لماذا جاكرتا وإسطنبول قبل القاهرة؟
لماذا جاكرتا وإسطنبول قبل القاهرة؟

سعد الدين ابراهيم في السبت ٢٧ - ديسمبر - ٢٠٠٨ ١٢:٠٠ صباحاً

أثار مقالنا عن الزيارة المُرتقبة لباراك أوباما لإحدى العواصم الإسلامية امتعاض واعتراض عدد من القرّاء المصريين، وبينهم أصدقاء أعزّاء من الدبلوماسيين والعسكريين السابقين والأكاديميين ورجال الأعمال، والذين تصادف مُشاركتهم معى فى أحد المؤتمرات الدولية فى عاصمة أوروبية. وكان نفس المقال قد ظهر فى نفس اليوم السبت ٢٠/١٢/٢٠٠٨ فى كل من «المصرى اليوم» القاهرية، والـ«واشنطون بوست» الأمريكية.

وكان الاعتراض أو الامتعاض لدى بعضهم هو لا بسبب مُحتوlig;ى المقال. ولكنه كان لدى الجميع بسبب نشره باللغة الإنجليزية فى الـ«واشنطن بوست». ولأن هذه ليست المرة الأولى التى يحدث فيها هذا التحفظ على ما أنشره خارج مصر والوطن العربى بلغة أجنبية، فإننى رأيت إشراك قُرائى فى الجدل والحوار حول هذا الموضوع، أى جواز التعبير عن الرأى، بأى لغة، وفى أى مكان.

وبداية، نذكّر القرّاء بمحتوى المقال الذى أثار هذه الزوبعة. بدأ المقال بإشارة إلى رغبة الرئيس الأمريكى المُنتخب باراك أوباما، فى زيارة عاصمة أحد البُلدان ذات الأغلبية المُسلمة، ليوجّه منها خطاباً للمُسلمين فى العالم، خلال المائة يوم الأولى من بداية رئاسته، يوم ٢٠/١/٢٠٠٩.

وطلبت منى ثلاث جهات على صلة وثيقة بالرئيس الجديد أن أقدم توصياتى بشأن أجندته العالمية إجمالاً، والعالم الإسلامى والشرق الأوسط خصوصاً. وكانت أولى هذه الجهات هو الرئيس الأسبق جيمى كارتر، فى أطلانطا (١-٣/١٢/٢٠٠٨)، والذى يجمعه بالرئيس المُنتخب انتماؤهما لنفس الحزب.

أما ثانية هذه الجهات فهى معهد بروكينجز بواشنطن (١٢/١٢/٢٠٠٨)، وحيث كانت تعمل د. سوزان رايس، والتى ينوى باراك أوباما تعيينها، مندوبة له وللولايات المتحدة فى هيئة الأمم المتحدة. ثم كانت ثالثة هذه الجهات هى أحد فرق العمل المُشتركة من جامعات استانفورد وكاليفورنيا وبرنستون (١٣-١٥/١٢/٢٠٠٨).

 وجاء مقالي، المُشار إليه أعلاه، بعد خمسة أيام من آخر اجتماعاتى مع هذه الأطراف الثلاثة، والتى أدليت فيها بدلوى شفوياً وكتابياً. وقد لخّصت فى المقال رأيى فى واحدة فقط من المسائل التى طُلب الرأى فيها وهى ترشيح العاصمة أو المدينة الإسلامية التى يبدأ بها باراك أوباما، ومُبررات هذا الترشيح.

ورغم أن القاهرة كانت ضمن القائمة، إلا أننى رشّحت جاكرتا، ثم إسطنبول، أولاً وثانياً، ثم القاهرة ثالثاً. وقد ذكرت مُبررات الترشيح بهذا الترتيب فى المقال. وهي، أولاً، أن تكون تلك العاصمة أو المدينة فى بلد إسلامى رئيسى يكون نظام الحُكم فيه ديمقراطياً. وقد انطبق الشرطان على إندونيسيا وتركيا، فرشّحت جاكرتا وإسطنبول.

