه المحترمة للانزواء والانكفاء على مراراتهم أو الانشغال فى هموم ذاتية، بينما اتسعت الساحة للمنافقين والتافهين ومحدودى الموهبة، وضعاف النفوس والقدرات للتصدى للشأن العام، ويغرق الشارع فى بحر من الجهل والتعصب، وتستحوذ عليه روح العبث والعدمية.

لكن على الرغم من هذا المشهد القاتم فإن ثمة ضوءاً يبدو فى آخر النفق، يبشّر بأن تيار الليبرالية يتنامى ويخرج للعلن معبراً عن نفسه بوضوح، وقد حسم خياراته، فلم يعد مضطراً للاختباء تحت أى مظلة أخرى، فالليبرالية تعتبر الحرية الهدف والوسيلة فى حياة الناس، وهى المنظومة الفكرية الوحيدة التى لا تطمح لشىء سوى تحرير النشاط البشرى من أى شبهة إرهاب فكرى أو جسدى.

اجمالي القراءات 11665