فإندونيسيا عادت إلى الديمقراطية منذ أكثر من عشرة أعوام، بعد ثلاثين عاماً من نظام الحُكم التسلطى للجنرال سوهارتو، وشهدت منذ ذلك الوقت ثلاثة انتخابات رئاسية تعددية، فى ظل مُراقبة دولية. وتشهد التقارير السنوية لـ«بيت الحرية» أن إندونيسيا بلد ديمقراطي.

 هذا فضلاً عن أنها أكبر البُلدان الإسلامية سُكاناً، حيث يصل عدد السُكان فيها إلى ما يقرب من مائتى مليون. وأخيراً، قلت فى تفضيل جاكرتا، إنها المدينة التى قضى فيها باراك أوباما طفولته، حيث عاش فى بيت زوج أمه الثانى، الذى كان مُسلماً إندونيسياً، بينما كانت هى تعمل فى مكتب مؤسسة فورد بجاكرتا. وبالتالى فإن زيارته إلى المدينة ستكون بمثابة عودة ابن عائد إلى مرابع الطفولة والصبا، وحيث كان قد ترك أصدقاء عديدين.

أما فى تفضيل اسطنبول، فهى أكبر مُدن تركيا، والعاصمة التاريخية للخلافة الإسلامية فى ظل سلاطين آل عُثمان، وعادت إليها الديمقراطية منذ عام ١٩٤٥، بعد حُكم نظام مصطفى كمال أتاتورك، الذى استمر نظام حزب واحد لحوالى رُبع قرن. ورغم عودة الجيش والحُكم العسكرى ثلاث مرات، إلا أن مُعظم العقود الستة، كانت الحكومات فيها ديمقراطية مُنتخبة، فى ظل مُراقبة دولية، ويُصنّف «بيت الحرية» تركيا ضمن بُلدان العالم الديمقراطية. ثم إن تركيا، تمتد بين قارتى آسيا وأوروبا.

 وفى هذا فهى جسر بين الشرق والغرب، وتضم أراضيها مضيقى البسفور والدردنيل، اللذين يربطان البحر الأسود شمالاً بالبحر الأبيض المتوسط جنوباً، ويحكمها فى الوقت الحاضر حزب العدالة والتنمية، ذو المرجعية الإسلامية، ولكنه يحترم تماماً مبدأ الفصل بين الدين والدولة، ويسعى لضم تركيا إلى الاتحاد الأوروبى. وفى ذلك كله فإن تركيا، مثلها مثل إندونيسيا، نموذج حى لدحض المقولة الزائفة عن تعارض الإسلام والديمقراطية.

 ثم إن البلدين بتوجّههما الحداثى، وعضويتهما فى منظمات إقليمية تضم بُلداناً وحكومات غربية، فإنهما يدحضان مقولة صاموئيل هانتجتون عن «صدام الحضارات». وقلنا إنه بهذا المعنى يستحق البلدان (إندونيسيا وتركيا) أن يُشرّفهما الرئيس الأمريكى المحبوب عالمياً، باراك أوباما، ويستحقان أن ينوّه بهما كقدوتين لبقية البُلدان الإسلامية، لكى تُبادر وتُسارع فى التحول إلى الديمقراطية.

ورغم جاذبية مُدن إسلامية أخرى لأسباب تاريخية واستراتيجية، مثل القاهرة، أو لاعتبارات روحية مثل مكة والمدينة والقدس والنجف، إلا أنها تقع فى بُلدان ذات أنظمة غير ديمقراطية. ومن شأن اختيار أوباما لها لأول زيارة، سيُعتبر كما لو كان دعماً لأنظمتها الاستبدادية. وأسوأ من ذلك ربما يُعتبر كما لو كان مُباركة لمُخططات التوريث فى بعضها.

ولأن إحدى جلسات المؤتمر المذكور كانت مُخصصة لبلورة توصيات للرئيس الأمريكى المُنتخب، وكُنت أحد المُتحدثين فى الجلسة، وعبّرت عن نفس الرأى المذكور أعلاه، وتزامن ذلك مع ظهور المقال فى «المصرى اليوم» تحت عنوان «جاكرتا وإسطنبول الآن.. والقاهرة ودمشق غداً»، وظهر فى الـ«واشنطون بوست»، تحت عنوان «أوباما يمد يده إلى المُسلمين»، فقد عاتبنى أصدقائى المصريون على تزكية مُدن أخرى على القاهرة.

من ذلك ما قاله أحد السُفراء السابقين: «كيف تُطاوعك نفسك على تفضيل أى مدينة أخرى على القاهرة، مقر الأزهر، منارة الإسلام والمُسلمين». سألته إذا كان الأمر مسألة منارات دينية، فليذهب الرجل إلى المنابع الروحية للإسلام، مثل مكة أو المدينة؟ سكت السفير لبرهة، ثم عاد ليقول «ولكن مصر.. هى مصر.. أم الدنيا»!.

وعاتبنى لواء سابق، من أبطال حرب أكتوبر «لماذا هكذا يا دكتور كلما أتيحت لك فُرصة فإنك تكتب أو تقول ما يستفزّ النظام فى مصر؟». قلت «يا سيادة اللواء.. إن مقالى ليس عن مصر، أو النظام فى مصر، ولكنه عن أوباما والمُسلمين». قال العسكرى المُحنك «أنت لا بد أن تُدرك أن أصحاب السوء سيصوّرون المقال كما لو كان هجوماً آخر عليه.. حيث إنهم يعتبرون مصر تعيش أحلى أيام الديمقراطية!».

وقال رجل أعمال آخر، «يا أخى حتى إذا لم يكن نظام الحُكم فى مصر ديمقراطياً.. أليس مٌفيداً أن يأتى أوباما إلى مصر.. ويُطالب بذلك فى القاهرة، فلعل وعسى أن يستجيب النظام.. ومن باب إكرام الضيف ربما يُفرج عن أيمن نور، ويُلغى حالة الطوارئ..

ويذبح عدة عجول يوزّع لحومها على الفقراء». قلت لرجل الأعمال: «لو كان صحيحاً أن النظام يستجيب لمطالبة مسؤولين أمريكيين، لكان قد استجاب حينما طلبت كوندوليزا رايس بذات السبب من على منبر الجامعة الأمريكية بالقاهرة عام «٢٠٠٥»!

وتطوع مُحام دولى مشهور بوصلة نفاق، زايد بها على كل الحاضرين. فقال إنه أثناء غيابى خارج الديار فى السنتين الأخيرتين، بدأ المصريون يُدركون قيمة النظام أكثر من أى وقت مضى، وهم الآن يُطالبون باستمراره مدى الدهر.. وسيتأكد أوباما من ذلك بنفسه لو جاء إلى القاهرة.. فلماذا تنكر على أوباما هذه الفرصة بدعوتك المُخزية أن يبدأ الرجل بجاكرتا وإسطنبول!؟».

وللأمانة من كل المصريين الذين عبّروا عن رأيهم فيما كتبته فى «المصرى اليوم» والـ«واشنطون بوست»، قال سفير آخر مُخضرم: إننا جميعاً نتفق معك فى تقييمك لغياب الديمقراطية فى مصر. ولكن وجه الاعتراض هو أن تكتب عن ذلك فى صحيفة خارجية، فلو اكتفيت بـ«المصرى اليوم»، لما اعترض أحد منا.. أما أن تنشر غسيلنا على الملأ، فهنا وجه الاعتراض.

فى نهاية الأيام الأربعة مع هذه النُخبة من المصريين التى جاءت لحضور المؤتمر، أيقنت أن مصر ما زالت على حالها، بخيرها وشرّها... حتى لو تغير كل العالم من حولها... فلا حول ولا قوة إلا بالله.

اجمالي القراءات 11793